قد لا أجافي الواقع إذا قلت أن الفلسفة نشأت وتربت وتطورت في احضان المنطق، سواء منطق ارسطو الذي طالما يُسمّى بالمنطق الصوري أو المنطق الجدلي بمدرستتيه المثالية والمادية أو أي منطق آخر، وقد لا أجافي الواقع أيضا إذا قلت أن أي انقلاب ضخم في تاريخ التفكير الفلسفي يبدأ من نقد المنطق السائد، وإجتراح منطق جديد، يكفي أن نتفحص ما أحدثه الفيلسوف الالماني الكبير عمانوئيل كانط، حيث تصدى للمدرسة التي ألغت الوجود الخارجي وتعاملت مع الواقع كأنعكاس لما يجري في العقل لا أكثر (جورج باركلي)، فلم يقدر على الدخول في حلبة الصراع إلا بعد أ ن تقدم بنقد قاس للعقل، كذلك النقلة الهائلة التي أحدثها (هيجل) حيث تأسست مدرسة التماهي بين العقل والواقع بشكل جديد، وطريقة مبتكرة، فالرجل بدأ مشروعه بنقد المنطق الكلاسيكي الذي قامت عليه فلسفة أرسطو بكل مجدها، مخلّدة مبدا عدم التناقض، فيما شرّح الرجل ذلك تشريحا ليولد قاعدة تنسف كل هذا البناء الصوري الخالد، فأحل التناقض قاعدة للفكر والطبيعة والتاريخ وا لحياة بدل تلك السكونية القاسية. وربما قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن أصل المعركة بين المدارس الفلسفية بل بين المذاهب الفلسفية ترجع إلى صراع بين مدارس منطقية في الاساس، ومن هنا عندنا المنطق الصوري وا لمطنق الجدلي والمنطق الظهراتي والمنطق الرمزي والمنطق الرياضي والمنطق الوضعي والمنطق الإستقرائي، ولا أعتقد أن المسيرة سوف تقف، بل هي في طريقها إلى إنجازات هائلة على صعيد المعركة المنطقية، فالعقل خلاق ويصارع الله من أجل أن يكون بديلا له. ولكن ينبغي (وأنا أكره الإكراه) أن نعي أن أي منطق يأتي إنما بنقده للمنطق السائد، أو المدارس المنطقية الاخرى، ومن هنا فإن مسيرة الفكر المنطقي هي مسيرة سجالية بين أ نواع من التفكير، وأصناف من نماذج التفكير المقترحة، وكل مدرسة منطقية تدعي لنفسها خلود التواصل الحي مع الحقيقة، فيما أثبتت التجربة أنْ لا خلود.
كل منطق هو معرض لنقد منطقي أخر، وهكذا توالدت المدارس المنطقية، ولذا أعتقد ليس من الصواب أن نجبر العقل على نهاية مصطنعة، أو نهاية مدعاة، فليس ما يجرتحه هذه الفيلسوف أو بالاحرى هذا المنطقي هو نهاية العالم، ولب الحقيقة، وبدل أن نعمل على تخليد منطق معين، وبدل أن نمهر بالوثوقية الازلية على طريقة تفكير، وبدل أن نرسخ في العقل البشري خريطة محكمة من قواعد استخراج المعرفة... بدل هذا وذاك نطرح مشروع المنطق المفتوح، ومؤدى المشروع أن أي منطق هو عرضة لنقد من داخله ومن خارجه، فإن منطق ارسطو تعرض الى عملية تفكيك في أوصاله، وقد أدى ذلك إلى اكتشاف الكثير من الإرباك، كذلك المنطق الجدلي، وعلى ذات المنوال منطق الاستقراء الذي كنا نظن إنه أخر ما خُتِم به التاريخ، ولكن جاء كارل بوربر ليوجه سهام نقد القاسية للإستقراء، وسواء كا ن نقده جادا أم فاشلا، فإن عملية نقد المنطق ينبغي أن تاخذ مجراها في طريقة التفكير، وليس من مصلحة الفكر البشري أن يستحوذ منطق معين باعتباره مفارِق زمني، فليس هناك مفارقات زمنية ربما حتى على مستوى البدييهيات الرياضية، أقول ربما ولا اجزم، فإ ن المسالة قيد الدرس والبحث والقراءة.
المنطق المفتوح يعني أن أي مدرسة منطقية هي معرضة للشرخ والتفكيك والنقد، ولا تصمد إلى الازل، لان العصمة لله وحده، فإذا أرسينا هذه القاعدة كأوالية راسخة في العقل، نكون قد أطلقنا العقل من أسار معد له مسبقا سواء عن وعي وتخطيط أو عن عفوية وسياقية بريئة.
لقد سيطر منطق ارسطو على ا لفكر البشري لمئات بل آلاف السنين، ولا أغالي با لقول أن أ حد اسباب هذا الخلود الغريب كونه أُقترن بقدسية مسبقة، ولأنه ينطوي على مقدمة تجزم أن المنطق وسيلة نهائية الى المعرفة، الامر الذي يدخل في قلوبنا هيبة المقروء فلا ننقده، بل نفتش عن مادة نجري قواعده عليها كي ننتقم منها تشريحا واستهجانا وتخطئة وتحجيما.
كل منطق يعلوه منطق أخر، أي منطق ينقده، يفككه، فإن نقد المنطق هو منطق بحد ذاته، وليس من المعقول أن يشرح المنطق نفسه، بل يشرحه منطق آخر، من خارجه، والنقد الداخلي بيان تناقضات وليس في حقيقته نقدا ليطرح بديلا، أبدا، فإن النقد الداخلي تهديمي وليس بنائي، فيما النقد من الخارج قد يسهم في تأسيس منطق جديد، بل هو منطق بديل، لانه لا يمارس عمله بدون مسلمات وموضوعات وبدايات،وإلا هل يمارس كل هذه العملية الجبارة من فراغ، فذلك مستحيل.
إن مشروع المنطق المفتوح ينسف الطغيان الفكري، فإن الوضعية المنطقية عندما أعلنت عن نفسها، أعلنت ذلك باعتبارها الفاتح النهائي، باعتبارها أم الحقيقة، والطريق الموصل إلى الواقع، بل اعلنت عن نفسها المنقذ للعقل من عوالم الخرافة والمجازفة غير المحسوبة، فيما مشرو ع المنطق المفتوح ينسف هذه الديماغوغية المنطقية الجافة المتعجرفة، وتعلن عن أن هناك ما لا يحصى من المدارس والمذاهب المنطقية، قد لا يكون ذلك بالفعل ولكن بالقوة، وكل ما بالقوة يمكن أن يكون بالفعل فيما إذا توفرت أسبابه الموجبة.