في خضم المواقف والبيانات والتصريحات والكلام الكثير،المغلف والمقشور،الذي يتناثر هنا وهنا حول العراق كالمطر الاستوائي،يكاد المرء يقع في تيه :من هو مع العراق حقاً ؟ومن هو ضده ؟ الكل يدعي وصلاً بالعراق، كثيرون، عراقيون عرب ومسلمون،يدعون العمل لصالح العراق وخيره،وحب العراق وأهله وكم "من الحب ما قتل"! وهذه هي النتيجة كل يوم :متفجرات تقتل الأطفال والنساء وتبدد الثروات واغتيالات وخطف وتشويه سمعة وتسميم حياة وأرواح!وتقهقر لركب العراق إلى الوراء أو يظل واقفاً مكانه!وفي كل يوم نرى في تصريحات المسئولين الكبار التباسات،أو سذاجة وعدم قدرة على التمييز بين العدو والصديق!حتى إذا تجاوزنا العبارات الدبلوماسية! إذا لم يكن لدى العراقيين معيار واضح ودقيق لفرز من هو مع العراق،ومن هو ضده، ستظل الرؤية غائمة،والمسيرة متخبطة،والفوضى والبلبلة في المواقف والاجراءات تجر الويلات والكوارث كل يوم!
معايير كثيرة استعملت في هذا العالم لتحديد العدو والصديق،،ألقي كثير منها في المزابل أو احتفظ به هواة جمع التحف الأثرية فكرية أو رملية،ولم تتبق سوى المعايير المنسجمة مع استمرار الحياة وجمالها وعافيتها، ففي إبان الحكم النازي لألمانيا روج غوبلز وزير إعلام الدولة أن كل من هو ليس مع الفوهرر هتلر هو ضد ألمانيا، وكان استالين يأخذ بصرامة رهيبة بمعيار" كل من هو ليس معنا فهو ضدنا " فقطع به آلاف الرؤوس،ثم جاء المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفيتي ونيكيتا خروشوف وغير المعيار إلى "كل من هو ليس ضدنا فهو معنا "،وصدام كان معياره كما نعرف جميعاً،إن كل من لا يقول حفظه الله فهو ضد العراق،وخائن عقوبته الإعدام،الدول الديمقراطية واللبرالية معيارها واضح،لا شكوك ولا ريب مدمرة،الأصل في الإنسان البراءة، وإن كل من يحترم القانون والنظام العام الذي صوتت عليه أكثرية الشعب هو مع الوطن مهما اختلف مع حكومته أو مجتمعه!
بأي معيار ينبغي أن نأخذ والذي على أساسه يمكن أن يقوم اصطفاف الجماعات والأحزاب والشخصيات في العراق ويتحدد الطريق والنهج والنظام ؟لا بد من معيار دقيق عادل يطرح داخلياً أولاً وخارجياً ثانياً ليكون مقنعاً للعالم بما فيها الأمم المتحدة حيث العراق بحاجة لدعمها للبناء والتغيير ولمزيد من الشرعية ؟ لا ينبغي أن يطمح أو يتورط القائمون على الأمور في العراق بطرح معيار "كل من ليس ضدنا فهو معنا،أو مع العراق "فكما هناك كثيرون مقتنعون بالقادة الحاليين وإجراءاتهم مثلاً،هناك كثيرون غير مقتنعين بهم أو بالوضع الحالي بمجمله ولكنهم ليسوا ضد العراق وربما لا يقلون إخلاصاً للعراق عن غيرهم،من الأجدى طرح معيار أوسع يعتمد احترام الحياة، واحترام الإنسان ونبذ العنف والإرهاب وتأكيد حل الصراعات والمشكلات القائمة بالطرق السلمية! بهذا المعيار يكون مع العراق كل من يتصدى بيده أو بكلماته أو بقلبه للعنف و الإرهاب ويدينه مهما تبرقع بلبوس زائفة من مقاومة وطنية أو إسلامية أو قومية!
بالطبع نطمح جميعاً لجبهة عريضة لا تكتفي بنبذ العنف والإرهاب بل تدعوا وتعمل من أجل عراق يبنى على أحدث منجزات العلم والحضارة والسياسة، يقوم على الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتصفية الفساد والفدرالية والعدالة الاجتماعية،وينتظم كل ذلك بدستور متطور شرعي مكين، ولكن إذا كانت هذه معايير صعبة أو معقدة لدى البعض أو لا يستطيع الكثيرون تفهمها أو قبولها الآن فلنحتكم لهذا المعيار الواسع الذي يستطيع العبور بالعراق من مأزقه التاريخي الماثل ويترك تحديد الخيارات الاستراتيجية لمجلس ممثلي الشعب الذي سينتخب قريباً أو حتى للأجيال الصاعدة أو القادمة لاستكمال المهمات المتقدمة والمتطورة جداً!في ظل عدم توازن القوى،وعراق منهك ومدمر لا معيار للوقوف إلى جانب العراق أو في الأقل للاقتراب من محنته وجراحه غير التقارب والإتلاف على أساس إدانة العنف والإرهاب وإرساء الأمن والسلام فيه والاحتكام للعقل وحل خلافاتنا وصراعاتنا مع أنفسنا أو مع الأمريكيين بالطرق السلمية والهادئة!
وبهذا سيكون مقنعاً جداً تجليه القانوني المتمثل بقانون الطوارئ أو قانون السلامة الوطنية الذي ينبغي الشروع بتطبيقه على الفور وعدم إبقائه على الرف بانتظار يوم القيامة!
وفق هذا المعيار،نتساءل من هم مع العراق حقاً ؟هل هم العلمانيون والحداثيون والنهضويون والتقدميون العرب ؟ بالطبع إن هؤلاء إذا أدركوا جوهر نشاطهم العلماني والنهضوي سيقفون مع عراق اليوم الذي ينهض من رماد التخلف والعبودية ليغدو منطلق حضارة وتقدم وقاعدة لهم يلوذون بها أو يستندون إليها في نضالهم من أجل التغيير في بلدانهم ومنطقتهم والعالم أجمع،ولكن هاهي مجموعات كبيرة منهم تتمشدق بالشعارات التقدمية وما أن يذكر العراق وطريقه الجديد حتى تمتقع وجوههم، وترتجف أياديهم، ويتلجلج الكلام على شفاههم ويروحوا يشتموا العراقيين ويصفوهم بالعمالة والانحراف منذريهم بالويل والثبور ؟إنهم ينظرون ويفلسفون ويبررون للسيارات المفخخة وهي تقتل أطفال العراق ولعصابات قطع الرؤوس على أنها مقاومة وكفاح شرعي!
هل هم المتدينون من مختلف الأديان والطوائف ؟ ولم لا ؟ هؤلاء إذا عادوا لحقيقة الدين بصفته نفحة كبرى تمنح نسمة أمل وسكينة للبشر الممتحنين بالوجود الصعب فإنهم سيكونون مع عراق تعب من الحروب والحرائق والهزات وآن له أن يستريح،في الأقل ليرى وجه السماء بعد ما هطع وانكب على الأرض طويلاً،وحتى إذا سار في طريق العلم والعلمانية فإنه لن يكافح أو يعادي الدين،إذ العلمانية لا تعني الإلحاد، كما إن الدين كإيمان وعلاقة روحية بين الإنسان والرب غير معني بتفاصيل العلم! ولكننا إزاء هذه اللوحة تطالعنا مفاجئات قد تبدو غريبة للبعض!
فأنا كعلماني أجد إن الحوزة الدينية في النجف بقيادة السستاني،ورجال دين سنة معتدلين في الموصل وبغداد والسليمانية وأربيل والرمادي نأوا بأنفسهم عن الإرهابيين وشجبوا جرائمهم،وتفهموا عقد المسار وصعوباته ونصحوا بالصبر،والنضال السلمي أقرب إلى عقلي وقلبي من رفاقي العلمانيين في مجمع الأحزاب الشيوعية العربية،والأحزب القومية،وجوقة الشعراء والروائيين والنقاد في مصر وغيرها الذين يطلقون زعيقهم من بيروت ودمشق وعمان محرضين على قتل أهلنا وشرطتنا الجديدة وحرق نفط العراق الذي عبوا كثيراً من كوبوناته،وشققه وساعاته الذهبية!وفي وطني يحزنني حقاً أن مثقفين ومبدعين عرفوا بكونهم علمانيين أو بتاريخهم التقدمي لا يجهدون أنفسهم في التفريق بين رفضهم للاحتلال (وهذه قناعاتهم وحقهم )،وبين قبولهم أو عدم رفضهم وإدانتهم بنفس القدر أعمال العنف والإرهاب اليومي الذي يذهب ضحيتها عشرات ومئات العراقيين الأبرياء كل يوم باسم المقاومة! ليس من حقي طبعاً أن أفرض عليهم قناعتي حول دور الجيش الأمريكي في خلاصنا من نظام رهيب، ما كنا لولاه نستطيع الخلاص منه،لكن من حقي أن أسألهم إذا كان تفجير السيارات وقطع رؤوس الأجانب والعراقيين هو الوسيلة الصحيحة والناجعة لإجلائهم ؟ هل يريدون تكرار النموذج الفلسطيني الفاشل والمدمر في العراق ؟لنجرب هدنة لمدة شهر مثلاً يكف فيها الإرهابيون عن القتل والخطف، في الأقل لإحراج القوات الأمريكية وإسقاط الحجة من يدها لتتوقف عن قصف الفلوجة،وإذا أصر الأمريكيون على القصف يمكنهم تسجيل نقطة ذنب عليهم،تفتح باب النقاش حول جدوى الحل السلمي!
بعض المثقفين والإعلاميين يطالب الحكومة وشرطتها،أو القوات الأمريكية،نبذ أساليب القوة والعنف،وهذا نصف الحق، ولا يقول النصف الثاني حين يسكت تماماً عن جنون الإرهابيين (المقاومين )وأساليبهم المنحطة والقذرة! حين يكون المعيار مع الجميع هو حق العراق في الحياة والأمن والسلام بينما يفتح الباب واسعاً لكل الخيارات الأساسية التي يريدها شعبنا،تتسع مساحة حركة العراق والعراقيين وتضيق ساحة أعدائه! وبالطبع ينبغي أن لا تأخذنا أوهام أو أحلام وردية كلما أمتلكنا ناصية أوسع من الحق،
فطهران ودمشق وجامعة عمر موسى،قد تخفف من غلواء خطبها النارية أو تقلل من فتاوى حرق بلد يقولون أنه شقيقهم في القومية والدين بالسيارات المفخخة وقتل الآلاف لمجرد إنهم موظفون في الدولة،لكنهم بالطبع سوف لن يكفوا عن إرسال الإرهابيين عبر الحدود،وإعادة حقن فلول حزب البعث المنهار بالمال والهستيريا،لأن الأمر بالنسبة لهم قضية حياة أو موت،آنذاك ستكون منازلة العراقيين لهم قوية وثابتة وواسعة إذ هي ليست دفاعاً عن نظام جديد،أو قادة جدد، بل دفاعاً عن حياتهم وأمنهم وكرامتهم!فيمكن لأي شخص أن يقول لمصدري الموت : أيها الأشقاء الأعزاء لا نريدكم أن تكفوا عن شتم الأمريكيين في العراق،وتوعدهم بأكلهم أو رميهم في البحر إذا اقتربوا من حدودكم، لا نريدكم أن تقفوا مع حكومة إياد علاوي والياور أو الديمقراطية والفدرالية،ولا إعارتنا صناديقكم الانتخابية الزجاجية الشفافة بعد ما انتهيتم من انتخاباتكم الرائعة، كل ما نريده منكم وقف موجات العنف والإرهاب المتدفقة من أراضيكم إلينا،لأنها ببساطة تحرم أطفالنا من النوم كأطفالكم!
- آخر تحديث :
التعليقات