جاءت مبادرة العاهل السعودي الملك عبد الله، حفظه الله، قبل نهاية شهر يناير الماضي، بدعوة الفصائل الفلسطينية المتصارعة إلى اللقاء في رحاب مكة وبيت الله الحرام، حدثا جسورا يستحق التأييد والتقدير من كل من استفزه المشهد الفلسطيني والمنطق العبثي العدمي الذي يدير الصراع بين الأشقاء في فتح وحماس، كما تأتي المبادرة بوصلة قوية نحو إنقاذ الوضع بالخروج من أجندة الحركة إلى أجندة الوطن.
انطلقت مبادرة خادم الحرمين الشريفين، بروح إسلامية وعربية أصيلة، كما وصفها الرئيس أبو مازن، ومن ضمير يقظ لا يفرط في واجبه تجاه الإخوة، في ظل مشهد عربي تخيم عليه ظلال الشلل والاحتراب الطائفي والحزبي، وتعثر جامد لمسار التسوية في الصراع العربي الإسرائيلي، يزيد من تعثره وجموده صراع الإخوة في الداخل الفلسطيني.
إن ما يحدث في الأرض الفلسطينية أشبه بالتيه، التيه الذي يجعل المقاومة لا تقاوم أعداءها بل تقتل أشقاءها، وتغدو فيه السياسة، والمطلبية السياسية تقف عند حصص الكراسي في حكومة محاصرة وشعب تحت نير الحصار منذ أكثر من عام.
تضرب هذه المبادرة على وتر الصدق الفلسطيني وتحرره من أي تدخل خارجي ملحة على ضرورة التوافق الوطني بين القوى الفلسطينية، دون تأثير من أحد لتجاوز هذه الحالة التي أكدها وصف خادم الحرمين الشريفين بانها وصمة عار في جبين المقاومة الفلسطينية على مدار عقود من النضال من أجل قضية الشعب الفلسطيني واستقلال أراضيه.
ينتظر أن يتمخض لقاء المجتمعين في مكة وفي رحاب بيت الله الحرام، عن وضع حد فوري لهذه المأساة التي تشوه قضيتهم العادلة، وصار حلها محل وعي أمريكي، حيث لا أمل في أي مساندة عربية للولايات المتحدة في العراق إلا عبر حل القضية الفلسطينية أولا.
آفة التحزب وجسور الثقة:
إن أول ما يحتاج المجتمعون لتجاوزه هو آفه التحزب، ونقصد بها ذلك التعصب الضيق والمقيت للحزب ومصلحته وتقديمه على مصلحة الوطن ككل.
فهذه الآفة لا تصنع استقلالا لوطن ولا بقاء لديمقراطية، وقد فشلت الأحزاب الكبرى في مصر بعد الثورة المصرية الكبرى سنة 1919 في تحقيق الاستقلال، لسيطرة آفة الصراع الحزبي على الصراع مع المستعمر، وساعد على دبيب الفساد في بناها الداخلية، وهو ما كان أقوى مبررات ثورة يوليو لحل الأحزاب بعد ذلك.
وثاني ما يحتاج المجتمعون لتجاوزه هو هاجس التشكيك والتفكير التآمري، حيث لم يصمد اتفاقهما على وقف إطلاق اننار أكثر من ثلاثة أيام، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بين كمين نصبه مسلحون يتبعون كتائب شهداء الأقصى، لقافلة تابعة لقوات الرئاسة راح ضحيته اربعة فلسطينيين في قطاع غزة، وهو ليس الاختراق الوحيد للهدنة بل سبقته اختراقات أخرى قائمة على هاجس الشك والمؤامرة.
إن ما نحتاجه من المجتمعين في مكة هو بناء جسور الثقة، على أرضية الوطنية، التي لا يصح احتكار أحد لها، فالتخوين هو مخاض الصراع الأهلي والاحتراب الطائفي والتكفير الوطني بل والديني، وهو يشتت الحوار العام ويعدم إمكانيات التوافق الوطني، ويجعلها ثانوية بعد أولوية الانتصار الحزبي والأيدولوجي، إن وجود جسور من الثقة بين طرفي الحوار في لقاء مكة، تكون عبر تقدير كل لتاريخ الآخر، وكذلك وجود الشفافية والمكاشفة المطلوبة وكذلك قابلية الإعذار والنظر إلى المستقبل كطريق وهدف لن يكون بالطرح ولكن بالجمع، ولن يكون بالضرب ولكن بالقسمة. وهو ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في مبادرته حين قال quot; إن الاقتتال الداخلي قد يعرض جهود اقامة دولة فلسطينية مستقلة للخطرquot;.
نأمل أن يثمر هذا اللقاء عن برنامج توافق وطني فلسطين، تتحرر به القضية الفلسطينية من أسر الأدلجة الفكرية والبراجماتية والتحيزات الإقليمية والدولية الخارجة عنها، على جسر من احترام حق الاختلاف والاعتراف الوطني والديني والسياسي بعيدا عن أي منطق إقصائي.
هاني نسيره كاتب مصري مقيم في دبي
التعليقات