-1-
من مسجد عمر بن الخطاب في الدوحة، دعا الشيخ يوسف القرضاوي زعماء الكُرد وفعالياتهم السياسية إلى التدخل في الصراع المذهبي القاتل بين السُنَّة والشيعة في العراق الآن. سوف يفكر زعماء الكُرد بهذا المطلب، وسوف يرون ما يمكن عمله في هذا الشأن، وهم العقلاء القادرون على ذلك. ودليل عقلانيتهم ما فعلوه باقليم كردستان من ضبط للأمن، ونشر للاستقرار والازدهار، وتشجيع للاستثمار، بحيث استطاعوا بعقلهم السياسي الراجح والرزين، أن يقطفوا أزكي ثمار التحرير، الذي تم فجر التاسع من نيسان 2003، ولم ينخرطوا في صراعات سياسية ومذهبية، كما فعل السُنَّة والشيعة، في وسط وجنوب العراق.

-2-
لكن هناك أسئلة كثيرة نريد أن نطرحها الآن:
- ما الذي دعا القرضاوي إلى توجيه هذا النداء الآن؟
- وكيف فطن القرضاوى إلى أن في العراق شعباً الآن يطلق عليه الكُرد، وهو الذي أغفل هذا الشعب، وسكت طوال السنوات الماضية عن اضطهاده، وقتله، وتدميره، وتهجيره، دون أن يقول كلمة حق واحدة في هذا الشعب؟
- كيف يمكن للكُرد أن يجيروا القرضاوى، ويلبوا نداءه، وهو الذي أنكر عليهم كفاحهم، وحريتهم، وخلاصهم، واستقلالهم، في الماضي، باسم الإسلام الذي اختطفه هو، ومجموعة أخرى من فقهاء السلاطين، في العالم العربي؟
- أين كان القرضاوي من حملة الأنفال الوحشية، التي كانت بمثابة الهولوكست الكُردي، أو أشد منه هولاً؟
- لماذا لم يرتجّ مسجد عمر بن الخطاب في الدوحة بالاستنكار، لما فعله الطاغية المقبور، وما فعله الذي يُحاكم الآن (علي الكيماوي)، كم ارتجَّ بالأمس بكلمات القرضاوي quot;الضرورةquot; التي تستنجد بالكُرد لانقاذ العراق من الصراع السُنّي- الشيعي الدموي؟

-3-
دعوة الكُرد العقلاء، إلى فض النزاع والاقتتال المذهبي الأهوج بين طائفتي الشيعة والسُنَّة العرب، مطلب شرعي. وقد دعا المثقفون الليبراليون من قبل إلى هذا، باعتبار أن الكُرد هم القدوة العراقية التي يجب أن تُتبع، والذين لم يخضعوا للتأثيرات السياسية الخارجية من قبل إيران وسوريا خاصة، واتخذوا قرارهم الوطني السيادي السليم، وبنوا اقليمهم على أفضل ما يكون البناء العراقي الآن، كما سبق وشرحنا.
ولكن هذه الدعوة من قبل الشيخ quot;الضرورةquot; دعوة، لا أريد أن أقول انها مسمومة، بقدر ما هي حق أريد به باطل، الغاية المكشوفة منها توريط الكُرد في الصراع المذهبي القائم الآن بين طائفتي السُنّة والشيعة من العرب. وهي بالتالي دعوة مشكوك في أمرها، وكان يجب أن توجه لسوريا وإيران قبل أن تتوجه للكُرد، لأن هذين النظامين هما اللذان أحرقا ودمرا جزءاً كبيراً من العراق، كان قابلاً للحرق والتدمير على هذا النحو. في حين أنهما لم يقدرا على حرق وتدمير شمال العراق واقليم كردستان لأن هذا الاقليم كان عصياً على الحرق والتدمير السوري الإيراني. كما أن هذه الدعوة يجب أن توجه لفقهاء السلاطين، وفقهاء الارهاب الذين شجعوا السُنّة والشيعة على هذا الاقتتال الدموي الأهوج بفتاواهم المتكررة.
فمن زرع الشوك عليه أن يحصده الآن، ولا يطلب من الآخرين حصاده.

-4-
الشيخ القرضاوي quot;الضرورةquot;، يناشد الكُرد، ويطلب منهم بصفته رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التدخل لوقف المذابح التي تجرى بحق العراقيين قائلا: quot;إن ما يجري في العراق من أمور تقشعر منها الأبدان وتشيب لها الولدان من مذابح على الهويةquot;. هو نفسه فقيه الارهاب، الذي أهدر بفتاواه الدم الكُردي، حين أصدر فتواه الشهيرة في نقابة الصحافيين في القاهرة في 2004 بقتل الأمريكيين في العراق وكل من يتعاون معهم. وكان الكُرد هم من تعانوا مع الأمريكيين لصالح حريتهم واستقلالهم، وبناء اقليمهم.
والقرضاوي هو الذي سكت عن كل جرائم السُنَّة منذ عام 2003 إلى اليوم في كردستان، وفي كل ناحية من نواحي العراق. وعندما فجّر المجرمون الارهابيون الذين يُطلق عليه القرضاوي quot; المجاهدونquot; تارة و quot;المقاومونquot; تارة، عدة أماكن في كردستان وقتلوا نساء وأطفالاً وشيوخاً وأبرياء، وفي الأعراس، لم يحرك القرضاوي ساكناً، ولم يصدر فتوى تُدين هذه الجرائم، ولم يقد مظاهرة صاخبة كما قادها عندما اعتدى الارهابيون على مدرسة للأطفال بالدوحة.
والقرضاوي مثله مثل باقي اشياخ المؤسسة الدينية في كل انحاء العربي، يكيل ليس بمكيالين، ولكن بألف مكبال ومكيال.

-5-
لقد درج أشياخ الدين، في أيامنا هذه، على تطويع النص الديني، حسب ما يريدون، ويهدفون اليه. فالشيخ القرضاوي لم يفتح القرآن الكريم في عهد صدام حسين، ولم ير ما فيه من حضّ على عدم اهانة كرامة
الانسان، وكرامة المسلم، وعدم اضطهاده، والاساءة اليه، وأغمض عينيه، ووضع في أذنه عجيناً، وفي الأخرى طيناً، حتى لا يسمع أنين المضطهدين والمعذبين، ولا يرى ما كان يفعله الطاغية بالكُرد في شمال العراق، وخارج العراق. أما اليوم، فهو يفتح القرآن الكريم، ويتلو علينا من هذه النصوص المقدسة، ما يفيد قضيته التي يدافع عنها في العراق الآن، وليس ما كان يمكن أن يفيد الكُرد في قضيتهم ومأساتهم وكارثتهم.

-6-
والقرضاوي quot;الضرورةquot;، وغيره من أشياخ فقهاء السلاطين، يتبعون منهاجاً انتقائياً في تصديهم للأحداث السياسية، حيث يستعملون عصا الدين في لي عنق السياسة. والمنهاج الانتقائي يقوم على اختيار النصوص، التي في صالحهم، وتخدم أغراضهم وأغراض السلاطين السياسية. يقول حسن حنفي في (مشايخ السلطان)، منتقداً هؤلاء المشايخ، الذين يفتحون القرآن الكريم، وكتب الحديث النبوي، فينتقون منها ما يشاءون، وما يلائم طبق طبيخ ذلك اليوم، ومذاق ذلك السلطان، أنه بعد قرارات مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، واللاءات الثلاث: لا صلح، ولا مفاوضة، ولا اعتراف بإسرائيل، انبرى فقهاء السلطان بتبرير هذا بالفتاوى والنصوص الدينية: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل(، )وجاهدوا في الله حق جهاده(، )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله علي نصرهم لقدير(، )وقاتلوا الذين يقاتلوكم(، وما أكثر الآيات والأحاديث في هذا السياق. وبعد أن انقلبت الجمهورية المصرية الثانية على الجمهورية الأولى، وعُقدت اتفاقيات كامب ديفيد في 1978، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979 انبرى فقهاء السلطان، هم أنفسهم، بتبرير قرارات السلطان الجديد بآيات وأحاديث أخرى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها(،)أدخلوا في السلم كافة(. وأن سلام وشالوم من نفس الاشتقاق، وأن كلانا أولاد عم من نسل إبراهيم. وحدث نفس التحوّل علي الصعيد الداخلي من الاشتراكية والقومية وعدم الانحياز، وهو اختيار الجمهورية الأولى، إلى الرأسمالية والقطرية والانحياز إلى أمريكا وإسرائيل، وهو انقلاب الجمهورية الثانية، والذي مازال مستمراً في الجمهورية الثالثة والأخيرة في حقبة من تاريخ مصر المعاصر، في النصف الثاني من القرن العشرين. فأفتى فقهاء السلطان في الجمهورية الأولى، بأن الإسلام دين الاشتراكية، وجاءوا بالحديث النبوي: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، وقالوا بأن السيدة خديجة زوج النبي كانت أم الاشتراكيين، وصدرت كتب بذلك، وأن القطاع العام من الإسلام كما مثله quot;الإقطاعquot;، وهو ما يقطعه الخلفاء للصالح العام كالمراعي للإبل، و (ليس منا من بات جوعان وجاره طاوٍ) ، )والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم( .
ولما حدث الانقلاب في الجمهورية الثانية، انبرى فقهاء السلطان لتبرير سياسة الانفتاح ونقد الشيوعية الملحدة، (من لا إيمان له لا أمان له). والكسب الحر مشروع، والتجارة حلال في الأسواق، ومع الله تجارة لن تبور. وكل ما أتى الإنسان هو رزق، حلالا ً أم حراماً، اعتماداً علي رأي بعض القدماء، والرفاهية حق المؤمنين )قل من حرّم زينة الله والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا(. والغرب مؤمن، والشرق كافر. والانحياز إلى الغرب المؤمن ضد الشرق الكافر خير وبركة، ونصرة للإسلام والمسلمين. وقد انبري شيخ مشايخ السلطان بفتوى من نفس النوع لحث الناس علي الاشتراك في التصويت على تغيير المادة 76 من الدستور، وعدم مقاطعته، كما تريد المعارضة )ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه(.

فكيف تريدون أن نصدّق دعوة هؤلاء الأشياخ، الذين اختطفوا الدين وجعلوا نصوصه المقدسة مطيّة لهم؟

السلام عليكم.