لعل واحدة من أكبر العقد الستراتيجية في الشرق الأوسط تتمثل في شكل و صيرورة و وضعية العلاقات العراقية / السورية المرتبكة التي ظلت على مدار عقود طويلة إلتهمت نصف القرن العشرين و تتهيأ لإلتهام الربع الأول من القرن الحادي و العشرين في حالة تراجع حادة لم تنفع معها كل المقويات و لا المشاريع القومية و لا حتى عقيدة و تفكير الحزب الواحد أيام كان نظام البعث البائد في العراق يطرح المشاريع الوحدوية و يوزع بالمجان مواثيق العمل القومية!! و يعلن عن نظرياته الوحدوية الفاشلة التي كانت للإستهلاك المحلي و الترويجي فقط لا غير ؟ فقد ظلت الطريق بين دمشق و بغداد معطلة على الدوام و تنهل بشكل واسع من أعباء التاريخ و من خلفيات الصراع الأموي/ العباسي وإن أستحدثت أسبابه و موجباته العصرية لتتوائم و تتناسب مع شعارات المرحلة و تطوراتها ، و لن نوغل بعيدا في التاريخ لسبر الخلافات كما لن نعود للحقبة القريبة جدا وهي حقبة دموية حافلة بدأت معالمها منذ الثمانينيات و حيث إشتد الخلاف البعثي/ البعثي و خرج عن أطره العقائدية و الفكرية ليتحول في الصميم لحرب إرهابية شاملة أتبعت فيها كل الوسائل و الأدوات لشل الخصم قبل إسقاطه بالضربة القاضية ، فكان الدعم البعثي العراقي لجماعة الإخوان المسلمين ، و كان الدعم البعثي السوري لحزب الدعوة و للمجلس الإيراني الأعلى! و لبقية الجماعات و الأحزاب الدينية و الطائفية العراقية ، عنوانا لتدني و سقوط الشعارات القومية و العلمانية التي سقطت في شراك الطائفية و التوجهات الدينية ، و كان ذلك الصراع البعثي العبثي إعلانا صريحا عن فشل النظامين السياسيين في دمشق و بغداد و عن مسؤوليتهما المشتركة و الفاعلة في تدمير النظام الإقليمي العربي و خلق التوتر في المنطقة و فشل ما كان يسمى بجبهة الصمود و التصدي التي لم تكن صامدة في شيء و لا متصدية لشيْ سوى لحرية و كرامة الإنسان العربي .

والصراع الجديد بين النظام السوري الحالي و النظام العراقي الحالي أيضا لا يحمل في مفرداته عناوين جديدة و لا متغيرات كبرى أيضا ، لأن نظام دمشق و هو يدعم الإرهاب في العراق ينطلق من دوافع دفاعية محضة تتمثل في ضرورة تخريب الصيغة السياسية الجديدة في العراق لأن في نجاحها نهاية حقيقية للنظام السياسي في دمشق!! و ذلك من طبائع الأمور ؟ لا بل أن المراهنة على دور سوري إيجابي في تحسين الأمن في العراق لم يكن في أساسه إلا حرثا للريح و ضحكا على الذقون ؟ لأنه ببساطة متناهية لا يوجد أحد يفكر بحفر قبره بيده!! لذلك فإن المراهنة السابقة على نجاح زيارة الرئيس العراقي جلال الطالباني لدمشق كانت خطوة متعجلة و توضح أيضا طبيعة الفوضى السياسية و الإدارية و حالة عدم الإنسجام في النظام العراقي الجديد ، و هو نظام ينظر إليه النظام السوري و خصوصا أجهزته الأمنية و الإستخبارية نظرة إستصغار لواقع و حقيقة أن ملفات و مسارات الحاكمين في بغداد اليوم كانت في الماضي القريب تحت رعاية و مراقبة ضباط صغار في المخابرات السورية!! و النظام السوري الذي لم يكن مستعدا للتصالح و التفاهم مع النظام البعثي البائد رغم التقارب الفكري و المنهجي و السلوكي سوف لن يكون مستعدا لدعم من كانوا بالأمس القريب بمثابة رعاياه و منفذين لأوامره!! و هنا أتذكر حكاية شخصية بسيطة حدثت لي في الشام أوائل عام 1984 ، فقد كنت أتردد وقتها على مكتب السيد الحكيم في حي الأمين الدمشقي و الذي كان تحت رعاية السيد عامر الحلو وقتئذ ، و تعرفت هناك على شاب خجول كان يعمل في المكتب و يبدو هادئا و منزويا ولكن كان من الواضح أنه من رجال العمل السري و التنظيمي ولم يكن ذلك الشاب سوى ( أبو محمد ) وهو الذي عرف فيما بعد بالسيد ( باقر جبر صولاغ الزبيدي ) وزير الداخلية الأسبق و المالية الحالي!! وقد فهمت وقتذاك من أن دوره كان ينحصر في التنسيق المخابراتي بين جماعة الحكيم و المخابرات السورية على صعيد تجنيد العناصر لتنفيذ العمليات الخاصة داخل العراق! و التي شهدت في ذلك الوقت تزايدا نوعيا كجزء من حملة إستعمال المعارضات العربية لتصفية حسابات الأنظمة ، و كذلك الحال مع حزب الدعوة الإسلامية الذي ركز نشاطاته في دمشق بعد أن ضعفت علاقاته مع إيران بسبب محاولات المخابرات الإيرانية للهيمنة على القرار و رفض الدعوة الذوبان في الجسم الإيراني!! و هو الأمر الذي وفر مدخلا لإنشقاق كبير في حزب الدعوة كان من نتيجته ولادة ( الدعوة / تنظيم العراق )!! و المشارك أيضا في السلطة الحالية رغم أنه تنظيم يدين بالولاء التام لإيران و لوليها الفقيه!! وهي من عجائب و مفارقات السلطة العراقية الحالية ، المهم في القضية أن النظام السوري الحالي لا يمكن أن يقوم بأي خطوات حقيقية لوقف التدفق الإرهابي نحو العراق خصوصا و أن أجندته الحالية تهدف لتقديم الدعم لبقايا حزب البعث العراقي من خلال عناصره القيادية الهاربة هناك و التي تحظى بالدعم و الرعاية السورية رغم رفض النظام السوري الإعتراف بذلك!! و هو رفض لا يعبر إلا عن الحقيقة الخبيثة لنوايا نظام و دولة المخابرات السورية ، فالمؤتمر القطري الأخير الذي إنتخب محمد يونس الأحمد و غزوان الكبيسي و مزهر مطني الدليمي و غيرهم و الذي وجد رفضا من جماعة عزة أبو الثلج الدوري و صلاح المختار في اليمن هو تأكيد على أن نظام المخابرات السوري قد عقد العزم على دعم جماعته من بعث العراق و الذين هم في النهاية تنظيم إرهابي مسؤول عن غالبية جرائم الإبادة البشرية في أسواق و مدن العراق الفقيرة و بالتنسيق مع الجماعات التكفيرية من عصابات السلف المتوحشة ، و لكن النظام العراقي لن يذهب بعيدا في تصفية الحسابات مع نظام دمشق لأسباب عديدة لعل أهمها أن جميع ملفات و أسرار و تحركات كثير من قادة العراق الراهن هي تحت تصرف المخابرات السورية و التي تتصرف بعنجهية و عدم مبالاة يضاف لذلك كله الضعف البنيوي في القرار العراقي ، فرئيس الجمهورية يتصرف بمعزل عن رئيس الحكومة ، و رئيس البرلمان يغني نشاز و لا يوجد من يستمع!! و ميوعة السلطة و القرار السيادي في العراق قد أعطت لكل من يخالف النظام العراقي الحالي إشارات واضحة عن الترهل في الجسم القيادي العراقي ؟ تصوروا أن رئيس الوزراء نوري المالكي كان قد أصدر قرارا بتعيين السيد ( حمودي جمال الدين ) بمنصب مستشار عسكري لشؤون المنطقة الجنوبية!! ولكن لم يتمكن المستشار العتيد حتى اللحظة من إستلام موقعه لتنصل جميع الإدارات من مسؤولية التنفيذ!!! يحدث هذا على مستوى القرار الداخلي ؟ فكيف ستتصرف الحكومة العراقية أمام تحديات السياسة الخارجية و أمام التحدي الإرهابي القادم من نظام دمشق ، و هو تحدي جدي يمتلك السوريون كل أدواته و يقف العراقيون عاجزين إلا من تصريحات فارغة سرعان ما يتم سحبها في لحظات عاطفية عابرة ، سياسة النظام العراقي الحالي للأسف هي سياسة مرتجلة و غير عملية أو جدية لأنها تتسم بالميوعة و عدم القدرة على إتخاذ القرار و السبب الأول و الأخير هي سياسة المحاصصة الطائفية لعنها الله و التي فتحت كل صناديق الشياطين العراقية!!! و الإرهاب لا يقاوم بالنوايا الحسنة وحدها ولا بالتصريحات المطاطة بل عبر ستراتيجية واضحة لا وجود لها في العقل السياسي العراقي الطائفي الراهن....أنها الكارثة وقد أطلت بقرونها..!.

[email protected]