أيها الأخوة الحضور تحية طيبة لكم..
بوسعي اليوم أن أقول لكم، أيها السادة، أنه سيأتي اليوم الذي نصحو فيه ولا نجدُ ورقاً، ونفاجأ بأن الورق ومتفرعاته قد أحيلوا إلى التقاعد، واختفوا من حياتنا، وبدئوا في الإجراءات الروتينية لضمان رواتبهم التقاعدية، بعد زمن طويل من تبوأ عرش الصحافة، والكتابة، وما عداهما من الأنشطة الأخرى ذات العلاقة بالمهنة المتعبة.

هذا الأمر قد يكون خلال أيام، أو أشهر، أو أعوام، لكنه سيحدث لا محالة في ظل الثورة العلمية والتكنولوجية التي تجتاح العالم، وتخلق أصنافا جديدة من البدائل لكل شيء؛ فها هو عرّاب التكنلوجيا المعتق، بيل جيتس، يراهن على أن التلفزيون سيختفي من حياتنا بعد سنوات لا تجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، رغم أن ملاييناً من البشر في سائر أرجاء العالم قد كونوا معه علاقة حب لم تنقطع حتى سنيّ الشيخوخة، والبعض الآخر منهم كون معه علاقة رضاع لا فطام منها إلى الأبد، إلى أن تحول، مع مرور الزمن، إلى أحد أفراد الأسرة الصغيرة: يستيقظ معهم، وينام معهم، ويتصدر مائدة الطعام، ويسترقون السمع إليه، وإلى تفاصيله المبهرة، آناء الليل وأطراف النهار... فهل الورق أكثر قدسية من التلفزيون الأثير إلى القلوب، والأبصار، والأسماع؟

علينا أن نؤمن، أيها السادة، أننا بالعلم أولاً وأخيراً سنخرج من ظلام الأزقة القديمة التي نسيرُ على هديها منذ نصف قرن، وأكثر، في صحافتنا العربية، إلى مناطق أخرى جديدة مأهولة بأضواء القرن الحادي والعشرين، وهي تاليا ستكشف أن التعامل مع الصيغة لإلكترونية من الإعلام سيكون أمراً لا محالة منه، كونه اللغة الجديدة التي يتحدثها العالم الحاضر بكل تصنيفاته، سواء أكان عالما أولاً، أم ثانيا، أم ثالثاً، أم عربياً تحت الصفر.
إن كينونة العمل الصحافي، وإيقاعه، أيها الأصدقاء، لم تعودا على الرتم ذاته، حين كانت الصحافة في مطلع العمر، ومطلع الحبر، قبل نصف قرن وأكثر، بل غدا الإيقاع أكثر سرعة بشكل لا يستطيع أن يدركه عقل، أو يتوازى مع خطوطه الممتدة بإتقان أي ذهن، بما يتناغم مع سرعة إيقاع الحياة من حولنا، وتوفر شرايين جديدة تضخ المعلومات إلى المتابعين النهمين بطريقة لا تستجلب عناءً يُذكر، في أرجاء هذا البهو الواسع الكوني المليء بالمخلوقات والأرواح الافتراضية.

نتيجة لهذا الإيقاع السريع للزمن، فإن القراء الباحثين عن المعلومة وخلفياتها وتفاصيلها لم يعد في رغبتهم الانتظار إلى الغد حيث تهطل تباشير الصباح، وتباشير صحف حبرهم المطبوع، بل أنهم غدوا يعمدون إلى فتح صحف الحبر الافتراضي دون عناء فور رغبتهم الحصول على المعلومة وحيثياتها، والخبر وتطوراته، وهم بذلك يستفيدون من الفسحة التكنولوجية التي توفر لهم الحصول المضمون على خلفيات أكثر توسعً عبر تقنيات العصر الحديث.

هيا أيها السادة، لنكن عقلانيين ومتقبلين لدورة الزمن وتقلبات العروش والكراسي العليا في بلاط صاحبة الجلالة. لنكن واضحين أكثر علنا نجد إجابة منطقية على السؤال الحي: أما زال الورق يحظى بتلك الأهمية الآن كما كان قديما؟ الجواب بالتأكيد لا. إلا إن هذا لا يعني أنه مغادر إلى غير رجعة خلال السنين القليلة المقبلة، بيد أن الأكيد أن المعركة ليست في صالحه، ولنا في الصحافة المتقدمة وتجاربها عِبرٌ لمن ألقى السمع وهو بصير.
إن الورق ومتفرعاته ينحسرون بشكل تدريجي كما تقول بذلك الكثير من الدراسات والإحصائيات الدولية والمحلية، وهي تؤكد أن مجرى النهر ومصبه ينحوان بشكل كبير حول هذا البديل الإلكتروني ذو النزعة الحداثية الباهرة، وهو ما يجر على إثره سحب أقدام المعلنين وعقولهم إلى حيث صحف الانترنت الكونيّ، ليتم بذلك آليا سحب بساط الإعلان بشكل تدريجي عن الصحف الورقية، كما تشير إلى ذلك كل المسوح العلمية التي يقوم بها مختصون في متابعة تحركات الإعلام وشجونه.

وقد أظهر المسح السنوي الثالث للإعلانات في الصحف الالكترونية الذي أجري على أكثر من سبعين صحيفة في أربعين دولة بأن الانترنت بدت تأخذ حصة أكبر من إعلانات الصحف المطبوعة في الوقت الذي لا تزال فيه دور النشر تقلل من حجم الخطر الذي تشكله شبكة الانترنت.
وبين المسح الذي يقوم به اتحاد الصحف العالمي أن 40% من القراء يستخدمون الانترنت للحصول على معلوماتهم بشكل كامل وأن 82% منهم يعتمدون على الجرائد المطبوعة كأحد أهم ثلاث طرق للحصول على المعلومات. كما قرأت تأكيد مارك ساندز مدير التسويق في الغارديان البريطانية أن الصحافة المطبوعة تواجه خطرا حقيقيا من الصحف والمواقع الالكترونية التي تقدم الخدمات الإعلانية المبوبة وغيرها.
غير أن المسيرة الإعلانية في الإعلام الإلكتروني في وطننا العربي الكبير لا زالت تسير بخطى متعرجة دون أن تصل إلى الضفة الصحيحة، كمن يسير إلى وجهة يخشى من أن لا تكون جزيرة ثابتة، بل حوتا مضى على هجعته سنون طوال، وذلك أمر مرده إلى عقلية المعلن العربي الذي لم يعلم بعد أن العالم يتحرك، وأن شرايين المهنة وأوردتها تحولت إلى جسد آخر.

أيها الأصدقاء العرب من العاملين في المهنة، أو العاملين عليها.. هاهو ذا quot;فليت ستريتquot;، شارع الصحافة اللندني العريق، يثور على نفسه ويبدو بخلق جديد، بما يتناسب وقرننا الحادي والعشرين وعولمته البرّاقة، وها هي ذي quot;الجارديانquot; وquot;الأندبندتquot; وأخواتهما، تثوران على أحجامهما التقليدية المحافظة، وتصدران بحجم جديد بعد حمية صحافية متقنة؛ فمتى تثورون يرحمنا ويرحمكم الله؟

bull;مقتطفات من ورقة عمل أعدت لمؤتمر نظمته هيئة التباحث الدولي الأميركية quot;آيركسquot;.