ما فتئ رجب طيب أردوغان يؤكد طيلة السنوات الماضية، على أن حزبه quot;العدالة والتنميةquot;، الفائز الكبير في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، حزب علماني ديمقراطي محافظ، وليس حزبا دينيا إسلاميا. وعندما يهب الإسلاميون العرب للاحتفاء بفوز quot;إخوانهمquot; في تركيا، مشيرين إلى أن الشارع في العالم الإسلامي عادة ما يختار التيار الإسلامي إذا ما كانت الانتخابات ديمقراطية فعلا، فإنهم لا يدركون أنهم يسيئون بانتخائهم هذا، إلى أردوغان أولا، حبث يكذبون تصريحه المكرر، وإلى أنفسهم ثانيا، حيث يكشفون عدم ممانعتهم في استعمال الإزدواجية في الخطاب والممارسة، إذا كانت ستقودهم إلى السلطة.
وعلى افتراض أن لرجب طيب أردوغان ولحزبه، خلفية إسلامية خفيفة، فإن كثيرا من متابعيه يشيرون إلى أن المرجعية العلمانية للدولة التركية، قد أثرت في مساره وبرنامجه وخطابه وسياساته، أكثر بكثير مما أثر هو بخلفيته الإسلامية المفترضة في المؤسسات السياسية التركية، وأنه لو كان للإسلاميين العرب الاستعداد للتأثر بنفس الطريقة التي كان عليها الحال مع أردوغان، فسيكونون قد سلكوا مسافة طويلة في طريق تطبيع علاقاتهم مع القوى السياسية الداخلية والخارجية، التي ترى في برامجهم وتحركاتهم وطموحاتهم شرا مستطيرا على دولهم ومجتمعاتهم والعالم بأجمعه.
إن فوز أردوغان الانتخابي العريض كان الدافع الرئيسي لدى الإسلاميين العرب إلى اعتباره واحدا منهم، أما لو كان انهزم فلن يكون بنظرهم إلا مهرطقا عميلا للغرب، تنكر لشيخه أربكان، ولم يتردد في تقديم كافة التنازلات المطلوبة تركيا وأوربيا وأمريكيا، على حساب الالتزام الإسلامي والرؤية الإسلامية، دون أن يجني شيئا غير الخسران المبين، وذلك جزاء المنافقين، أما وقد فاز فلا ضير من اعتباره إسلاميا، وليعتذر لاحقا لمؤسس الحركة الإسلامية السياسية التركية، وليستغفر الله لخطاياه في قبوله العلمانية والديمقراطية.
في استفتاء أجراه حول فوز أردوغان، حزب العدالة والتنمية المغربي، وهو حزب الإسلاميين الأول في المغرب، قال أغلبية المسبور آراؤهم أن انتصار الحزب التركي المحافظ جاء نتيجة قوة برنامجهم الاقتصادي والاجتماعي، وليس جراء الخلفية الإسلامية للحزب كما هلل بعض الإسلاميين العرب، ومشكلة هؤلاء أنهم ما يزالون على دأبهم نفسه في مخاطبة شعوبهم بشعارات لا برامج، و باستغلال العاطفة الدينية لا انتزاع التأييد بالحجة العقلانية.
ثمة بيان يفترض أن رجب طيب أردوغان قد كتبه ممارسة سياسية وتوجهات عملية طيلة السنوات الماضية، وكان السبب الأساسي في انتزاعه ثقة الدوائر التركية والدولية، الشعبية والرسمية، هذه بعض معالمه:
-تأكيده على التزامه بطبيعة الدولة العلمانية وبالأسس الكمالية للجمهورية التركية، ونظره إلى الإسلام على أنه أحد مكونات الهوية الثقافية التركية، التي يجب العمل على المحافظة عليها.
-نسجه علاقات وثيقة مع الطبقة الرأسمالية التركية، وتبنيه برنامجا اقتصاديا ليبراليا، يقوم على توفير المناخ المناسب للاستثمار، ومحاربة الفساد، والتشجيع على المبادرة الفردية، وعصرنة وتحديث المؤسسة الإدارية.
-إبقاؤه على العلاقات مع إسرائيل، بل والعمل على تنميتها، تقديرا منه أن ذلك أفيد للقضية الفلسطينية، وإيمانه بالسلام كحل وحيد ممكن للقضية الشرق-أوسطية.
-حثه الخطى لتحقيق شروط الانتماء التركي للاتحاد الأوربي، وسعيه إلى تطوير العلاقات التركية الأوربية حتى وإن لم يستجب لطلب العضوية الكامل لتركيا.
-حيازته ثقة الولايات المتحدة الأمريكية، ونيله الدعم الأمريكي في كثير من القضايا الداخلية والخارجية.
-تشجيعه القطاع السياحي، وعدم نظره إلى هذا القطاع باعتباره مفسدة للدبن و الهوية.
-تجنبه إثارة القضايا ذات الحساسية، من قبيل قضية الحجاب، وقبوله الإبقاء على قانون القيافة الذي يمنع المحجبات التركيات من ولوج الجامعات والمؤسسات العمومية.
-عدم تدخل حكومته في حريات المواطنين الشخصية، أو نمط حياة بعضهم غير المحافظة، والإبقاء على أجواء التحرر الاجتماعي ذاته، التي ميزت تركيا باستمرار عن غالبية الدول العربية والإسلامية.
في مقابل هذا البيان الأردوغاني المعلن، يرسم خطاب التيار الإسلامي في العالم العربي، معالم بيان آخر، مختلف تماما، حتى أن الرابط بين حزب العدالة والتنمية التركي و سائر أحزاب وحركات الإسلام السياسي في العالم العربي، لن يعدو أن يكون مجرد إشارات رمزية، ذات تأثيرات شبه معدومة في السياسات والبرامج والوقائع العملية، و خطوط بيان الإسلاميين العرب كما يلي:
-تأكيده على اعتبار العلمانية كفر بواح ورجس من عمل الشيطان، واعتبار مصطفى كمال أتاتورك كأحد أكبر أعداء الأمة الإسلامية.
-اعتباره الليبرالية ااقتصادية نموذجا إداريا غربيا فاسدا لا يلائم طبيعة واحتياجات الدول الإسلامية.
-النظر إلى إسرائيل كبؤرة استعمارية استيطانية بغيضة لا مجال للاعتراف بها، ناهيك عن التفاوض معها، وكل من فعل ذلك فلن يعدو أن يكون كافرا أو منافقا.
-بناء العلاقة مع الأوربيين والأمريكيين، على أساس منطوق الآية القرانية quot; ولن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم..quot;، فالحرب بين دار الإسلام ودار الغرب قائمة أبدا، كما العداوة، وعلى هذا النحو يجب أن تبنى السياسات الخارجية للدول الإسلامية.
-إدانته للسياسة الاقتصادية القائمة على تشجيع السياحة، باعتبارها مجلبة للانحلال الخلقي ومفسدة للشباب المسلم ومستفزة للطبيعة الإسلامية للمجتمعات.
-اعتبار الحجاب ركنا سادسا من أركان الدين، لا يجوز السكوت على منعه بأي حال، و الاستعداد لإعلان الجهاد غيرة عليه، وعدم التردد في فرضه على النساء، إذا ما ضمنت القوة الكافية لتحقيق ذلك.
-التدخل في حريات المواطنين الشخصية، بالقدر الذي يحفظ طبيعة الدولة الإسلامية، حيث على السلطات إغلاق الفنادق والحانات والنوادي الليلية وسائر المرافق والمؤسسات التي قد تمس بالأخلاق العامة وتؤذي المتدينين في مشاعرهم.
وكما هو بين من البيانين، فإن الهوة التي تفصيل أردوغان عن إخوانه قادة وأعضاء الحركات الإسلامية في العالم العربي شاسعة، و أنه لو كان باستطاعة الإسلاميين العرب التوقيع مع الزعيم التركي المحافظ على بيانه، والقبول بما قبل به، لأوجدوا أرضية حوار سياسي وفكري صلبة، تسمح بفتح آفاق جديدة للعملية السياسية، ولمشاريع الإصلاح الديمقراطية والتنموية، بما يخدم الإسلام والمسلمين معا، ويفوت الفرصة على كل دعاة التطرف والإقصاء.
إن الإسلام كدين وقناعة إيمانية لا يحتاج دولا وحكومات تحرسه، وقوة الإسلام في حراسة المجتمع له، لا تسخير عصا السلطة لخدمته، و إن شرع الله كامن في مصلحة الناس والنأي بالنفس عن فضفاض الشعارات، وقد وعى أردوغان هذه الدروس، وجعلها موجها لسيرته، فأقام حزبه على أسس عصرية مدنية منفتحة، ولم يقلد أولئك الذين أقاموا أحزابهم على أساس أنها إحياء لجماعة الرسول (ص) الصالحة، وأنهم مرشدون ومن حولهم حواريون وصحابة وعساكر.
لقد ربحت تركيا، من خلال مراجعات أردوغان الفكرية والسياسية، حزبا يمنح الرؤى المحافظة حلة عصرية، وفئة من السياسيين الوطنيين أكثر ديناميكية و قدرة على الابتكار وأقل فسادا، فيما ما تزال أحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربية، مترددة في اتخاذ أي إجراءات إصلاحية عميقة وجذرية على رؤاها وخطابها ومشاريعها السياسية، مصرة على لعب دور الفزاعة في علاقاتها بسائر الأطراف الداخلية والدولية، ومتشبثة بلعب دور الجماعة المهتدية التي تواجه سيلا من مؤامرات القوى المنافقة والظالمة والكافرة.
يظل بيان أردوغان برأيي أهم امتحان، فهل بمقدور الإسلاميين العرب الإمضاء ndash; ولو بالأحرف الأولى- على هذا البيان، على الأقل لكي يكون الزعيم التركي واحدا منهم فعلا، أم أنهم يزعمون، وساء ما يقولون ويفعلون؟
كاتب تونسي
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية
التعليقات