علمت من الصديق الدكتور حسام صالح جبر مؤخراً بان الصديق عزيز سباهي مريض وفي حالة حرجة، قلقت عليه وتداعت في نفسي ذكريات كثيرة! كنت رفيقاً له في الحزب الشيوعي العراقي، أو بالأحرى كان قبل ما يقرب من أربعين عاماً يقود خليتنا الصغيرة في هذا الحزب الذي كان في عقدي الخمسينات والستينات كبيراً ( وإذا مشى يهز الأرض ) وقد جمعتنا أنشطة حزبية مختلفة ولسنين عديدة ثم تفرقت بنا السبل فكراً وأرضاً ومنذ زمن طويل أيضاً!
تجاوز عزيز الثانية والثمانين من العمر، دخل قبل أيام مستشفى جراحة القلب في كندا، وكان رجاؤه الوحيد من طبيبه أن يصلح قلبه بما يكفي ولو لأسابيع قليلة لينهي الجزء الثالث من كتابه الضخم عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي! وبعد أن تمت العملية الجراحية بنجاح قال له الطبيب إنه قد زرع في قلبه شرايين تكفي ليكتب بها تاريخ الحركة الشيوعية العالمية كلها! لكني أعتقد أن عزيز نفسه يعرف أن كتابة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي وحده يقتضي شرايين من الفولاذ لا يعرفها أطباء العالم!
فالحزب الشيوعي العراقي لا يحمل فوق كتفيه أحزان ماضية وحسب بل ثقلاً كبيراً من أحزان العراق كله! لقد كان لا عباً رئيسياً في المسيرة الانقلابية أو التحديثية للعراق، وقد تألق على طريق الآلام التي سار عليها مثقفون ومبدعون كثيرون منهم من غادره لأحزان أخرى، ومنهم من بقي في المواقع الحالية وهؤلاء يشكلون الجانب الحساس أو الواعي من جسد الحزب الذي ترهل فترة وترشق فترة أخرى وهم من ينتظر منهم قول كلمة الحق والموضوعية في حجم مسؤوليته حول ما مضى أو ما آل إليه العرق اليوم!
لقد خاض سباهي غمار كتابة تاريخ الشيوعيين العراقيين هذا الذي ظل موضع نزاع وخلافات وأحجام وتلكؤ ومماطلة من قادة بارزين تعاقبوا على مراكز القرار في الحزب وكانوا لا يريدون الخوض أو حتى مقاربة مفاصل أساسية فيه ربما لأن بعضهم كان متورطاً بمواقف سابقة غامضة أو مشبوهة أو مدانة ولا يريدها أن تعكر مزاجه بينما هو كان يتربع على رأس الهرم الحزبي!
أعتقد إن ما دعا عزيز لخوض هذه المغامرة هو ليس حسمه للجدل المرير حول هذه الخطوة وهي ضرورية فعلاً، ولا حبه للظهور أو المنفعة المادية، فهو زاهد متقشف تتسم حياته باللطف والبساطة ( وعادة سينتفع من الكتاب ناشر معروف حتى لو كتبوا على الغلاف quot;لمصلحة عوائل شهداء الحزب quot;) إنما هو تكوينه الداخلي المرهف الخاص فهو شاعري المزاج فنان في بداياته ومنبثق من الديانة المندائية وهي ديانة أصيلة أقدم من الإسلام تقوم على جريان الماء وعلى النداوة والنور وحب النظافة وتطهير الذات، كما هو مؤمن عميق متبتل بالشيوعية وليس لديه ذرة شك أن الشيوعية هي الفكرة الأعظم في الكون وإن الشيوعيين العراقيين كانوا وما زالوا صفوة المناضلين وأن حلمهم في بناء الشيوعية في العراق وفي العالم وإن مني بنكسات وانهيارات وهزائم لكنه في النهاية سيتحقق لا محالة! وإن شجرة آدم لم تبق خضراء لآلاف السنين على ضفاف القرنة إلا بانتظار الشيوعيين العراقيين ليلحقوا بها كل نخيل العراق وبرتقاله وأعنابه ونسائه السمراوات اللدنات ويكونوا الجنة الموعودة فوق الأرض وتحت الشمس! وإن كل ما قام به الشيوعيون من أعمال وما قدموه من تضحيات وما سفحوه من آلام سيذكره الناس الذين سيولدون في الأزمان القادمة ويقيموا من أجله نصباً يناطح الكواكب ويؤدوا حوله كل طقوس الوفاء والعرفان بالجميل! لقد كان عزيز بهذه الكتابة الطوية التفصيلية يسرد حلمه الخاص وأمله الأكبر و يسمعه هو حكاية مشوقة من نفسه مع الآخرين! وبذا تظل الشيوعية له ولناسه توقاً وظمئاً مشبوباً إلى الأبد!
عزيز سباهي كما عرفته عن قرب لسنوات طويلة ينتمي لشريحة من الشيوعيين يمكن أن ندعوهم بالشيوعيين الأبديين! البعض يسميهم بالمخضرين، آخرون يسمونهم بالعتيقين أو المزمنين وخميرة الثورة الدائمة ثمة عراقيون يسمونهم بالعامية بالمسلكيين ويقصدون سلك الموظفين أو الحرس القديم ولكني أفضل تسمية عزيز ومن معه بالأبديين لأن لهم باصرة فكرية وقوة تخييل وتصور لا يستهان بها! فهم يعتقدون أنهم يمتلكون حلماً هائلاً وضميراً أكبر منه يستطيع أن يستوعبه ويمتد به من بدء ظهور الحياة البشرية على الأرض وقيام فردوس المشاعية البدائية ( تقابله في الأديان الجنة وسعادة آدم وحواء الذين طردا منها بسبب إدعاء خطيئتهما) وحتى وصول الإنسان ربما بعد مائة عام أو ألف عام للحياة الشيوعية المتألقة الحرة السعيدة ( والتي تقابلها في الأديان عودة آدم وحواء وذريتهما للجنة بعد توبتهما وطاعتهما للرب ) الشيوعيون الأبدييون يعتقدون أنهم الجسر الذي ينحنى لخطى الجموع الهادرة وهي تخب الخطى عليه في مسيرتها نحوا المستقبل الوضاء، وهم الأفق المنير العطر الذي يربط ظلمات الدنيا بالفجر التاريخي الباهر، وهم يؤمنون بالشيوعية وقادتها ورموزها وكتبها أيمان المتعبد بدينه وربه ونبيه واليوم الآخر! و يتصفون بالثبات على الفكرة والثبات على الموقف لحد كبير، لا يتزحزحون عنه مهما لاقوا من اضطهاد وأذى! عزيز سباهي سجن في العهد الملكي عشر سنوات قضاها في نقرة السلمان معزولاً مع رفاقه عن العالم تحيطهم صحراء السماوة وذئابها وأفاعيها وشرطتها ورمالها، وفي العهد الجمهوري سجنه قاسم أيضاً سنوات أخرى امتدت حتى انقلاب البعث الدموي في 1963 وقد حاول الحرس القومي في بغداد جلبه من الموصل لإعدامه في بغداد بعد أن أعدموا شقيقه صبيح عامل المطبعة الشيوعي في مذابحهم الشهيرة ولكن رئيس سجن الموصل رفض تسليمه امتثالاً لعادة عشائرية لديه تقضي بعدم جواز تسليم رجل يعرف إنه سيقتل! كل ذلك لم يجعله يتخلى عن فكرته على العكس زاد في إصراره عليها واليوم وقد انعطف التاريخ انعطافته الحاسمة الكبرى وأطاح بالاتحاد السوفيتي القلعة الأمامية الكبرى للشيوعية مع منظومتها المتراصة الطويلة خلفه، وراحت الزلازل الأيدلوجية تترى والبراكين الفكرية تقذف حممها والدماء تغلى والنظريات تتصادم وتتفجر وتتكشف حقائق وتنقلب مفاهيم وتتهتك مواقف وتنهار صروح فإن عزيز سباهي وغيره من الشيوعيين الأبديين ظلوا ثابتين على قناعاتهم الأولى بل صاروا أكثر عناداً وتمسكاً بها من ذي قبل وحجتهم في كل ما جرى إن الخلل في التطبيق وليس في النظرية وإن العلة في الرجال والمنفذين وليس في الخطة الشيوعية الأساسية بل هم ربما يعكسون المقولة الشيوعية المعروفة معتقدين بأن النظرية خضراء والحياة رمادية! محرمين الشك على أنفسهم وأتباعهم محورين مقولة ديكارت إلى (أنا شيوعي إذاً أنا موجود)!
هذا لا يعني أن الشيوعيين الأبديين غير أذكياء أو تعوزهم النباهة على العكس فكثير منهم قد عرف ببراعته ونجاحه بل وتفوقه في ميدانه الفكري أو العمل وبحوث عزيز سباهي في المسألة الزراعية أو الاقتصادية كانت جادة ومفيدة وتلقى ترحيباً وثناءً من المختصين!
ربما سبب هذه الرؤية التي قد نراها متحجرة أو جامدة هو أن الشيوعيين الأبديين يسكنون داخل الفكرة لا خارجها لذا من الصعب أو المستحيل عليهم أن يروا الفكرة على حقيقتها أو حجمها وكثافتها بين الأفكار والنظريات الأخرى، بل هم لا يرون من الحياة نفسها إلا ما يتعلق ببقايا نبض الفكرة في رحابها الواسعة!
إنهم يستمرئون آلامهم وعذاباتهم بل يحبونها لا لأنهم مازوشيين مولعين بتعذيب أنفسهم كما يحلوا للبعض وصمهم بل لأنهم يجدون أن من صميم الفكرة ومن طقوس منشأها تحمل الألم والعناء والصبر الجميل على البلوى ومجابهة التحديات ( يمكن الرجوع لحياة ماركس الذي اختار العذاب لنفسه ولعائلته في بيته الفقير البارد الرطب في لندن وهو الذي كان بإمكانه أن يعيش ثرياً منعماً ) أتذكر من الشيوعيين الأبديين الممثلة الرائدة الصديقة(زينب) لقد ضحت هذه الممثلة القديرة الجريئة بشهرتها وبيتها في العراق وخشبة المسرح التي كانت تحن إليها حنين فاختة لسدرة البيت وسكنت المنافي متمسكة بحزبها وفكرتها. كان السرطان ينهش أحشاءها وهي تبتسم وتقول ( أنا سعيدة سأموت وأنا شيوعية )، والفنان رشاد حاتم، كان ذا موهبة تشكيلية كبيرة لم يكن يشكوا من ثقل جدران السجن على صدره وإنما من ثقلها على فرشاته ولوحته، قال له فهد مؤسس الحزب وكان سجيناً معه (ادفع الجدران بعيداً عنك وسترى الأفق البعيد وترسم) بالطبع كانت نصيحة إرادوية كديدن فهد لم تجد نفعاً مع فنان يريد التجربة الخاصة والملاحظة البصرية الحقيقية والألوان والقماش والحرية.رشاد حاتم افتدى الحزب للأسف ليس فقط بروحه بل بقدراته الفنية الكبيرة التي يشهد لها فنانون حداثويون حتى اليوم، زرته في السبعينات في بيته في الكاظمية مع مجموعة من أعضاء خلية كانت تعمل في وسط الفنانين وقد صور هذا اللقاء وحواراته في فلم وثائقي مؤثر لا أدري أين هو الآن. كان في الرمق الأخير وما كان منشغلاً بلوحاتة القليلة النادرة بل كان يسأل عن آخر أخبار الحزب والحركة الشيوعية !كان شيوعياً أبدياً نقياً نقاء فجر الكاظمية على شاطئ دجلة في لوحته! وغير بعيد عنه أبن محلته أيضاً الأديب والصحفي إبراهيم الحريري الذي يظل شيوعياً أبدياً حتى داخل اللحظة العابرة، فهو جاد لا بد أن تحمل ابتسامته شيئاً من رصانة الأبدية.إنه روائي جيد قرأت له عمليين روائيين متميزين لكنه لم يشأ مواصلة الكتابة الروائية وجد متعته وراحته في رفد جريدة الحزب بمقالاته المركزة، بعد سقوط نظام صدام ترك عيشه الرغيد في كندا والتحق بالحزب الشيوعي في بغداد، هو مازال يعتقد إنه يستطيع حمل الطبقة العاملة العراقية على كتفيه المنهكين ليصعد بها جبل النظرية ويضعها في الجنة التي على قمته! كنت أراه يأتي لوزارة الثقافة في بغداد على دراجة هوائية بوجه غير حليق وثياب خشنة يتعمد فيها عدم الأناقة بينما يصل الوزير الشيوعي بسيارة مارسيدس وموكب وحراسة. ربما كان الوزير طالباً في المتوسطة لم يسمع بالشيوعية عندما كان الحريري منفياً في بدرة بسبب الشيوعية! الشيوعي الأبدي لا يفكر كم أعطى وكم أخذ بل إنه يفرح إذا أعطى أكثر مما أخذ! آرا خاجادور كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي قارب التسعين من عمره فهو من رعيل فهد ( على خلاف مع الحزب الآن ربما بسبب الموقف من نظام صدام وربما بسبب الموقف من الإمبريالية الأمريكية والرجعية والإقطاع إلخ..) إنه يتجاهل آلام شيخوخته، ومتطلبات رعاية نفسه وينهمك بكتابة مقالات طويلة عن الشيوعية البكر النقية وعن هموم ومواصفات الحركة النقابية العراقية المطلوبة ويوزعها عبر الانترنيت كأنه ما يزال ذلك النقابي النشيط في محطة السكك الحديد في منطقة الشالجية! أهم خصال الشيوعي الأبدي إنه ربما يسمع بدبيب نملة على ثوب بروليتاري لكنه لا يسمع هدير عجلات الزمن الأكثر هديراً ودهساً من كل قطارات الشالجية!
الشيوعيون الأبدييون أقرب لنساك ورهبان ومتصوفة في صوامع متباعدة، تشتعل في أعماقهم نار هادئة متواصلة تستقي زيتها مما تحلل في الأرض من رفات الأحياء والأموات! ومن أحبار الكتب القديمة المقروءة منها وغير المقروءة! يتحملون أن تكون أعمارهم احتضاراً طويلاً في مخاض ميلاد أملهم من أجل الدنيا ومن أجل الناس لكنهم لا يتحملون أن تولد فكرتهم ذاتها من جديد فذلك هو الاغتراب القاتل لهم وذلك هو الموت الحقيقي! لا يريدون أن يعرفوا أن الأفكار تولد خارج صوامعهم كما البنين والبنات يراهقون معاً ويتمازجون معاً، ويختلط النسل والذرية وتتفتح الحياة في كل يوم بألف فكرة وألف نهج وألف ساحة وطريق! بعضهم يقبع في حجرته بين غبار الكتب لكثرة ما هو غارق في لجة نفسه لا يسمع استغاثة المؤلفين وهم يريدون الخروج من كتبهم وقد ضاقت بهم وأصبحوا ينقضونها ويكرهونها ويحتاجون لمساعدة تلامذتهم لإنقاذهم ويطلقون الصرخات دون جدوى !
عشرات بل مئات من الشيوعيين العراقيين رايتهم أو سمعت عنهم تخلوا عن عوائلهم وأبنائهم وعن مواهبهم وطاقاتهم الإبداعية بل وعن ثرواتهم (ثمة أثرياء أنقياء ركلوا ثرواتهم والتحقوا بركب الشيوعية كأمل في أن تكون الثروة للجميع ) فلم يلقوا غير الملاحقات والسجون والتعذيب بينما ازداد الفقر والحرمان والألم وشمل للجميع! وتظل جنة الشيوعية تبتعد أكثر فأكثر فكانوا يعانون ويحتضرون وكل سعادتهم ونشوتهم أن أنهم سيموتون وهم شيوعيون!لقد صار حلمهم بالشيوعية تعويضاً عن الشيوعية ذاتها! إنهم كالمتدينين المنصهرين بمقدساتهم وكالعشاق الذاهلين الذائبين في أحبتهم! لم يقفوا مرة ليتلمسوا قلوبهم أو عقولهم كم تلقت من طعنات وضربات أو كم هي عن قصد أو غير قصد سددت من طعنات أو تسببت بويلات ؟ أو يتلمسوا فكرتهم هل هي حقيقة أم وهم؟ ماء أم سراب ؟ ممكنة التحقق أم مستحيلة؟ طريق إلى الكينونة والهوية أم إلى الهاوية ؟
شيوعيون أبدييون أزليون قادمون من مختلف قوميات العراق وأديانه ومذاهبه ( كان الحزب الشيوعي العراقي بوتقة صهر الجميع المتنوع ليخرجهم جميعاً سبيكة أخرى، ربما بالزي الموحد وإلى حين أيضاً، فما أن بردت بوتقته وارتخت أبوابه حتى عاد الكثيرون إلى آصالهم وجذورهم وقومياتهم وأديانهم وطوائفهم وعشائرهم وعنعناتهم)
التقيت عزيز سباهي عام 1969، يومها رٌحلت من إحدى منظمات الحزب للعمل في تنظيم الأدباء والصحفيين فوجدته هو الرفيق المجهول الذي قادتني إليه ورقة الترحيل كما تقود كتب التنجيم باحثاً عن حظه، وجدته في علاوي الحلة قريباً من سينما بغداد على ما أتذكر، يقف أمامي بقامته الطويلة ووجهه البيضوي الأسمر وابتسامته الحزينة على الدوام ( لم أجده يوماً ضاحكاً فرحاً كطفل إلا هو يحدثني قبل حوالي ربع قرن في الجزائر عن سهرة في التلفزيون شاهد فيها وردة الجزائرية في حفلة تغني باقة من أغانيها من ألحان بليغ حمدي ربما كان أمثال هذه الفرحة الصغيرة هي ما يقتات عليه في حياته في المنافي العديدة التي تنقل بينها ) كان يعمل آنذاك رئيساً لقسم الدراسات الاقتصادية في جريدة الثورة، ومثلما كان هو يعرف أن هذه الجريدة ناطقة باسم حزب البعث الحاكم كانوا هم يعرفون به كادراً شيوعياً.كان قادة البعث في تلك الأيام يدعون أنهم يريدون بدء عهد جديد من التعاون مع الشيوعيين وبناء دولة تقدمية ومجتمع جديد، لكنهم في الواقع كانوا يعذبون ويقتلون الشيوعيين من كلا التنظيمين اللجنة المركزية والقيادة المركزية وأصدقاءهم في أقبية سجونهم في قصر النهاية وغيرها من السجون السرية والتي هي بيوت وقصور عادية حورت من الداخل كمعتقلات وأقبية رهيبة للتعذيب والتصفيات الجسدية، وقد بدأت تتكاثر في العراق في عهدهم أكثر من دكاكين القصابين في أزمان بداية الجفاف وذبح الماشية!
كانت خليتنا تعمل آنذاك ضمن خطة الحزب لإعادة بناء تنظيماته بين الصحفيين والكتاب والفنانين بعد الاضطهاد والسحق الطويلين خاصة إثر انقلاب شباط عام 63. كان العمل صعباً ثم أضحى مستحيلاً تقريباً في ظل اعتقال وقتل أعضاء الحزب ومرشحيه وأصدقائه وإسقاطهم سياسياً في القواعد الحزبية والذي شمل حتى من يتجاوب مع الشيوعيين أو يتعاطف معهم بينما أبقوا على سكرتير وأعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية والكوادر المحيطة بها بل تركوا بعضهم يظهر بشكل علني متجولاً في شارع أبي نؤاس أو ملقياً محاضرات في المعهد الثقافي السوفيتي أو مطلقاً مقابلات صحفية أو حاضراً احتفالات مئوية لينين في السفارة السوفيتية وقرع كؤوس الأنخاب حتى مع ممثلي البعث المتدثرين بالماركسية آنذاك (اغتال صدام منهم من يعتقد إنه يعمل في الخط العسكري كعضوي اللجنة المركزية ستار خضير وشاكر محمود والكادر المتقدم محمد الخضري وآخرين كثيرين ) وبعد أن حطم صدام قيادة تنظيم القيادة المركزية الشيوعي وسحق كوادره وأعضاءه بهمجيته ووحشيته البعث المعهودتين كانت المهمة الكبرى المطروحة أمامه آنذاك التفاوض من أجل جبهة وطنية ( قال إنها ستناضل حتى آخر بعثي ضد الإمبريالية والصهيونية وتبني العراق على أسس تقدمية واشتراكية ) لكن حواره الحقيقي كان هو ذلك الذي أوكله للجلادين وأدواتهم المتطورة في التعذيب و(بعضها كان يستورد من الدول الاشتراكية) وبين رفاقنا المساكين في أقبية التعذيب وعلى طاولات قلع الأظافر والصعقات الكهربائية، كان صدام يشرف بنفسه على حفلات التعذيب ويغنيها بتوجيهاته القيمة! كل ذلك دعا الحزب عام 1970 لوقف الاجتماعات الخلوية وجعل النشاط الحزبي يقوم على الصلة الفردية وقد بقيت صلتي بعزيز في تلك الفترة وثيقة. كان آنذاك يركز لا على العمل وشكليته بل على جدواه ووضوحه والمضي به دون تجاهل الأخطار المحدقة أو محاولة تحديها بطرق عنترية فارغة وقد ظل محافظاً على دقة مواعيده معنا كخلية مفرقة رغم صعوبة الظروف. أتذكر إنني في عام 1970 نشرت في مجلة ألف باء الأسبوعية تحقيقاً واسعاً عن الدروايش بعنوان quot;الدراويش أشباح تبحث في دمها عن الحقيقةquot; أظهرهم بالعديد من الصور الملونة التي غطت غلافي المجلة وهم يخترقون بالسيوف بطونهم ونحورهم وأحشاءهم حتى تخرج من الطرف الآخر دون أن تحمل قطرة دم، لكن أخطر ما تطرق إليه التحقيق أو تورط فيه هو حديثه عن أساليبهم البشعة في استغلال الدين وممارساتهم السرية الجنسية الشاذة مع الغلمان والحيوانات إضافة لتخفى بعضهم في هيئات نساء لدخول البيوت ومخالطة النساء في حياتهن الخاصة! وقد لامني عزيز سباهي بصفته مسؤولي الحزبي على هذا التحقيق لأنه برأيه يصرف أنظار الناس بهذا الدم المزيف عن دماء حقيقية ينزفها رفاقنا الشيوعيون في سجون البعثيين ولم يقتنع بقولي له إنني أفضح دعاة الفكر المثالي من أجل فكرنا المادي! لكن حين هددني الدراويش بالقتل لما لحق بهم من هذا التحقيق الذي انتشر حيث صارت المجلة تباع في السوق السوداء بأضعاف سعرها وقف سباهي بجانبي ووجهني للخلاص من هذا المأزق الذي زججت نفسي فيه دون أن أدرك توازن قواي مع دولة يحكم الدراويش جانبها المعتم غير المرئي! كان معروفاً آنذاك إن عزة الدوري درويشاً وكما يقال مسؤول خط الدراويش في حزب البعث ومجلس قيادة الثورة ( تطور فيما بعد إلى انقلاب ديني داخل حزب البعث وحملة إيمانية شملت العراق كله حتى سقوط البعث فبعثت بالموجات الإرهابية والتدميرية الجارية الآن من غلاة ومتعصبي الطائفتين السنية والشيعية!)
كان سباهي مهما تمسك بالعقل البارد حريصاً على اللمسة الإنسانية التي رايتها للأسف ضعيفة أو معدومة لدى كثيرين من الكوادر والقياديين الشيوعيين ممن عملت أو عشت معهم في لا حق الأيام ( لكن كثير من الشيوعيين تمسكوا بها ودفعوا ثمنها، قال لي أحدهم ممن تركوا الحزب : لا شيء يلوث الروح ويفقدها نقاءها كرذاذ أفواه القياديين الحزبيين الأدعياء المتبجحين) بعد انهيار ما سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية وخروجنا أو هروبنا من العراق وجدته في الجزائر فواصلنا العمل سوية في قيادة تنظيم الحزب في الجزائر وقد اختار هو العمل في مجال البحوث والدراسات فكتب الكثير من البحوث والمقالات كان يوقعها باسم نصير الكاظمي خشية أن يلحق الأذى بابنه سعد الذي لم يستطع إخراجه من العراق وبقي أشبه برهينة لدى البعثيين وإن كان يعيش في بيت عمه عبد الإله!
بعد أن خرجت أنا من الحزب الشيوعي واخترت التفكير الحر والموقف الحر وعدم الانخراط بأي تنظيم والانصراف للكتابة سمعت إن عزيز رفيقي القديم قد امتعض مما أتخذت من فكر ومسار جديدين وقد أعطيته الحق في ذلك فالشيوعي الأبدي يحرص على صف الشيوعيين ويريده قوياً متراصاً لا يقبل أن يقلق أحد فيه أو يتململ أو يترك الركب فيتخلخل وينهار.
والشيوعي الأبدي إذ يحكم على نفسه بالسجن المؤبد داخل الفكرة مع الآشغال الشاقة طبعاً فإنه لا يقبل بأقل من السجن العادي للآخرين داخل الفكرة التي لا يدري كم هي مغلقة ومستحيلة! لكنني خابرت عزيز حين جاء إلى السويد بزيارة لإلقاء محاضرة في النادي المندائي في لوند فوجدته ذلك الصديق الذي يبقى دافئ القلب والروح مهما تلبدت الأيام والأرض والنفوس بالصقيع والظلام! وحين عاد إلى كندا وصلني منه كتابه المترجم ( مستقبل الرأسمالية : لستر ثورو ) حاملاً إهداءه العذب بخطه الجميل الذي عرف به!
كان عزيز سباهي في مطلع شبابه رساماً وخطاطاً بارعاً لكنه في مسيرته بين السجون حيث الحصول على الفرشاة والقماش والألوان صعب أو مستحيل، أو قد يبدو ترفاً برجوازياً أهمل موهبته الفنية كرشاد حاتم وتعلم الإنجليزية بديلاً عن الرسم ليترجم بها كتباً عن المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية وينشرها بعد إطلاق سراحه مسلسلة في جريدة النور التي كان يرأس تحريرها جلال الطالباني!
قد يبدو للبعض أن الحياة لا تحتاج الشيوعيين الأبديين! فغيابهم لن يعطلها أو يؤخرها أو حتى لن يغير في إيقاعها لكن وجودهم جميل بلا شك فهم يجترحون محاولات بشر طيبين ليكونوا ملائكة! المتصوفة ينطلقون من الفكر الغيبي والمثالي إلى رحاب ملائكي وأثيري والشيوعيون الأبديون ينطلقون من الحالة المادية إلى فضاء ملائكي أو أثيري! ويصعب الجزم أيهم عانى أكثر لكن معاناة الشيوعيين الأبديين والشيوعيين عموماً كانت مثقلة بكل جور الحكام وسجونهم وسياطهم ومشانقهم! يتهم البعض الشيوعيين بجرائم قتل وسحل لو راجع المنصفون التاريخ بموضوعية سيجدون أن الشيوعيين لم يرتكبوها أو في الأقل إن قياداتهم لم تأمر بها ولم تقرها! إن جناية الشيوعيين بحق أنفسهم وبحق مجتمعهم تنحصر في كونهم طرحوا وبإصرار ولجاجة طريقاً للتغير هو المستحيل بعينه فبددوا طاقاتهم وطاقات شعبهم واستفزوا الأعداء فافترسوهم وافترسوا الناس ومستقبلهم معهم!
الشيوعيون الأبدييون بطبيعتهم وبنهجهم المكتسب طهرانيون يفهمون النقاء على إنه وضوء للصلاة والحج والإنجاب لذلك فإن غالبيتهم غير راضين على تحلف حزبهم في بغداد مع الأمريكان لكنهم كأي متعبدين متبتلين لا تطاوعهم قلوبهم على المجاهرة في الخلاف بل هم يظلون يدعمون حزبهم ويأملون أن يجد يوماً طريقة علمية ديالكتيكية لبناء سفينة نوح يجمع فيها العراقيين ويعبر بهم الطوفان!
الشيوعيون الأبديون لا يستطيعون أن يعطوا مثالاً أو دروساً في النظرية التي أضحت متحجرة وعقيمة معهم أو بدونهم، بل هم يقدمون مثالاً في إصرار الإنسان على حلم كبير وأمل كبير وعالم آخر غير عالمنا المثقل بالاستغلال والحروب والضلالات الأخرى !
ربما كل منهم يغني بيت الشاعر المجهول على لحنه الخاص : (منى إن تحققت تكن أحسن المنى __وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا) ولكن عيش الشيوعين على كل حال لم يكن رغدا!
إنهم ليسوا عزاء عن خيبات وهزائم الماضي حيث لا يجدي أي عزاء أو مواساة ولا مثالاً حزيناً على حلم في العدالة انطوى غارقاً بالدماء والرماد ولكن كأناس يمكن أن يكون نقاؤهم وصدقهم نموذجاً يمكن أن يحتذى من قبل مفكرين حيويين ورادعاً للمفسدين ومخربي الحياة والروح! قد تكون الحكمة العامة أو الفكر النظري والتطبيقي قد فسد لدي الشيوعيين لكن خبرتهم الروحية والعاطفية يمكن أن تظل منهلاً للشرفاء والطيبين في عالمنا الملء بالشرور والمفاسد! عزيز سباهي في ما كتب من تاريخ لحزبه لا بد إنه يدرك أعمق من كل هذه الخواطر لذلك فهو يمس الكثير مما كان قديماً من المحرمات الحزبية بإضاءة جريئة !
يمكن القول إنه رغم ثقل أفكاره أو جسامة النظرية التي يعتنقها والتي لم تعد تتسع لها الأبواب أو هي تبدوا ضمن أفكار الزمن الذي مضى بزهوه وفتنته وبهائه القديم ما يزال هو يستطيع أن يمر في المحافل الصحفية وفي رحاب قلوب المثقفين بيسر النسمات، ليس فقط لمنجزه الصامت والقابل للنقاش في الفكر والصحافة كجندي مجهول بل لأنه أيضاً كان يحترم نفسه كمثقف أولاً ولم يلمس أحد منها تدخلاً حزبياً فظاً أو مؤذياً في مجري العملية الثقافية في بغداد أو المنافي، كان يتحلى بالتواضع ونكران الذات فهو مع كل ما قدم للشيوعية والشيوعيين في العراق لم يقل إنه الشيوعي الأبدي أو الشيوعي الأول أو الأخير!
عزيز سباهي لم يحظر مهرجاناً ولا تكريماً في بغداد، بينما كرم من هم ليسوا بقامته، وذلك لا يثير في نفسه أسى على العكس هو وكما أتذكره يهتم كثيراً بنيل المثقف لحقه ومكانته
هو الآن عضو بسيط في الحزب بين شيوعيين استمروا مع تعرجات طريق الحزب الطويل دون أن يمتلكوا وعيه أو تجربته وبين شيوعيين موسميين يأتون الحزب كالبقالين وفق الأجواء السياسة والفصول الملائمة (بعضهم الآن يكتب عن الأدب وزعامة التنظيمات الأدبية بتبجح وادعاء) وبين انتهازيين قادمين مع الفرص المواتية وبين شيوعيين جدد يافعين أبرياء ربا هم الآن نواة الحزب وصلبه الحقيقي والذين يعول عليهم في التجديد والتغيير وهم لا يعرفون عزيز وربما غير مكترثين بتجربته وآلامه القديمة وبين محترفين قدامى منخرطين في سلالم الحزب حالياً صعوداً ونزولاً لهم وللناس مزاياهم وعليهم وعلى الناس مثالبهم، ولكن مهما اختلفت معهم ومهما كان الرأي بأن ما يجري اليوم في العراق هو في جانب كبير منه من غرس حزب أتى بفكرة مستحيلة للعراق سدت مجرى التاريخ بعنفوانها وطيشها وجنونها لكن لا يسعك إلا أن تسجل لهم مأثرة العمل في العراق عبر غلواء الجهل والتخلف والعاصفة الدينية المتحجرة وعاصفة الدين السياسي برأسي الأفعى الإرهاب المسلط من التكفيريين السنة والميليشيات الطائفية الشيعية المسعورة !
ما تركه عزيز وغيره من الشيوعيين الأبديين من أبديتهم البعيدة للواقع الراهن خيط نور هو في الظروف الحالكة أكثر سطوعاً من نار عفوية غامضة أوقدت في صحراء البدو في شتاء قارس. إنها شعلة نار مقصودة واعية تعرف الصحراء وتعرف قبائلها و ليلها البهيم الطويل، وتبشرنا بكل صدق بأن فجر الإنسان العراقي الحقيقي قادم رغم كل النكسات والظلمات !
- آخر تحديث :
التعليقات