-1-
رقد محمود درويش بالأمس في خيمته التي نُصبت على تلّة من تلال رام الله المطلة على القدس، يراقب بعينيه الأبديتين أفاعيل بني قومه من الفلسطينيين المتصارعين صراع الوحوش على السلطة، وهو دون شك حزين لهذا المنظر. ولكن عزاءه، أننا ما زلنا نبحث عنه، ونشتاق إليه، وندرسه، ونستخلص من منجمه الشعري الثري الحب، والأمل، والحياة.
-2-
في عام 1972، صدرت أول دراسة عن محمود درويش، بقلم الناقد الراحل رجاء النقاش (محمود درويش شاعر الأرض المحتلة). وفي هذه الدراسة وصف النقاش درويشاً، بأنه من أغنى شعراء العاطفة في تاريخ الشعر العربي كله، إذ أنه يُعبِّر عن عاطفة الحب تعبيراً مبتكراً جديداً، لأنه عاشق من الدرجة الأولى. وكان النقاش يقصد بغناء العاطفة، تلك العاطفة الوطنية الإنسانية، وليست العاطفة الجنسية. ولكن درويشاً لم يكن يسعى إلى أن يعيش حياة الرهبان في معابد العتمة. كان يسعى أن يعيش كأي إنسان، يحب الحياة، ويحب النساء، فقد كان إنساناً من دم ولحم، يستجيب لنداءات روحه، ونداءات قلبه. وهو الذي يقول في quot;حصار لمدائح البحرquot;:
أما كان من حقنا أن نطير
ككل الطيور إلى تينة متربة؟
أما كان من حقنا أن نُغنّي
لعينيين بنيتين تقيمان ما بيننا والإله
معاهدة سلام؟
أما كان من حقنا أن نرى وردة؟
أما كان من حقنا أن نصدق أن لروما قمر
وأن لروما حجر؟
أما كان من حقنا يا حبيبي
أن نُسند التعب الحلو فوق الحجر؟
-3-
لقد مزج درويش بين المرأة والوطن، مزجاً من الصعب فصل عناصر تكوينه. ومن هنا، كانت المرأة في شعر درويش ليست كما هي في قاموس نزار قباني الشعري مثلاً، كشهوة، وشبق، وجسم جميل، ولكنها كانت وطناً مغتصباً، ومعتقلات، وسجوناً، وقهراً، وظلماً.
كانت المرأة في شعر درويش لا تؤخذ ككيان مستقل، بقدر ما كانت تؤخذ كجزء من قضية كبرى. وتصبح أية تجربة عاطفية خاصة نحو المرأة هي جزء من تجربة إنسانية أعم وأشمل. لذا، فقد ذابت الملامح الذاتية للعاطفة عند درويش في العاطفة الوطنية الكبيرة، وهي الحب للأرض المغتصبة، والوطن الجريح.
-4-
وقد لاحظ الناقد محمد القاضي، في كتابه quot;الأرض في شعر المقاومة الفلسطينية، 1982quot;، أن هذا المنحى من الشعر قد أدخل المرأة في شعر درويش في طقس حلول الإنسان في الأرض، بعد أن كان درويش قد أدخل الإنسان الفلسطيني ككل في طقس هذه الحلول الحيزية، أي حلول الإنسان في الأحياز (الأمكنة). وهذه فكرة صوفية قديمة، عبّر عنها الحلاج شيخ الصوفية بقوله:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحـان حللنـا بدنـا
وعبّر عنها درويش بقوله:
أسمّي التراب امتداداً لروحي
أسمّي يدي رصيف الجروح
أسمّى الحصى أجنحة
أسمي ضلوعي شجر
وأستلُّ من طينة الصدر غصناً
وأقذفه كالحجر
ونتيجة لهذا الحلول، فقد أصبحت المرأة في قاموس درويش الشعري، تجربة إنسانية كلية شاملة، ولم تعد تجربة ذاتية خالصة.
-5-
ها هو درويش، أهم شخصية تاريخية في الفضاء الفلسطيني على المستوى السياسي والثقافي، يرقد إلى الأبد على تلّة في رام الله، ويديم النظر إلى القدس، إلى فلسطين كلها، والى الزعامات الفلسطينية، التي تتناطح الآن نطاح الكباش على الرئاسة، في حين تنزف فلسطين في كل يوم الدم، وقد امتلأت تلالها بشقائق النعمان كما قال الشاعر الفلسطيني الآخر إبراهيم نصر الله، وكان محمود درويش واحداً من هذه الشقائق. وسيظل درويش ينشد الشعر في موته.. شعر الأمل والسلام والحياة، وهي المعاني التي لم ندركها بعد في شعره الغني.