بعيدا عن الجدل والنقاش الدائر حول أسباب وتفسيرات ملائمة أو عدم ملائمة أو حتى وجود تناقض بين الليبرالية والثقافة العربية الإسلامية من عدمه، نجد أن هناك توجه واضح وظاهر ولا يمكن إنكاره نحو إحياء الليبرالية في البلدان العربية. وقد بدأت إرهاصات هذا التوجه في عام 1983 باجتماع عقد في قبرص لمناقشة أزمة الديمقراطية في العالم العربي وقد ضم عدد كبير من المفكرين العرب، وعلى إثر القرارات التي تم اتخاذها في هذا الاجتماع تأسست في القاهرة منظمة عربية لحقوق الإنسان والتزمت منظمات أخرى تأسست قبل اجتماع قبرص وبعده إما بنشر الفكر الليبرالي أو بممارسة العمل السياسي الذي يرمي إلى تشجيع القضية الليبرالية في العالم العربي1.
وتأكدت هذه العودة القوية للتيار الليبرالي إلى العالم العربي في عقد التسعينيات من القرن العشرين من خلال عدة مظاهر من أهمها تأسيس جمعية النداء الجديد في مصر في مطلع التسعينيات، ثم إصدار المسودة الأولى لمانيفستو الليبراليين العرب الجدد بعد 11 سبتمبر 2001 والذي لخصها quot;د. شاكر النابلسيquot; في خمس وعشرين مبدأ، وقد بين أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير التي جاءت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين2.
وقد وصف البعض عودة التيار الليبرالي العربي الجديد باعتبارها واحدة من المحطات الرئيسية في استقبال وتطور الأفكار الليبرالية في الوطن العربي، والتي بدأت بالطهطاوي وجهوده في تقديم أهم مفاهيم الفكر الليبرالي في كتابيه quot;تخليص الإبريز في تلخيص باريزquot; والذي صدر عام 1834 وquot;مناهج الألباب في مناهج الآداب العصريةquot; والذي صدر عام 1869 كما قام بترجمة الدستور لفرنسي لعام 1814. أما الوقفة الأخرى جاءت مع خيرالدين التونسي والذي أصدر كتابه الشهير quot;أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالكquot; في 1867. ثم جاء جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وحاولوا إقامة جسور بين مبادئ الدين وما أتى به العالم الحديث من أفكار. وجاء بعدهم عدد من أبرز علامات الفكر الليبرالي العربي وهم أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وبطرس البستاني وقاسم أمين وسلامة موسى وفرح أنطون وجميل صدقي الزهاوي وتوفيق الحكيم ولويس عوض وزكي نجيب محمود... وغيرهم3.
ومن الجدير بالذكر أن مفهوم الإصلاح بأبعاده المختلفة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كان واحدا من المفاهيم المحورية التي شغلت التيار الليبرالي العربي أو التيار العقلاني التنويري القديم والحديث والمعاصر، إلا أنه كان يتم استخدّام مفهوم الإصلاح وفقا لظروف ومتطلبات كل مرحلة وعلاقات القوى السياسية التي تحكمها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. ولكن ما نعنيه في هذه الدراسة هو ملف الإصلاح والتطور الديمقراطي الراهن وإشكالياته المختلفة وما طرح بشأنه من مبادرات4 دولية وعربية مثل quot;مبادرة الشرق الأوسط الكبيرquot; ومؤتمر الإسكندرية ووثيقة نحو الاستقلال الثاني والتي صدرت عن اجتماع لعدد من المنظمات غير الحكومية عقد في بيروت وغيرها... وما أثير حولهم من نقاش بين المثقفين العرب بتياراتهم المختلفة قومية وليبرالية ويسارية وإسلامية..، وما يهمنا إبرازه في هذه الدراسة هو خطاب التيار الليبرالي العربي الجديد الراهن ومفهومه عن الإصلاح السياسي وقضاياه الرئيسية وعلى رأسها قضية التطور الديمقراطي.
وتنطلق الدراسة في قراءتها لبعض نصوص خطاب الليبراليين العرب الجدد من مجموعة من الافتراضات والملاحظات المنهجية. أولا: تتوقف قوة أي خطاب سياسي على قدرته على إحداث تواصلا ناجحا وهذا لا يتحقق إلا إذا حاز هذا الخطاب على قدر من الإجماع من خلال الإقناع والمحاججة. ومن ثم فاستخدّام الخطاب لمفاهيمه هو فعلا لغويا عمليا يحقق عملا ويحول واقعا ولهذا الفعل قصدية وسياق. وبالجمع بين كل هذه العناصر نستطيع أن نحكم ما إذا كان استعمال هذا الخطاب لمفاهيمه يحقق نوعا من التواصل أم لا.
ثانيا: يتأسس في كل خطاب سياسي معنى معين أو عدة معان لاستخدّام المفاهيم خاصة بكل خطاب، وقد يتجه الخطاب في أثناء فعل الاتصال إلى المعاني المختلطة في ذهن المتلقي ويحاول تطويعها من أجل تأكيد المعنى المقصود والذي يختلف باختلاف الاستخدّام5. من أجل تحويل المفاهيم الذاتية إلى مفاهيم مشاركة أي تحويل المفهوم كفكرة أو صورة إلى المفهوم كمعنى وإبلاغ، في إطار سياق له شروطه.
ثالثا: يتحقق المعنى المقصود للمفهوم في إطار أي خطاب سياسي من خلال جعل هذا المعنى معبرا عن استجابات مختلفة (كالطلب والأمر والنهي والوعيد والتهديد والتمني والرجاء..) ومعززا ومؤيدا ببعض النتائج كالاستحسان والرضا والتأكيد والنجاح... وهذا يتم من خلال طرح الحجج arguments الصادقة لتحقيق نوع من التواصل الحقيقي وليس من خلال الحجج المغلوطة للتضليل والالتباس والتعتيم مما يؤدي إلى نوع من المغالطات fallacies.
رابعا: تعد عملية المحاججة وطرح الحجج في أي خطاب سياسي نوعا من النشاط الاجتماعي الذي يوجه للتواصل والحوار والتفاعل مع الآخرين بهدفين فقط الإقناع persuation والجدل والنقاش eristic، وهي عملية تفكير واستدلال منطقي فيما يطرحه الخطاب من وجهة نظر standpoint تقبل الجدل بشأن ما تقدمه من أدلة وبراهين سواء بالرفض أو الاتفاق أمام ما يطرح من وجهات نظر أخرى، وليس فقط ما يطرحه الخطاب من آراء opinions نهائية فالمحاججة تحاول الوصول لحل بين آراء متنازع عليها6.
وستستخدم الدراسة تكنيك المحاجة البرهانية أو الاستدلال الحجاجي argumentation في تحليل مفهوم الإصلاح السياسي في خطاب الليبراليين العرب الجدد، ويتعلق هذا التكنيك بمجموعة من الأفعال الكلامية لها مرجعياتها وسياقها ولكل حجاج قصدية وتأثير وفعالية فهناك الحجة القاطعة والحجة القوية والحجة الضعيفة. كما يتعلق أيضا بفن الكلام المُقنّع وكيفية الحصول على تأييد للأطروحات المقدمة سواء كانت المحاجة سياسية أو فلسفية أو أيدلوجية. بعبارة أخرى ينطلق هذا التكنيك من بلاغة الخطاب البرهانية وهي تتعلق بمعرفة إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة من خلال براعة الاحتجاج وقلب الحقائق والاستدراك بأدوات مثل لكن غير إن وبيد أن.. والتي تقطع تسلسل الخطاب وتؤدي إلى تعدد المواقف والاحتمالات، وكذلك التباعد مثل التهكم والسخرية والمحاكاة والمفارقات والاستشهاد والإشارة وعلامات التنصيص...
وتتعدد مظاهر الحجاج أو المحاجة وتتنوع فهناك الحجاج الصريح والحجاج الضمني والحجاج الجدلي والحجاج التبريري و..، وتبعا لذلك تتعدد استعمالات الحجاج وتتباين مرجعياتها وتأويلاتها. ففي النهاية هدف كل خطاب هو الإقناع والتأثير من خلال ما يسوقه من حجج (للتأثير والاستمالة والإبانة والتوضيح) وأدوات إقناعية (الاستشهاد الشهود الحجة الدليل الاستدلال البرهان). وغاية الفعل الحجاجي بدوره هي الإفحام والإقناع ومن ثم ارتبط هذا الفعل بالمتلقي وبالآخر فهو يسوغ ويبرر ويدعم ويكشف و.. وإن كانت حدوده مقيدة بقيود الاحتمالية والنسبية.
وتستمد كل محاجة أو حجاج معناه وحدوده ووظائفه من مرجعية خطابية محددة ومن خصوصية الحقل التواصلي الذي يظهر فيه. وبقدر ما تتباين وتغتني أشكال ومضامين الخطاب بقدر ما تختلف وتتباين فيه درجات الفعالية الحجاجية سواء على مستوى التصريح أو مستوى الإضمار. ومن ثم يستمد الحجاج معناه التواصلي أو استعماله أولا من سياقه وثانيا من شرطه التخاطبي سواء تمثل في التخاصم أو التنازع أو الجدل أو الغلبة أو الأقناع أو التسويغ أو التسويف..، أي في التأثير وكيفية تحويل الخطاب إلى فعل عملي وممارسة عملية ويظل هذا التأثير رهين الإجماع والانخراط في سياق الأفكار أو القيم المسلم بها والتي توجه أو تدير الرأي العام. وتصبح البرهنة أو فن الحجاج مجرد إقناع بأساليب لفظية أو استدلالية خاضع لإجماع متلقي الخطاب في إطار مكاني محدد وسياق أو واقع بعينه7.
وستطبق الدراسة بالتحديد نموذج Toulmin model of argument لتحليل الحجة والذي تنطبق مفاهيمه لأي حجة على أي مجال أو حقل معرفي، والذي يختلف هو فقط محتوى أو مضمون الحجة من مجال معرفي إلى آخر (الخطب السياسية والقانونية والإعلامية...). ويتكون هذا النموذج من المفاهيم الستة التحليلية التالية8:

1- Claim حجة أو مطلب أو ادعاء أو دعوى أو زعم أو قضية أو موضوع ما، وهو ترجمة لما يريد قائل الخطاب إثباته. ويمثل هذا المفهوم النقطة الرئيسية أو الفكرة الحاكمة أو المسيطرة على الخطاب. وقد يعبر عنها من خلال البيانات والمعلومات data المتوافرة لهذا الخطاب. وهناك عدة أنواع للحجج الرئيسية للخطاب فهناك الحجج المتعلقة بالواقع أو بحقائق معينة claims of fact والحجج التوضيحية claims of definition والحجج الأمبريقية المتعلقة بأسباب أو بتأثيرات لوقائع معينة claims of cause والحجج المعيارية أو القيميةclaims of value وحجج السياسات claims of policy وهي التي تتعلق بما يجب على خطاب السياسة العامة القيام به وكيف يعمل وأي الآليات ينفذ. ومن الجدير بالذكر أن أي فكرة أو حجة يمكن أن تقترب من الأنماط الخمسة المختلفة بصورة أو بأخرى.

2- Grounds المبررات أو المسوغات أو الدوافع والأسباب أو الدلائل، بمعنى الأسباب المعطاة من أجل دعم ومساندة ومساعدة وتشجيع مطلب ما. بعبارة أخرى الدليل evidence أو التصحيح أوالإثبات proof أو الحجج arguments. وقد يأتي هذا التأييد في شكل حقائق أو إحصائيات أو آراء لخبراء أو أمثلة تطبيقية أو استنتاجات منطقية، أي ما الذي ساقه قائل الخطاب ليقنع المتلقين بالفكرة أو الموضوع الرئيسي للخطاب.

3- Warrants الضمانات والكفالات والرخص المتمثلة في المعتقدات السائدة والقيم والآراء المشتركة والرؤى الثقافية والاجتماعية المتعارف عليها والتي تؤكد أو تعبر ضمنا عن الحجة. بعبارة أخرى ما الذي يدعو هذا الخطاب لتعهد وضمان ما جاء في الخطاب من أفكار وموضوعات، أو ما هو مصدر هذا الخطاب ومن أين تأتي سلطته. وهنا لا بد للخطاب أن يشترك مرسله ومتلقيه في هذه القيم والمعايير والمعتقدات التي هي أقرب إلى العرف منها إلى أشياء مفروضة أو منتظمة أو محددة. وتعبر تلك الضمانات عما هو حاصل بشأنه إجماع أو الأرضية المشتركة common ground بين المرسل والمتلقي، لأنه في حالة الاشتراك في تلك القيم والمعايير والأعراف فهي تدعو متلقي الخطاب للمشاركة بشكل غير متعمد وبدون وعي في ذلك المطلب أو الحجة أو الفكرة الرئيسية. وهنا تربط تلك الضمانات بين الفكرة موضوع الخطاب claim وبين أسباب ومبررات دعمها أو تأييدها grounds/support.

4- Qualifiers إحتمالية الحجة الرئيسية في التحليل في إطار هذا النموذج وليس إطلاقها والتأكيد عليها، فتحليل أي حجة هو نوع من المشروطية المؤكدة التي يعبر عنها ببعض التعبيرات مثل: كثيرا- مرات عديدة- نادرا- قليلا- من الممكن...

5- Rebuttal دفاعات وردود الخطاب على التحفظات ووجهات النظر المعارضة والبديلة والمتنافسة أو المتصارعة للمطلب أو الحجة الرئيسية سواء تم الإشارة إليها من داخل الخطاب نفسه أو وجهت للخطاب من خطابات المعارضة. ويتوقع من الخطاب أن يتعامل بشكل منصف مع وجهات النظر المختلفة، وعلى الخطاب أيضا أن يتضمن إجابات على الأسئلة والاعتراضات التي يمكن أن ترد في ذهن متلقين هذا الخطاب، وإلا سيضعف هذا من حجة الخطاب ويجعلها ويجعلها مهاجمة من حجج أخرى مضادة. ومن ثم تصبح هذه الدفاعات بمثابة رد مباشر للحجج المضادة أو المعارضة أو تصبح بمثابة تأويلات جديدة لنفس الأدلة أو تصبح أدلة ومبررات جديدة alternative interpretations of evidence or new evidences.

6- Backing العون والمساندة الذي يقدمه الخطاب لكي يجعل الأعراف والقيم والمعتقدات الضامنة والكفيلة لحجة الخطاب الرئيسية أكثر قبولا ومصداقية من خلال جماعات المؤيدين اتجاهات الرأي العام مقالات الرأي التي يشير إليها الخطاب لمساندة حجته الرئيسية.

ولن تتعامل الدراسة في إطار التكنيك المنهجي المستخدم مع الاعتراضات والحجج المضادة أو المعارضة counter arguments القومية أو الإسلامية... والبحث عن الاستراتيجيات التي تتبناها للخطاب محل الدراسة فكل منها بحاجة لدراسة مستقلة، ولكن ستحاول الدراسة التعامل مع معارضة الخطاب لنفسه بنفسه ومدى نجاحه أو إخفاقه في تقديم حجج وأدلة وبراهين مقنعة وملائمة وصادقة. ويتم هذا من خلال الكشف عن الحجج الضعيفة أو المغلوطة poor and fallacious arguments أو الاستدلالات المغالطية fallacies التي يستخدمها الخطاب الليبرالي العربي الجديد بشأن مفهوم الإصلاح السياسي.

أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة