يشكل الحديث عن مجتمعات العصر الوسيط الإسلامية مادة دسمة للعديد من البحوث التاريخية والثقافية والفكرية. وإذ بات الطابع
لتبجيلي السمة الأبرز لمعظم تلك الأبحاث والدراسات لجهة تجاوز الواقع وتغييبه لصالح العيش في تاريخ مزدهر بالإنجازات والمكانة بين الأمم والحضارات، فإن حرص بعض التيارات والفرق الإسلامية على تسجيل حضورها في ذاكرة تلك الأحداث، ومخيال الشعوب الجمعية راهناً، يمكن موضعته في سياق تلك النزعة الاستباقية لتسجيل الحضور وإبراز الدور التاريخي والأهمية الحقيقية.
يدرس هذا الكتاب فرقة الإسماعيليين من خلال تناوله تاريخهم وأفكارهم في العصر الوسيط، محاولاً، قدر المستطاع، تجنب الأساطير التي راجت عنهم في العالم الإسلامي والغرب. ومبيناً مساهمة بعض معتنقي هذه الفرقة في التراث الإسلامي مثل حسن الصبّاح، فضلاً عن محاولة تبيين ما راج عن العلاقات الإسماعيلية- الصليبية وما نتج منها من أساطير منسوجة حول هذه الفرقة.
في مفتتح الكتاب، يحاول المؤلف أن يؤكد على البيئة الفكرية الديناميكية التي تميّزت بها القرون الثلاثة الأولى، سواء على صعيد المجتمعات والفرق والمدارس والمذاهب الفكرية، أو على صعيد مواقفها من القضايا السياسية-الدينية الرئيسة في تلك الفترة، وأهمها مسألة الخلافة والإمامة. فعلى المستوى السياسي، الذي ظلّ محكوماً إلى حد بعيد بالمنظور الفقهي، تباينت المواقف والآراء بين أولئك الذين وقفوا مع الخلافة التاريخية (أهل السُنة)، وبين مجموعات المعارضة المتباينة، لاسيما الشيعة والخوارج، والتي رأى المؤلف أنها تطلعت إلى قيام نظم جديدة، دون أن يميز بين هذه الفرق نفسها من حيث مفارقة الخوارج، على الأقل، للشيعة في هذه المسألة رغم اشتراكهم في مسألة المعارضة هذه.
ويبين المؤلف أنه في هذا المحيط التاريخي المعتلج بالأفكار والمواقف غالباً ما تنقَّل الأفراد والفقهاء بين الفرق والمذاهب بحريّة، وانخرط المسلمون في نقاشات حية دارت حول جملة قضايا كانت ذات أهمية حيوية للأمة الإسلامية الناشئة. كما واجه المسلمون بعض الثغرات، على حد تعبير المؤلف، في معارفهم الدينية والتعاليم المتصلة بقضايا من مثل صفات الله، ومصدر السلطة وطبيعتها، وتعارف المؤمنين دونما أو خوف أو وجل. وصاغت مختلف الفرق الدينية والمدارس الفكرية عقائدها على مراحل، مكونة هوياتها وتسمياتها الخاصة والتي كثيراً ما احتوت على جوانب جوهرية من معتقداتها وممارستها.
وكان لمؤلفي كتابات الفرق هذه ومفكريها اهتمام رئيسي واحد هو إثبات شرعية الطائفة التي ينتمي إليها الكاتب والبرهنة على امتلاكها لناصية الحق والنجاة في الآخرة وتمثيلها للإسلام، ونقض بقية الفرق وإدانتها بالهرطقة والخروج عن الملة. غير أن كُتّاب الفرق استعملوا مصطلح laquo;فرقةraquo; بمعنى الطائفة بشكل فضفاض ودون تمييز، بين طائفة رئيسية، ومجموعة مستقلة أصغر حجماً، ومجموعة متفرعة، مدرسة فكرية (أو مذهب)، بل حتى إلى موقف عقائدي ثانوي.
ويرجع المؤلف تبلور الفرقة الإسماعيلية إلى تاريخ انشقاقها عن فرقة الشيعة الإمامية إبان وفاة جعفر الصادق وما نشأ عنه من انشقاقات متعددة، من بينها مجموعتان مؤيدتان لإسماعيل بن جعفر، ويحدد المجموعات التي تمركزت في الكوفة على أنها بواكير الإسماعيليين الذين سرعان ما نُظّموا في حرك ثورية اتسعت سريعاً ومثّلت، على الصعيد السياسي، الجناح الأكثر نشاطاً من بين المجموعات الإمامية. وبحلول منتصف القرن التاسع، كانت الدعوة الإسماعيلية قد بدأت بالظهور في العديد من مناطق العالم الإسلامي بعد أن كانت خفية غير معلنة. وتركزت الدعوة على مناوئة الخلافة العباسية والوعد بتحقيق العدالة في ظل حكم إمام إسماعيلي، مسجلة نجاحاً باهراً، حسب الكتاب، بفضل الكثير من الدعاة في العراق واليمن وإيران وآسيا الوسطى.
وقد عرف عام 899 ميلادي، ظهور الأئمة الإسماعيليين إلى العلن، وانتهاء مرحلة السرّ التي كانوا قد فرضوها على أتباعهم. وانشق، في ذلك الوقت، مجموعة من الفرقة الإسماعيلية بسبب اختلافها على قضايا عقائدية معينة، وعُرفوا فيما بعد بالقرامطة. وقام القرامطة المنشقون بتأسيس دولة قوية في البحرين وشرقي شبه الجزيرة العربية، وانخرطوا في أعمال تخريب وتدمير ضد الإسماعيليين الموالين للإمام الإسماعيلي والمسلمين الآخرين، وبلغت ذروتها في هجومهم على مكة عام 930، بهدف النيل من سمعة الحركة الإسماعيلية كلها، كما يرى المؤلف.
غير أن نجاح الدعوة الإسماعيلية بتأسيس الخلافة الفاطمية (909-1171) في شمال إفريقيا عام 909، وتحدي الشرعية العباسية، جعلت منهم أهدافاً جاهزة للهجمات التي شنها عليهم العباسيون وعلماؤهم من رجال الدين، وقد تعرض الإسماعيليون لاحقاً إلى الانقسام ثانية، وتفرعوا إلى عدد من الفرق الرئيسة والمجموعات الثانوية. فتأسست دولة قوية في (حصن آلموت) مع أراض تابعة لها في إيران وسوريا على أيدي قادة الفرع النزاري من الإسماعيلية في تسعينيات القرن الحادي عشر.
ثم ينتقل المؤلف لبيان التوزع الحالي للإسماعيليين، فالقسم الأعظم منهم في العالم ينتمون إلى فرع النزارية، ويعترفون بإمامة الإمام الأمير كريم أغاخان والذي يعد الإمام التاسع والأربعين بالوراثة. في حين لا يزال فرع المستعلية-الطيبية في الخفاء منذ 524/1130، ويتولى قيادتهم في غياب هؤلاء الأئمة سلسلة من الدعاة أو الممثلين من ذوي السلطات المطلقة. ويشكل الإسماعيليون اليوم أقليات دينية في أكثر من خمسة وعشرين بلداً من بلدان آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية.
ويشير الكاتب إلى أن تاريخ الإسماعيليين ظل يدرس حتى منتصف القرن الماضي، إلا أن النظرة إليهم ما تزال مشوبة بالأساطير الرائجة حول تعاليمهم وممارساتهم. ويؤكد الكتاب على حصول quot;اختراقquot; في هذا المجال بفضل اكتشاف عدد من النصوص الإسماعيلية ودراستها، وكانت هذه النصوص محفوظة ضمن مجموعات خاصة في الهند وآسيا الوسطى وسوريا واليمن ومناطق أخرى، وقد تمّ تحقيقها وترجمتها ونشرها ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، مما ساهم في تغيير الصورة النمطية عنهم ودحض بعض الشائعات التي جعلت منه عدواً تاريخياً للقسم الأكبر من المسلمين (السنة) بوصفهم الفرقة (الباطنية) التي خاض إزاءهم علماء السنة ودولهم السياسية حروباً فكرية وسياسية وحتى عسكرية بهدف التخلص منهم والقضاء عليهم.
دار الساقي، بيروت طبعة أولى، 2008م |
يدرس هذا الكتاب فرقة الإسماعيليين من خلال تناوله تاريخهم وأفكارهم في العصر الوسيط، محاولاً، قدر المستطاع، تجنب الأساطير التي راجت عنهم في العالم الإسلامي والغرب. ومبيناً مساهمة بعض معتنقي هذه الفرقة في التراث الإسلامي مثل حسن الصبّاح، فضلاً عن محاولة تبيين ما راج عن العلاقات الإسماعيلية- الصليبية وما نتج منها من أساطير منسوجة حول هذه الفرقة.
في مفتتح الكتاب، يحاول المؤلف أن يؤكد على البيئة الفكرية الديناميكية التي تميّزت بها القرون الثلاثة الأولى، سواء على صعيد المجتمعات والفرق والمدارس والمذاهب الفكرية، أو على صعيد مواقفها من القضايا السياسية-الدينية الرئيسة في تلك الفترة، وأهمها مسألة الخلافة والإمامة. فعلى المستوى السياسي، الذي ظلّ محكوماً إلى حد بعيد بالمنظور الفقهي، تباينت المواقف والآراء بين أولئك الذين وقفوا مع الخلافة التاريخية (أهل السُنة)، وبين مجموعات المعارضة المتباينة، لاسيما الشيعة والخوارج، والتي رأى المؤلف أنها تطلعت إلى قيام نظم جديدة، دون أن يميز بين هذه الفرق نفسها من حيث مفارقة الخوارج، على الأقل، للشيعة في هذه المسألة رغم اشتراكهم في مسألة المعارضة هذه.
ويبين المؤلف أنه في هذا المحيط التاريخي المعتلج بالأفكار والمواقف غالباً ما تنقَّل الأفراد والفقهاء بين الفرق والمذاهب بحريّة، وانخرط المسلمون في نقاشات حية دارت حول جملة قضايا كانت ذات أهمية حيوية للأمة الإسلامية الناشئة. كما واجه المسلمون بعض الثغرات، على حد تعبير المؤلف، في معارفهم الدينية والتعاليم المتصلة بقضايا من مثل صفات الله، ومصدر السلطة وطبيعتها، وتعارف المؤمنين دونما أو خوف أو وجل. وصاغت مختلف الفرق الدينية والمدارس الفكرية عقائدها على مراحل، مكونة هوياتها وتسمياتها الخاصة والتي كثيراً ما احتوت على جوانب جوهرية من معتقداتها وممارستها.
وكان لمؤلفي كتابات الفرق هذه ومفكريها اهتمام رئيسي واحد هو إثبات شرعية الطائفة التي ينتمي إليها الكاتب والبرهنة على امتلاكها لناصية الحق والنجاة في الآخرة وتمثيلها للإسلام، ونقض بقية الفرق وإدانتها بالهرطقة والخروج عن الملة. غير أن كُتّاب الفرق استعملوا مصطلح laquo;فرقةraquo; بمعنى الطائفة بشكل فضفاض ودون تمييز، بين طائفة رئيسية، ومجموعة مستقلة أصغر حجماً، ومجموعة متفرعة، مدرسة فكرية (أو مذهب)، بل حتى إلى موقف عقائدي ثانوي.
ويرجع المؤلف تبلور الفرقة الإسماعيلية إلى تاريخ انشقاقها عن فرقة الشيعة الإمامية إبان وفاة جعفر الصادق وما نشأ عنه من انشقاقات متعددة، من بينها مجموعتان مؤيدتان لإسماعيل بن جعفر، ويحدد المجموعات التي تمركزت في الكوفة على أنها بواكير الإسماعيليين الذين سرعان ما نُظّموا في حرك ثورية اتسعت سريعاً ومثّلت، على الصعيد السياسي، الجناح الأكثر نشاطاً من بين المجموعات الإمامية. وبحلول منتصف القرن التاسع، كانت الدعوة الإسماعيلية قد بدأت بالظهور في العديد من مناطق العالم الإسلامي بعد أن كانت خفية غير معلنة. وتركزت الدعوة على مناوئة الخلافة العباسية والوعد بتحقيق العدالة في ظل حكم إمام إسماعيلي، مسجلة نجاحاً باهراً، حسب الكتاب، بفضل الكثير من الدعاة في العراق واليمن وإيران وآسيا الوسطى.
وقد عرف عام 899 ميلادي، ظهور الأئمة الإسماعيليين إلى العلن، وانتهاء مرحلة السرّ التي كانوا قد فرضوها على أتباعهم. وانشق، في ذلك الوقت، مجموعة من الفرقة الإسماعيلية بسبب اختلافها على قضايا عقائدية معينة، وعُرفوا فيما بعد بالقرامطة. وقام القرامطة المنشقون بتأسيس دولة قوية في البحرين وشرقي شبه الجزيرة العربية، وانخرطوا في أعمال تخريب وتدمير ضد الإسماعيليين الموالين للإمام الإسماعيلي والمسلمين الآخرين، وبلغت ذروتها في هجومهم على مكة عام 930، بهدف النيل من سمعة الحركة الإسماعيلية كلها، كما يرى المؤلف.
غير أن نجاح الدعوة الإسماعيلية بتأسيس الخلافة الفاطمية (909-1171) في شمال إفريقيا عام 909، وتحدي الشرعية العباسية، جعلت منهم أهدافاً جاهزة للهجمات التي شنها عليهم العباسيون وعلماؤهم من رجال الدين، وقد تعرض الإسماعيليون لاحقاً إلى الانقسام ثانية، وتفرعوا إلى عدد من الفرق الرئيسة والمجموعات الثانوية. فتأسست دولة قوية في (حصن آلموت) مع أراض تابعة لها في إيران وسوريا على أيدي قادة الفرع النزاري من الإسماعيلية في تسعينيات القرن الحادي عشر.
ثم ينتقل المؤلف لبيان التوزع الحالي للإسماعيليين، فالقسم الأعظم منهم في العالم ينتمون إلى فرع النزارية، ويعترفون بإمامة الإمام الأمير كريم أغاخان والذي يعد الإمام التاسع والأربعين بالوراثة. في حين لا يزال فرع المستعلية-الطيبية في الخفاء منذ 524/1130، ويتولى قيادتهم في غياب هؤلاء الأئمة سلسلة من الدعاة أو الممثلين من ذوي السلطات المطلقة. ويشكل الإسماعيليون اليوم أقليات دينية في أكثر من خمسة وعشرين بلداً من بلدان آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية.
ويشير الكاتب إلى أن تاريخ الإسماعيليين ظل يدرس حتى منتصف القرن الماضي، إلا أن النظرة إليهم ما تزال مشوبة بالأساطير الرائجة حول تعاليمهم وممارساتهم. ويؤكد الكتاب على حصول quot;اختراقquot; في هذا المجال بفضل اكتشاف عدد من النصوص الإسماعيلية ودراستها، وكانت هذه النصوص محفوظة ضمن مجموعات خاصة في الهند وآسيا الوسطى وسوريا واليمن ومناطق أخرى، وقد تمّ تحقيقها وترجمتها ونشرها ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، مما ساهم في تغيير الصورة النمطية عنهم ودحض بعض الشائعات التي جعلت منه عدواً تاريخياً للقسم الأكبر من المسلمين (السنة) بوصفهم الفرقة (الباطنية) التي خاض إزاءهم علماء السنة ودولهم السياسية حروباً فكرية وسياسية وحتى عسكرية بهدف التخلص منهم والقضاء عليهم.
كتاب: الإسماعيليون في مجتمعات العصر الوسيط.
تأليف: فرهاد دفتري، ترجمة سيف الدين القصير.
الناشر: دار الساقي، بيروت، طبعة أولى، 2008م.
عدد الصفحات: 295
التعليقات