الحلقة الأخيرة

لقد تحولت موضوعة (مصحف) أو(صحيفة) كمعادلة تواصل وإتصال بين شخصٍ ما وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مادة تفاخر محمومة في وسط المجتمع الإسلامي !
لقد كثرت الصحف المكتوبة تحت إشراف ا لنبي الكريم أو نقلا عنه أو بأمره مباشرة ! فهناك الصحيفة الصادقة لعبد الله بن معاوية بن عمرو بن العاص، وهناك صحيفة أبي شاه التي أمر بها النبي الكريم (أكتبوا لأبي شاه)، هناك مصحف عائشة، ومصحف عبد الله بن مسعود، وهكذا...
وفي تصوري ينبغي أعادة قراءة هذه الصحف والمصاحف، فلا أستبعد أن يكون بعضها مختلقا لأسباب سياسية أو من جل صراع على النفوذ الديني والاجتماعي.
بعض معادلات الصياغة التي وردت بها مصحف فاطمة تكشف عن نكهة سياسية، كأنه مساق لأغراض سياسية، لأهداف مخصوصة...
نقرا في بصائر الدرجات (حدثنا محمد بن الحسين، عن احمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمّأد بن عثمان،عن علي بن سعيد، قال: كنت جالسا عند أبي عبد الله عليه السلام وعنده محمّد بن عبد الله بن علي إلى جنبه جالسا وفي المجلس عبد الملك بن أعين، ومحمد الطيار، وشهاب بن عبد ربه، فقال له رجل من اصحابنا: جُعلت فداك أن عبد الله بن الحسن يقول: لنا في هذا الامر ما ليس لغيرنا، فقال أبو عبد الله عليه السلام بعد كلام: أما تعجبون من عبد الله يزعم أن آباه علي لم يكن إماما، ويقول: أنه ليس عندنا علم، وصدق والله، ما عنده علم، ولكنَّ الله ـ وأهوى بيده إلى صدره ـ إن عندنا سلاح رسول الله صلى ا لله عليه وأله وسلم... وعندنا مصحف فاطمة...) / المصدر 3 ص 153 ح 5 /
الرواية غامضة، ولكن من حقنا نسأل عن سبب إخفاء الراوي أسم السائل هذا؟
ليس هناك ما يدعو إلى هذا الاخفاء، وبالتالي، مثل هذه المفارقات تتطلب تأملا وفكرا، خاصة وإن الأمر يتعلق بقضية خطيرة، سياسية ومناقبية وعقدية.
لقد سيق موضوع مصحف فاطمة في زحمة قضية أكبر، لها علاقة بمعادلات القوة، وا لمصلحة، والزعامة الروحية والسياسية، فهل كان المصحف سلاحا معدا سلفا لمثل هذه المعركة؟
نقرأ في بصائر الدرجات أيضا (حدثنا أحمد بن الحسن، عن علي بن فضّال، عن أبيه الحسن، عن أبي المغرا،عن عنبسة بن مصعب قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام، فأثنى عليه قوم، حتى كان من قوله: وأخزى الله عدوك من الجن والأنس، فقال أبو عبد الله عليه ا لسلام: لقد كنّأ وعدونا كثير، ولقد أمسينا وما أحدى أعدى لنا من قراباتنا، ومن ينتحل حبنا،، إنّهم ليكذبون علينا في الجفر، قال: قلت: وما الجعفر، قال: وهو والله مسك ماعز ومسك ضأن ينطق أحدهما بصاحبه، فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكتب، ومصحف فاطمة أما والله ما أزعم أنه قرآن) / المصدر 3 ص 154 ح 9 /
الرواية ضعيفة كم اسلفت في سطور سابقة، ولكن يتكرر نفس الفرا غ هنا، أقصد قول الراوي (فأثني عليه قوم)، حيث هناك سؤال مشروع عن سبب هذا الإخفاء.
ولكن نجد ذات الظاهرة هنا، لقد سيق مصحف فاطمة في جو سياسي، جو صراع، في معرض مشاكل شخصية ليست من النوع العادي، في تيار من علاقات متازمة...
نقرأ في بصائر الدرجات (حدّثنا محمّد بن اسماعيل،عن أبي نجران، عن محمّد بن سنان، عن داود بن سرحان، ويحي بن معمَّر، وعلي بن أبي حمزة،عن الوليد بن صبيح قال: قال له أبو عبد الله عليه السلام: يا وليد إنّي نظرت في مصحف فاطمة فاسئل فلم أجد لني فلان فيها إلاّ كغبار النعل) / المصدر 3 ص 161 ح 32 /
الرواية ضعيف بـ (محمّد بن سنان)، هو غال، مرة أخرى نجد مصحف فاطمة يحضر حضورا قويا في خضم المعركة من اجل القوة وا لسلطة والحكم. فالمقصود ببني فلان هم بنو الحسن، الذين دخلوا في معركة ضروس مع العباسين من اجل الحكم، وكانت لهم مساجلات حادة أتباع الصادق عليه السلام، حيث ادعوا الامامة، و رأوا أن الحكم من حقهم وليس من حق غيرهم. وهنا يستنجد الصادق ليؤكد أن بني الحسن ليس لهم من حظ الحكم شي، وذلك من خلال النظر في تضاعيف مصحف فاطمة !!
كان المصحف المزعوم إذن آلية صراع، آلية توثيق، ولكن حسب علمنا إن مادة التوثيق ــ وهي هنا ورقة على كل حال ــ يجب أن تكون علنية، مشهودة، يقرأها الأخر، بل يقرآها الاتباع، لانها وثيقة، والوثيقة تُقرأ لا تُخفى،حتى إذا كان مدعيها ثقة.
يبدو أن التعرض لقضية بني الحسن سيقت إنتصارا لمصحف فاطمة وليس العكس، بدليل أن الروايات تركز على شمول هذا المصحف لكل ما كان وما يكون.
تقول الرواية (عدّة من أصحابنا،عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن حمّأد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك إني نظرت في مصحف فاطمة...) / أصول الكافي 1 ص 296 ح 2 /
الرواية غامضة، فمن هؤلاء الزنادقة؟
يذكر صاحب الحاشية على (أصول الكا في) إنّ المراد بهم أبو الخطاب وابن أبي العوجاء وغيرهما ممّن إبتلى بهم الإمام الصادق عليه السلام، أو المراد بهم بنو العباس الذين فتحوا المجال واسعا أمام الزنادقة وغيرهم من الغلاة ليفسدوا عقائد الأمة، ويحاربوا بها سنة أهل البيت عليهم السلام.
ولكن من يقول أن هذا التوصيف بالزنادقة الذي خرج على لسان الإمام الصادق يقصد به هؤلاء؟
هل كان هذا التوقيت قبل حصوله فعلا؟
لسنا نعلم.
لعل الجواب كان يقرر حالة واقعة فعلا، أي يتحدث عن حالة وا قعة ، وليس من عن حالة ينتظرها الزمن، وبالتالي، ليس هناك أي تنبؤ، ولا خبر عن مستقبل آت حتما.
حقا إن ممّأ يسهل الخطب أن تكون الرواية ضعيفة السند، فـ (عمر بن عبد العزيز) مجهول حسب معطيات علم الدراية الشيعي.
ولكن مما يدعو للدهشة أن تكون حصيلة معارفنا من مصحف فاطمة المزعوم عن طريق أهل البيت عليهم السلام هذه المعلومات البائسة، فيما هو الكتاب الذي يعادل كتاب الله ثلاث مرات، ويحوي علم ما كان وما يكون !
لا أستبعد أن مضوعة مصحف فاطمة جاءت في سياق سجال حول مصاحف مدعاة وصحف هي الاخرى مدعاة، على نحو يوصل صاحبها بصاحب الرسالة الكريمة، بعلاقة قدسية، علاقة تبقى خالدة أبد الدهر، ومنها ما يسمى بـ (الصحيفة الصادقة) لعبد الله بن معاوية بن عمرو بن العاص التي يدعي إنه دوّنها مباشرة عن النبي الكريم، وهناك صحيفة علي بن أبي طالب، وصحيفة سعد بن عبادة المتوفي سنة 15 هجرية، ومنها صحيفة أبي شاه الذي أمر النبي بأن يكتبوا له. وكلها تحتاج إلى إثبات، رغم أن البخا ري ينقل عنها !
إن قراءة عميقة لروايات (مصحف فاطمة) تكشف عن هشاشتها، وضعفها، وتناقضها، لا يوجد لمصحف فاطمة أي دليل قوي في التراث الجعفري النظيف، والسني المسلم الواعي، الهادف إلى وحدة كلمة المسلمين أن يعي هذه الحقيقة ويدافع عن المذهب الجعفري على ضوء المعطيات العلمية الجعفرية بالذات. ولكن أعود وأقول: طبقا لما يقوله البعض من أن مصحف فاطمة لا يعدو مصحفا قرآنيا كتبه الامام علي لفاطمة أو لا يعدو أن يكون مجموعة روايات ألقاها رسول الله على فا طمة وكتبها علي بخطه، أقول: إن المصحف بهذه من المعادلات البسيطة، لا ضرر منه، بل له نظائر كثيرة في التراث السني.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.