ليس لحدث تدميري على، نحو محدود، من السعة وضخامة حجم أثره ردة الفعل عليه من، أحداث الحادي عشر من أيلول، حين تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى لغزو خارجي ( ولاسيما في الانتماء والهدف)، وهي التي اعتادت أن تتلقى الضربات الموجعة من على بعد عن أرضها من خلال الحروب أو الأعمال الإرهابية على سفاراتها أو مواطنيها أو مصالحها خارج أرضها، مما يجعل هذا الحدث الفريد من نوعه أول زحزحة لما يعزز المركزية القووية ( بتموقعها مركزا للقوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية) التي تمثلها الولايات الأمريكية المتحدة في مقابل المركزية الأوربية التي تعتمد العقل وافرازاته وهيمنته العرقية المتفوقة على من يعدون دونها عرقا ومنجزا وقيمة .
ما يؤكد هذه الزحزحة أن الضربة جاءت من الطرف الأضعف والأقل تطورا (المتخلف)، أي من الضحية المستمرة لنظرة الاستضعاف والاستصغار، سواء أكانت ظاهرة أو مضمرة من خلال الممارسات السياسية والاقتصادية وحتى النظرة الاجتماعية، وما يجعل من هذه الضربة مؤثرة في العمق أنها تتجاوز الحدود لتصل إلى المركز وتضرب رموز قوته :
1- السياسية : (البيت الأبيض ، حيث لم تنجح المحاولة) .
2- العسكرية : ( البنتاغون ، وكانت الضربة غير مدمرة بالمعنى الكلي) .
3- الاقتصادية : ( برجا مركز التجارة العالمي، وكانت الضربة الأشد والأكثر تدميرا حيث كان التدمير كليا. يضاف إلى ذلك الإساءة إلى نظم الطيران الأمريكية وفقدان التميز في الأداء للشركات النقل الجوي الأمريكية على الرغم من أن الرحلات كانت داخلية، وهذا ما يعزز الأثر السلبي بالنسبة لها ).
4- الأمنية : جهاز المخابرات الـ (سي آي إي ) ومكتب التحقيقات الفيدرالية الـ ( اف بي آي)، إذ وجهت ضربة معنوية مدمرة لأسطورة المنعة الأمنية، والقدرة على الاحاطة بالأحداث قبل حدوثها، والمهارة في اكتشاف ما غمض منها. مما يمنح هاتين المؤسستين الأمنيتين تميزا عالميا لا في أمريكا فحسب .
وهذا يعني أن هذه الضربة مارست تعبيرا رمزيا في استعمال العنف الرمزي اقتضاه التصاعد في الهيمنة الذي مثلته الولايات المتحدة الأمريكية كما يشير إلى ذلك بودريار .
ولكن ما الذي تعنيه 11 أيلول للعراق؟ وكيف كان التعامل معها عراقيا ؟ وما موقع العراق على خارطة الرد على هذه الأحداث، بشكل مباشر؟ قد تبدو هذه الأسئلة مهمة وكبيرة على معالجة سريعة كهذه، كما إنها بحاجة إلى الكثير من الوثائق والمعلومات، وحبذا لو أغنيت بذلك مستقبلا من أي طرف. غير أن ما يمكن معالجته في هذا الموضوع ضروري على الرغم من كل تلك النواقص .
لن ابدأ بحدث مخابراتي مخفي عن المعلومات حول علاقة محمد عطا من خلال السفارة العراقية في بلجيكا، بطرف من المخابرات العراقية زمن نظام صدام ، بيد أنني سأبدأ من حدث علني هو خطاب صدام حسين في 17تموز من العام 2001نفسه الذي شهد أحداث 11 أيلول، إذ أعلن صدام عن أطروحته التكهنية بانهيار أمريكا من الداخل ( إن أمريكا ستنهار من الداخل)، لتبدأ حملة إعلامية غير مباشرة عن هذه الرؤية لسياسية التاريخية، ولكن هذه الحملة لم تأخذ بنظر الاعتبار آنية حدوث ما ذكره (الرئيس القائد) آنذاك، فقد يكون جزءا من حكمته وتنبؤاته التاريخية / الحضارية بعيدة المدى . وهذا يثبت أن أي تعليمات حول خصوصية حدث ما في أمريكا لم تصدر للمؤسسة الإعلامية الموجهة حينئذ، إذ لا يمكن أن تسرب معلومات إلى الأجهزة الإعلامية وتنشرها من دون إذن مسبق. وتكررت هذه (النبوءة) ضمن خطابه المعتاد في ذكرى نهاية الحرب العراقية الإيرانية 8/8/ 2001: ( إن أمريكا ستنهار من الداخل) ؟ فهل كانت تلك (نبوءة) حقا، أو مصادفة حتى في توقيتها ؟ وهذا يعني أن ما كان يقال عن حكمة (الرئيس القائد) كانت حقيقة ولاسيما في ظل تحوله إلى الحملة الإيمانية آنئذ، ولكن كيف لم يتنبأ بما يحدث للعراق وله شخصيا؟! أم أنه كان على علم بما سيحدث، أو أسهم في دعم ضرب الولايات المتحدة كما أشارت إلى ذلك بخجل مصادر الاستخبارات الأمريكية، فضلا عن مصادرها السياسية وكانت من ضمن الذرائع لضرب العراق وإسقاط نظام صدام. ولكن إثبات ذلك أخذ بالتلاشي وبخاصة بعد إنكار الرئيس الأمريكي بوش مؤخرا عن أن يكون قد زعم أن صدام حسين أمر بضرب الولايات المتحدة في تلك الأحداث المشهودة . فهل لأن الوثائق لم تعد متوافرة أو لأنه لا وثائق ملموسة (عينية) في هذا الخصوص؟ في ظل غياب الشهادة الشفوية التي يتطلبها الكشف عن دور النظام السابق وأجهزته الأمنية والمخابراتية وقدراته، إذ أن ما تبقى من زعماء القاعدة مختفين عن الأنظار وطاردين من الولايات المتحدة، وكذلك كوادر القاعدة الذين قتل منهم المنفذون للعملية انتحارا وكذلك الكثير ممن يشنون هجمات إرهابية في العراق وغيره، ومع ذلك يمكن التساؤل عن إهمال خطاب صدام ذاك واعتباره خيطا للبحث في ذلك الموضوع .
فما الذي حدث بعد ذلك ؟ لقد كان التشفي والفرح بحصول العملية(الضربة) هو السمة الغالبة على رد فعل النظام، وقد نقلت قناة الشباب، التي يشرف عليها عدي صدام حسين، الحدث مباشرا عن طريق قناة الجزيرة التي غالبا ما كانت تلك القناة تنقل عنها خطابات أسامة بن لادن وأخبار المعارك في أفغانستان . فهل كان من الذكاء أن توكل مثل هذه المهمة إلى قناة غير رسمية ظاهرا هي قناة الشباب لا قناة العراق أو الفضائية العراقية؟ وبعد ذلك ولمدة وجيزة بدأت التبشير برؤية (القائد) النافذة وقدرته على استشراف المستقبل، وقد تم تغيير اتجاه هذا الخطاب، الذي يظهر الشماتة مع إشارة خفية لإظهار المسؤولية، بشكل غر مباشر، عما حدث، عندما برز تطور في رد الفعل الأمريكي الغاضب، ليتجاوز حد العمل العسكري المحدود، كما حصل في السودان وأفغانستان بالضربة الصاروخية المحدودة، فضلا عن الضربات التي كانت توجه إلى العراق في عهد الرئيس كلينتون، ولاسيما بعد محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب في الكويت، إذ أشير إلى تورط المخابرات العراقية بذلك وقصف مبنى المخابرات بعد ذلك . ولا ننسى في ذلك حرب الإجهاض / الاستنزاف التي كانت تشن على الآلة العسكرة العراقية ولاسيما في الدفاع الجوي (مضادات الطائرات الصاروخية)، والتهيئة لغزو العراق وإسقاط النظام، مما يلمح إلى أن هذا التهديد/ النبوءة، في الخطاب ومن ثم الفعل يشكل ردا عمليا على ما يمكن أن يحدث لأمريكا إذا ما أقدمت على غزو العراق .
بعدها بدأت حملات التبرؤ من العملية الإرهابية والعلاقة بتنظيم القاعدة، ولاسيما في لقاءات طارق عزيز الصحفية وبخاصة القنوات الفضائية، فضلا عن الإبلاغ بالموقف عبر لقنوات الدبلوماسية، بل عبر العراق عن استعداده للتعاون في هذه الأزمة مع الولايات المتحدة (مع الشعب)، وذلك على لسان صدام وأعضاء قيادته. وكل هذا التراجع سببه الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة على مناوئيها،ويقف النظام العراقي على رأسهم، بوصفه (العدو الآجل) بعد الحدث الكبير، وتنظيم القاعدة في أفغانستان (العدو العاجل) .
هذا على المستوى الرسمي أما المستوى ارسمي الدولة المبطنة (دولة عدي صدام) بما تملكه من وسائل موازية فقد استمرت في إظهار العداء والشماتة عبر وسائلها الإعلامية (تلفزيون الشباب ، إذاعة الشباب ، الصحف الأسبوعية) وتعليقات عدي نفسه، حتى برزت ترديدات ما تقدمه المواقع الأصولية، المتعاطفة مع تنظيم القاعدة، فضلا عن مواقع القاعدة نفسها، والقنوات المتعاطفة مع ذلك التنظيم، إذ غالبا ما قرنت هذه العملية بغضب الله تعالى على أمريكا بوساطة ما فعله (المجاهدون). وقد تجلى ذلك فيما تنشره الصحف الأسبوعية، كما في عنوان إحدى الصحف الذي خرج على هذه الشاكلة، مرجحا تحقيق السجعة على الصحة في الأداء اللغوي (النحوي): (انهيار البرجان كما جاء في القران) .
أما على المستوى الشعبي فكان الانقسام على أشده من دون أن تظهر كل تلك المتناقضات في المواقف إلى العلن، سوى الصوت الذي كان يريده النظام، وهو التشفي بما حدث للولايات المتحدة مع فرصة للحلم بأن تضرب مجددا، وتمن بانتصار طالبان في الصراع لذي نشب بعد ذلك في أفغانستان، ذلك بموجب الكره الموروث للولايات المتحدة بسبب مواقفها من قضايا العرب والمسلمين ولاسيما تجاه القضية الفلسطينية، ومساندتها المنحازة لإسرائيل، من دون مراعاة ما تزعمه من رغبة في تحقيق العدالة والسلام العالميين. فريق أقل عددا كان ينظر إلى هذا الحدث كمقدمة لتجاوز الحملة الأمريكية أفغانستان لإسقاط النظام في العراق، لذا كان الارتياح من نوع آخر لا كرها في الولايات المتحدة بل فرحة بنتائج مثل هذا الحدث على العراق، على حين كانت نظرية المؤامرة حاضرة كالعادة، وتروج أن الولايات المتحدة هي التي صنعت هذا الحدث الأكذوبة لتوسيع هيمنتها على الشرق للوسط ومنابع النفط والموقع الجغرافي المميز والقريب من تأمين أمن الولايات المتحدة اقتصاديا وتأمين أم إسرائيل . فريق آخر كان يؤيد فكرة الغضب الإلهي، بوصف أمريكا عدوة الإسلام الأولى . ولاسيما بعد زلة اللسان التي رد فيها الرئيس الأمريكي بوش عبارة : إنها حرب صليبية ليعلن حربه على الإرهاب (الإسلامي) . هنالك بالطبع فريق خائف على مصالحه أو على منصبه، ويتكاثف الخوف بصورة أشد ليشمل أركان النظام ومن يرتبط بهم ، لذا حاول النظام أن يستمر بالعمل المزدوج :
1- الرسمي ( دولة صدام ونظامه) يحاول إبعاد تهمة التورط أو حتى التأييد للقاعدة بكل الطرق الدبلوماسية والإعلامية .
2- الشعبي (دولة عدي) يساند تنظيم القاعدة ويحاول إبراز دور ابن لادن في محاربة الأمريكان، فضلا عن حشد الطاقات الإعلامية العربية والعالمية لمناهضة المشروع الأمريكي في استهداف العراق .
كل ذلك لا يبعد عن جهود أمنية (مخابراتية) لتأمين دور ينسق الأدوار من أجل الهدف . ولا يبعد وجود فريق يخشى على الوطن من مصير مجهول يمكن أن يقع أسيره ويكون عرض للاحتلال، وبخاصة مع توافر عنصر عدم الثقة للولايات المتحدة الأمريكية ومشاريعها، نتيجة التراث الموروث عن مواقفها وأدوارها في الهيمنة على مقدرات العالم . ولكن الحصيلة في الموقف الذي يمكن أن يكون عليه الشعب العراقي في الداخل تجاه الولايات المتحدة، على النحو الآتي :
1- فريق يعادي الولايات المتحدة تاريخيا واستمر في هذه المعاداة، بناء على مواقفها من القضايا العربية والإسلامية، ويمثل الغالبية العظمى، وينقسم إلى قسمين :
أzwnj;- قسم يوالي السلطة ويرتبط مصيريا بها ويخشى من تعرضه إلى الخطر في حال سقوطها، وهو ما تسعى أمريكا لتحقيقه.
بzwnj;- قسم يعارض السلطة لكنه لا يثق بالولايات المتحدة التي خذلته في انتفاضة آذار / شعبان، يضاف إلى ذلك بقاء الظن بأن أمريكا تساند النظام في السر، وهو ما يجعلها تتظاهر بمعارضته من دون الإقدام على إنهائه لأنه يوفر لها دعامة من وجود قوة دينية ( إسلامية) يمكن أن تؤسس جمهورية إسلامية على غرار ما حدث في إيران، ولاسيما أن الكثير من أفراد هذا القسم كانوا يستمعون إلى مراجعهم الديني غير المنضوي تحت إمرة النظام يردد:( كلا كلا أمريكا ، كلا كلا إسرائيل ..) وقد اغتاله النظام في ظل فتور في الضغط على النظام من جانب أمريكا .
2- فريق يساند توجه الولايات المتحدة لإسقاط النظام ويعبر عن تمن في هذا الاتجاه من دون أن يكون على استعداد لموالاتها، أو مساندتها في كل مشاريعها، وهذا الفريق يجمع ما بين النخب الاجتماعية وبعض المنتمين إلى الطبقة (الوسطى) من المستبعدين عن مراكز التأثير في الدولة إن لم نقل من المتضررين من السياسات الداخلية على نحو يتحسس الآثار السلبية للنظام أعلى من مستوى النفع المباشر أو الضرر المباشر (القمع ) الذي اشتمل على قطاعات واسعة من الشعب العراقي، إن لم نقل غالبيته. وهذا الفريق أقل نسبة / عددا من الفريق الأول .
3- فريق يساند توجه الولايات المتحدة ويعتقد أن مشروعها الإصلاحي هو الحل الذي ينقذ المنطقة، ولاسيما العراق من الوقوع ثانية تحت طائلة أي نوع من أنواع الدكتاتورية، سواء أكانت قبلية ذات صبغة أحادية أو عسكرية أو مدنية متلبسة بمظهر دكتاتوري زائف . وهي بالطبع تفضل المشروع الديمقراطي الذي يجعلها بمنأى عن قيام جمهورية إسلامية، أو أي حكومات ذات طابع (ثيوقراطي)، ولكن هذا الفريق غير مستعد للمخاطرة من أجل نجاح هذا المشروع فضلا عن أنه أقلية ولا تأثير عريضا لها على الجماهير، لذا فهي الفئة الأقل بين قطاعات الشعب، وتنحصر في جزء من النخب الثقافية والأكاديمية والاقتصادية المحدودة . وهنا أستبعد من المعادلة الفريق الذي تحالفا استراتيجيا مع الولايات المتحدة، في أثناء وجود النظام وبعد سقوطه، طلبا للقوة بإزاء الضغوط الداخلية والخارجية، وهو متماه مع السياسة الأمريكية المعادية للإرهاب الذي عانى منه أيضا .
على أية حال فإن الجميع دخلوا في مشروع مكافحة الإرهاب (واللا صلاح) الذي أسفر عن إسقاط النظام العراقي ـ مهما كانت الدوافع أو الاولويات والدوافع المحفزة تجاه العراق في هذا الصدد ـ وبقيت ذكرى 11 أيلول المقترنة بالموقف من الولايات المتحدة بالنسبة للعراقيين على حالها ـ مع ما استجد من عداء للإرهابيين من القاعدة الذين تحولوا إلى مشروع حرب طائفية مع عدائهم للاحتلال الأمريكي ـ على الرغم من تغير الظروف بعد سقوط النظام، ولاسيما بعد المصاعب الكثيرة والكوارث التي أعقبت مشروع الإصلاح الأمريكي على الأرض العراقية، إذ إن الأجواء الديمقراطية أوصلت في المقدمة الفريق الأول المعادي للولايات المتحدة، وهو يمثل توجهات الفريق الأول، وجزء من الفريق الثاني، وخرج من اللعبة الفريق الثالث وانكفأ .