آثرت التريث في الكتابة عما حصل في قطاع غزة، حيث أسكن، حتى تتضح معالم الأمور أكثر، وحتى نتبيّن ما نحن ذاهبون إليه. والآن يمكن القول، بأنّ الانقلاب العسكري المُدان الذي ارتكبته حركة حماس، لا يُعالج بانقلاب سياسي آخر اسمه حكومة طوارىء. فالخاسر الوحيد في الحالتيْن هو الشعب الفلسطيني، وهو القضية الفلسطينية. إذ سيكرّس الطرفان، شرخاً عمودياً وسياسياً ونفسياً، في وحدة والتحام الضفة والقطاع، بوصفهما جناحيْ الوطن الواحد.
ولو جرت الأمور على ما هي عليه، فإنّ الحديث عن دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وشرق القدس، سينتهي إلى أمد غير منظور من التداول.
من هنا خطورة ما فعلته حماس على الأرض، باستيلائها على كامل قطاع غزة. وخطورة الخطوة المقابلة في الطرف الآخر، بتشكيل حكومة الطوارئ في الضفة. فهذا سيكرّس الانفصال على الأرض، وسوف يجعل من الصعب على أية مفاوضات قادمة، أن تتكلّم عن وحدة الكيانيْن وعن مصيرهما المشترك.
وليس أمامنا من حل، سوى الرجوع إلى اتفاق مكة، وما تمخض عنه من حكومة الوحدة الوطنية، بعد معالجة جميع المضاعفات الخطيرة التي حدثت، ومحاسبة مرتكبيها. وإذ تعذّر ذلك، لأي سبب من الأسباب، فثمة حل آخر أخير، هو العودة إلى الشعب وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة.
هذا هو الأفق المتاح، وإلا فالبديل هو ما يتشكّل الآن، من انفصال بين غزة والضفة. ومن تشديد الحصار على غزة بحيث تصل العقوبات إلى حد التجويع وقطع الكهرباء عن مليون ونصف المليون من البشر. وهو ما تعتزمه حكومة أولمرت، وما تسرّبت الأنباء حوله أخيراً.
لقد ألحق الفلسطينيون بأنفسهم، ما ألحقه به عدوهم وزيادة. ومع هذا فلا مجال للبكاء على اللبن المسكوب. فالقادم أخطر بكثير مما مضى. وحسب متابعتنا للصحافة العبرية، فإنّ شهوراً سوداء تنتظرنا في الطريق.
لقد كنا وصلنا إلى حل في مكة، لكن حصار العالم كله تقريباً لحكومة الوحدة الوطنية، ومضاعفة الضغوط على شعبنا، كان سبباً جوهرياً، في ما نشهده الآن من انهيار وخراب.
لذلك على الإخوة العرب، مرة عاشرة وألفاً، أن يتدخلوا بين الفرقاء، وأن يفرضوا الحل العقلاني الواجب، حفاظاً على ما تبقى لهذه القضية العادلة. عليهم بذلك، قبل فوات الأوان، فالأيام والشهور القادمة، جدّ ثمينة، وإلا فهو الطوفان.
لقد ثبت بالفعل، أنّ قياداتنا غير جديرة بتحمّل مسؤولية وأعباء قضيتنا وشعبنا. وعليه فنحن في مسيس الحاجة إلى غيرنا لننجو من هذا المصير الأسود.
إنّ ما حدث وما سوف يحدث، لو تُركت الأمور تسير على علاتها، هو من مصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً. وهو ضد مصالح الشعب الفلسطيني أولاً وأخيراً. فهل يفهم الطرفان المتصارعان هذا أم أنّ الأوان قد فات ؟
سنختار الطريق الأصعب، ونقول : لم يفت الأوان. وبالإمكان، الوصول إلى حلول عقلانية، مهما بدا الجنون والتطرف مسيطراً وكاسحاً.
إنّ ما حدث في غزة، في الأيام القليلة الماضية، ليبدو أقرب إلى كابوس طويل منه إلى أي شيء آخر. فقد تجاوزنا كل ما هو خطوط حمر من ثوابتنا وبديهياتنا. ومع ذلك، نحن أحوج ما نكون الآن، إلى يد ثالثة، تمتد إلينا، لتنقذنا من وضاعتنا ومن تخلّفنا السياسي والإنساني. وهذه اليد لن تكون سوى يد عربية.
أما المراهنة على أيد أخرى، أمريكية أو إقليمية، فهي ليست سوى انتحار.
فإذا سُدّت الطرق العربية السالكة، فأمامنا خيار وحيد هو الرجوع إلى الشعب، وإجراء انتخابات جديدة، للخروج من مأزق العدمية التي أوصلتنا إليها الأحداث المرعبة الأخيرة.
حلاّن أمامنا، ولا حلول أخرى، إذا أردنا تجنيب شعبنا مزيداً من المآسي والكوارث. أما هذا الاستقطاب الحاد، المريض وغير المقبول، بين الحزبين الكبيرين، فهو مراهقة سياسية ونفسية، نرجو ألا يقع فيها شعبنا المجرّب ذو الخبرة والتجربة.
لقد تابعت، ككل فلسطيني، وعلى مدار الليل والنهار، ما تبثه الفضائية الفلسطينية التابعة لفتح وما تبثه فضائية الأقصى التابعة لحماس، فلم يصبني الصداع فقط، وإنما أُصبت بالهول. فهذا إعلام عصبوي قبيح مرذول لا يليق أبداً بعصرنا ولا بشعبنا، ناهيك عن مهنية وأخلاق الإعلام المحترم.
لقد تحوّلت الفضائيتان إلى قناتي تحريض وتعبئة : تحريض أرعن وتعبئة مريضة. فهل بمثل هاتين القناتين [ وأركّز هنا بالذات على فضائية حماس، لأنها أسوأ بمراحل ] هل بمثل هذا الصنيع، يمكن لنا الذهاب إلى حلول في المستقبل القريب ؟
بدلاً من صب الزيت على النار، كان يجب الالتزام بقدر أدنى من المهنية والمعقولية والحساسية الصحيحة. فشعبنا المثخن بالجراح لا تنقصه هذه المنابر، لتزيد النار اشتعالاً. لقد سقط الإعلام الفلسطيني في امتحان المحنة، وليت الأمر انتهى عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ما هو أخطر وأبعد تأثيراً، حيث كرّسَ هذا الإعلام العصبوي، الفرقة والحقد والشروخ بين أفراد الشعب الواحد، الأمر الذي سنحتاج معه إلى سنوات أو شهور على الأقل، لنخرج من مضاعفاته الخطيرة المترسبة في أعماق النفوس.
الوقت يمرّ، وكل طرف يذهب أكثر في عناده وجنونه، بينما إسرائيل تراقب الوضع عن كثب، لتستفيد من كل ثغرة في الجانبيْن وعلى الجانبيْن. لذلك لا داعي لمزيد من إهدار الوقت، وعلى إخوتنا وأشقائنا العرب سرعة التدخل، وخصوصاً مصر والسعودية، بدعوة كل من عباس ومشعل، والضغط عليهما بأقصى قدر ممكن، وعدم الخروج إلا بحلّ. فهذا هو آخر أمل وسط غابة الجنون هذه.
وإلا
وإلا فهو الطوفان!