بعد أسبوعين ونيّف
ستشهد السّاحة الإسرائيليّة انتخابات السّلطات البلديّة. لن أتطرّق في هذه المقالة إلى أبعاد هذه الانتخابات في الوسط اليهودي رغم أنّ نتائجها قد تشير إلى التّحوّلات الطّارئة على السّاحة الإسرائيليّة في السّنوات الأخيرة، وقد أعود إلى هذا الموضوع في المستقبل.
إنّ ما أنوي التّطرُّق إليه الآن يخصّ السّاحة العربيّة داخل إسرائيل. هذا الأمر جدير بالاهتمام، ليس لارتباط هذا الموضوع بالأوضاع الإسرائيليّة العامّة بل لكونه مؤشّرًا على حال هذه الأقليّة العربيّة على اختلاف التّسميات الّتي أُسبغت عليها طوال العقود الماضيّة، بدءًا من quot;عرب الدّاخلquot;، quot;فلسطينيّي الدّاخلquot;، quot;عرب الـ ٤٨quot;، quot;عرب إسرائيلquot;، وما إلى ذلك من تسميات شاعت في وسائل الإعلام العربيّة والأخرى.
والأمر في غاية الأهميّة
لأنّه يشي بما هو أبعد من مجرّد مشاركة مواطنين في انتخابات قد تبدو ديمقراطيّة في ظاهرها، وهي كذلك حقًّا من ناحية المبدأ. غير أنّ النّاظر في ما هو أبعد من هذه الشّكليّات الّتي تُزيّن العمليّة سيفقه لا شكّ أنّها في واقع الحال أبعد ما تكون عن هذه quot;الديمقراطيّةquot; الوافدة إلى بلاد العرب. فبعد أن حلّت هذه الديمقراطيّة ضيفةً على مضارب العربان أخذت تتزيَّى بزيّهم، وهكذا بدأنا نشهد في المدن والقرى العربيّة مسخًا ديمقراطيًّا يتمثّل في إجراء انتخابات تمهيديّة تتمّ لدى الحمائل والقبائل يُنتخبُ فيها من سيمثّل قائمة القبيلة في الانتخابات البلديّة. وهكذا مسخت هذه الذّهنيّة العربيّة القبليّة المتجذرّة كلّ ما هو سامٍ، حتّى أجهضت هذه الذّهنيّة العربيّة، الموبوءة بداء مزمن، على الجوهر الدّيمقراطي جملةً وتفصيلاً.
وإذا كان البعض
يعتقد أنّ الأمر يقتصر على شريحة النّاس من صنف أولئك التّقليديّين القرويّين الّذين لم يدرسوا في الجامعات ولم يأخذوا بأسباب العلم ويحصلوا على شهادات أكاديميّة، أو من صنف الّذين لم ينضووا تحت رايات وتيّارات وأحزاب طالما ادّعت العلمانيّة، زورًا وبهتانًا، فهو مخطئ تمامًا. إذ أنّ الواقع يكشف أنّ الكثيرين ممّن انتسبوا إلى الجامعات وانضووا هنا وهناك تحت رايات quot;علمانيّةquot; ورفعوا شعارات quot;تقدّميّةquot; وquot;وطنيّةquot; وما إلى ذلك من بلاغة كلاميّة ليس إلاّ، يعودون إلى قراهم ومدنهم وسرعان ما يندسّون في quot;حضن القبيلة الدّافئquot; وتذهب شعاراتهم السّابقة أدراج الرّياح. وهكذا تتكشّف لنا هذه الانتخابات البلديّة عن قوائم مسيحيّة، وقوائم درزيّة، وقوائم إسلاميّة وفوق كلّ ذلك قوائم حمائليّة قبليّة ضمن هذه التّفريعات الذّهنيّة. وهذه الذّهنيّة تتخطّى الحمائل لتصل إلى الأحزاب الّتي تدّعي الجمع بين أفراد quot;الشّعب الواحدquot;، كما يشيعون.
فعلى سبيل المثال،
لقد نما إلى أسماعي من بعض quot;الرّفاقquot; أنّ الجبهة quot;الديمقراطيّةquot; (يا لها من تسمية!) أجرت انتخابات تمهيديّة لاختيار مرشّحيها لانتخابات بلديّة في إحدى المدن، وبعد أن انتهى quot;الرّفاقquot; من الاقتراع ظهرت النّتائج فتبيّن أنّ الأشخاص الّذين انتخبوا للأماكن الثّلاثة الأولى، أي الّذين حصلوا على أكبر عدد من الأصوات، لا يوجد بينهم أيّ شخص مسلم. وهكذا ثارت ثائرة كثيرين لعدم انتخاب شخص مسلم لأحد هذه الأماكن الأولى، ولكي لا تتدحرج كرة الثّلج هذه فتكبر الفضيحة وتنتشر على الملأ، تمّت لفلفة الأمور وأعيدت الانتخابات للمكان الأول حيث تمّ quot;انتخابquot;، أي تعيين، مسلم لهذا الموقع. هذه هي مسخرة quot;الديمقراطيّةquot; العربيّة، حتّى لدى كلّ تلك الأحزاب تدّعي الـ quot;ديمقراطيّةquot; وتدّعي الـquot;وطنيّةquot; الّتي لا تفرق بين المواطنين أو بين أبناء quot;الشّعب الواحدquot;. كذا هي حال الجبهة quot;الديمقراطيّةquot;، وكذا هي الحال مع التّجمع quot;الوطنيquot; quot;الدّيمقراطيquot;، كما يدّعي كلّ هؤلاء في كلّ موقع، أو قرية، أو مدينة. فإذا كانت هذه هي حال مُدّعي التّقدُّم والوطنيّة والدّيمقراطيّة، فما بالكم بسائر شرائح المجتمع لدى quot;عربان الـ 48quot;.
وفي هذه الأثناء،
أشبعنا جميع هؤلاء شعارات رنّانة طنّانة عن الوطنيّة والقوميّة والعروبة والدّيمقراطيّة رافعين رايات محاربة quot;الأسرلةquot;، كما شاع التّعبير في السّنوات الأخيرة، بينما في الوقت ذاته يتنازعون فيما بينهم على كسب الأصوات من أجل الوصول إلى الكنيست، حيث يقسمون فيها من على المنصّة يمين الولاء لدولة إسرائيل. أليست هذه الحال جزءًا من هذه المسخرة والضّحك على الذقون العربيّة؟
فماذا أقول إذن؟ أستطيع أن أطمئن جميع هؤلاء. من خلال النّظر في ما هو حاصل على أرض الواقع يمكنني القول يقينًا: لا يوجد أسرلة، كما يشيعون، إذ أنّ هذه الانتخابات البلديّة والعامّة تفضح هذه الحال العربيّة على الملأ. إنّها لا تمتّ إلى الأسرلة ولا إلى إسرائيل ولا تمتّ إلى الوطنيّة ولا إلى الدّيمقراطيّة بأيّ صلة. إنّها انتخابات quot;عربان پار-إكسلانسquot;. لا عروبة حقيقيّة ولا أسرلة حقيقيّة ولا أيّ بطّيخ من هذه الشّعارات. إنّها ذهنيّة عربان متجذّرة. إنّها فيديراليّات شراذم وليس أيّ شيء آخر ممّا يدّعون.
لهذا السّبب،
أرى إنّ هذه الانتخابات البلديّة في القرى والمدن العربيّة هي مضيعة للوقت وإهدارًا للموارد، ويجب البحث عن سبل أخرى لإصلاح شؤون النّاس البلديّة. مثلاً، أن يتمّ تعيين المسؤولين من قبل هيئة وزاريّة مختصّة، بعد إجراء مناقصات جدّيّة بين مرشّحين جدّيّين يمتلكون التّأهيل المناسب لهذه الوظائف، بدل إضاعة الوقت والمال في انتخاب زعماء قبائل وطوائف أمّيّين، تحت مسمّى الدّيمقراطيّة، يعيثون في القرى والمدن العربيّة فسادًا.
وإذا كانت هذه هي حال quot;عربان الـ 48quot;، فما بالكم بسائر العربان في مشارق الأرض ومغاربها؟
كذا كان وكذا يكون إلى يوم يُبعثون.
والعقل وليّ التّوفيق!
***
http://salmaghari.blogspot.com