إنه الصَنيعة، يتكلم..
لو أنّ منجّماً أو قارئ فنجان، تنبأ لي بعواقب التمديد، لما وافقتهم من أصله. ولكن، هل كان بوسعكَ أن تبدي رأياً أمام ذلك الصبيّ النزق، ياهوْ !؟ القصة يا جماعة، إبتدأت قبل ذلك بسنوات، وللحقيقة منذ لحظة إحضاري لدمشق موجوداً لأمثل أمام أبيه، الوصيّ السابق ـ رحمه الله، على كل حال. يومذاك، بعدما أُمرتُ بتحضير نفسي لشغل منصب الفخامة، وصار وقت إستئذاني للعودة إلى بيروت، إذا به يقول لي وإبتسامة على شفتيه الرقيقتين : quot; قبل إستلامك المنصب، يتعيّن عليكَ البقاء عندنا فترة لإستكمال دَوْرَة محافظ ! quot;. لم أفهمه، للوهلة الأولى. ولكنّ إتساع شدقه عن ضحكة مجلجلة، أوضح لي المسألة بجلاء. ولكي لا آخذ على خاطري ربما، تابعَ الوصيّ الأب موضحاً : quot; أيّ حثالة لدينا، حينما نريدُ جعله مسؤولاً خطيراً لا بدّ من أن يشغلَ أولاً منصب محافظ، لكي يبرهن لنا على أنه ليسَ فاسداً أو مرتش ٍ أو عديمَ ناموس !.. وأنتَ ما شاء الله ستصبح رئيساً لبلدك quot;. نعم، صرتُ رئيساً في لابلدي هذا ! كان عليّ بعدئذٍ، يعني لما تسنمتُ منصب الفخامة، أن أواجه المنافسة، الأزلية، بين الرئاسات الثلاث. رئاسة المجلس النيابي، لم تكن مشكلة أبداً ؛ لأنها بيد حليفنا. أما رئاسة الحكومة، فكانت أكثر من مشكلة : الرجل سني، وهوَ فوق ذلك ربيب الملوك الذين يشحذ منهم وصيّنا ! لم يكن المغدور أقلّ كرماً منهم، الحق يقال. ولكنّ كرمه مع اللئيم لم يشفع له. قررَ الوصيّ، إذاً، التخلص من الرجل. وأقسمُ لكم، بشرفي العسكري !، أنّ التمديد كان دافعاً شكلياً للجريمة. كان ظهور زعيم سنيّ، شعبيّ وقويّ، في البلد الذي يعتبرونه quot; مزرعة أبيهم quot;، غير محتملاً بحال. لأنّ هذا من الممكن أن يُشجع إخوانه في المذهب، هناك في سورية ؛ حيث الأغلبية المقهورة.. الخ
فيما بعد ذهلتُ حقاً، حينما طلبوني سراً إلى quot; عنجر quot;. على فنجان قهوة وقبل الحديث بالبيزنس حتى، إذا بالمندوب السامي إياه، الذي تعرفونه، يفاتحني بكل بساطة بموضوع العملية. quot; كل شيء إلا هذا، بَرْدون ! quot;، قلتُ له بتصميم فرنسيّ. ولكنه لم ينصت إليّ، بل أخذ يشرح دوري في تلك العملية : quot; المطلوب منك شغلة بسيطة. أن تؤمن لنا بعض رجالك المخلصين، الموثوقين، في الأمن والدرك quot;. أوهموني أنهم يريدون منا خدمة لوجستية، ليسَ إلاّ ! وما لم يكن في الحسبان، غدرهم بي، الوضيع. إذ أوعزوا لأحد متعهدي التفجير أن يتصل بمكتبي، بعيد خمسة دقائق من وقوع الجريمة.. لكي يوثقوا تورطي بها. وها أنا كما ترون، أحمل على كاهلي وزر دم الرجل. وبعد خروج عسكرهم ومخابراتهم من عندنا، أضحيتُ مضحكة الجميع، فلا أزورُ ولا أزار ! وياليتني بقيتُ مع رئيس الحكومة ذاكَ، المرحوم، لأن جماعة الإستقلاليّة جاؤوا إلى الوزارة بمعيّة إبنه هذه المرة. هكذا صرتُ عاطلاً تقريباً، ما دام الأخوان في الحكومة الجديدة، الإستقلالية، يرفضون التعاون معي. هذا في النهار. أما مساءً، فلا أرفع عيني عن التلفزيون السوري بفضائته اليتيمة. كتر خيرهم، يتذكرون أنني ما زلت رئيساً للبنان، في وقت أنكرني الجميع. فشريط الأخبار في فضائيتهم يعيدُ تكرار إسمي على مدار الساعة مع أشياء اخرى، مثل أنّ سورية لها دور حضاري في العالم، كما يقول عالم بريطاني في حفر القبور.. أقصد، في حفر الآثار !.. وعلى الأثر، يطلع في الشريط هذا الخبر : quot; الرئيس اللبناني يستقبل أبو حشيشة، أمين سرّ حركة القيامة الفلسطينية ! quot;. شيء رائع، بيرفع الرأس..
ولكن في حرب الصيف مؤخراً، قلتُ لحالي جاءكَ الفرج ! حتى أنني بدأتُ أخرج من شرنقة القصر وأقوم بجولات ميدانية ـ بوصفي رئيساً ! ورفعتُ صوتي أمام الصحافة، لأول مرة منذ دهر : quot; أنظروا إلى الهمجية الصهيونية.. أهذا هوَ الديمقراطية الأمريكية، ياهوْ !؟ quot;. ثم أخذتْ الأرجُلُ على قصرنا أيضاً. وكل مسؤول، أو شبه مسؤول، يحضر لدمشق، يمرّ عليّ في بيروت بطلب من الإخوة السوريين، لكي يخفف عني الوحشة. ثم كانت زيارة أردوغان الأخيرة. تعرفون، أمي أرمنية وكذلك زوجتي. يعني مسألة محرجة، حقيقة ً، أن أستقبله عندنا في القصر. ليسَ باليد حيلة، فهو الصديق الوحيد للسوريين في المنطقة. جاء الرجل لتفقد قواته في الجنوب ومرّ علينا. قعد بمواجه خلقتي، وراح يتأملني ملياً. كان يفكر في نفسه، على الأرجح، بأشياء غير طيبة : quot; ها، قرداش ! هربتم من سكاكين أجدادنا إلى دول اخرى، لكي تصبحوا فيها رؤساء جمهورية !؟ quot;. ساعياً لإشاعة جو إلفة وثقة بيننا، بددتُ الصمتَ قائلاً بمودّة : quot; تركية بلد ديمقراطي حضاري عظيم.. وهي على مرّ تاريخها منارة للقيم الإنسانية والتسامح، حقاً ! وبالمناسبة، فالأرمن كما تقول الشواهد كلها، ذبحهم الأكراد وأقاموا على جثثهم دولة كردستان quot;. ضيفنا التركي، لم تفته المجاملة. زمّ عينيه المغوليتين، ونبسَ بلهجة مستخفة : quot; لا وجود لشيء إسمه أكراد وكردستان.. إنهم أتراك جبليون ! وقريباً سنضمّ أيضاً إخوانهم الذين في العراق، لكي يستعيدوا لغتهم التركية وتاريخ جدّهم الأول أرطغرل أوغلو ! quot;. هكذا كان الحال مع سليل العثمانيين ذاكَ، وغيره من الضيوف. على أنّ أموري، للحقيقة، لم تتغيّر كثيراً. مصيري معروف، ولكنه مؤجل. ما يُعزيني، أنّ الله لم ينسني بعدما تخلى البشر عني : مرة، يرسلُ الجنرالَ ليخربط لهم اللعبة. مرة ثانية، يرسلُ عليهم سماحة السيّد لكي يحاورهم ويضيّع وقتهم ويشغلهم عن موضوع إسقاطي. مرة ثالثة، حرب. رابعة، إعتصام ونزول إلى الشارع لإسقاط حكومتهم، والحيلولة دون المحكمة الدولية. هذا دليلٌ أنّ الله بجانبي، لأنني متهمٌ بريء. أقسمُ لكم مجدداً بـ.... ولكن دعونا من الشرف !
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات