حكايات الاحتلال وتصحيح بعض المفاهيم (٥): الفاطميون ومغامرات الحاكم بأمر الله

بعد أن ملك جوهر الصقلي أرض مصر (في ٩٦٩) وصل الخليفة المعز لدين الله (في ٩٧٣)، وأصبحت مصر مقر الخلافة الفاطمية.
تاريخ الفاطميين في مصر مع الأقباط، مليء بالتناقضات الرهيبة. ففي البداية كانوا يميلون إلى التوود لهم (وهم في ذلك الوقت ما زالوا يمثلون أغلبية المصريين) لأن quot;أعداءهمquot; الحقيقيين هم السنيين المناصرين للخلافة العباسية، قبل أن يتحول مسلمو مصر للمذهب الشيعي؛ وكذلك حرصا على استمرارية العمل في دولاب الدولة (مثلا، أبقى جوهر قزمان ابن مينا ناظرا، quot;لما هو مشهور به من الثقة والأمانةquot;). لكن الأمور لم تبق على حالها.
والجدير بالذكر أن ساوري (ساويرس، الذي يعرف quot;بابن المقفعquot;) وهو المؤرخ صاحب كتاب quot;تاريخ البطاركةquot;؛ الذي نستند إليه بصفة رئيسية في هذه المقالات، كان كاتبا في الديوان ومعروفا بعلمه الغزير وله أكثر من عشرين كتابا. وقد تعلم اللغة العربية وأعد لنفسه قاموسا عربيا ـ قبطيا، ليساعده في كتابة quot;تاريخ البطاركةquot;. وأخيرا ترك اهتمامات الدنيا ودخل الدير، قبل أن يصبح أسقفا على الأشمونين، وتوفي قبيل انتهاء القرن العاشر.
بعد دخول الفاطميين لمصر بقليل، شرع جوهر، قائد قوات الغزو، في بناء مدينة جديدة شمال الفسطاط. وقد اختار موقعا لها (كما يقول جمال الدين) المدينة القديمة quot;كا ـ هي ـ رعquot; التي تحور اسمها إلى quot;قاهرةquot; ثم quot;القاهرةquot;.
ولم تكن أحوال البلاد عندئذ طيبة إذ [[في أول سنة لملك هؤلاء المغاربة (الفاطميين) عطشت أرض مصر (..) ولم يزل الغلاء لسبعة سنين متوالية (..) حتى أن كورة مصر خلت من الناس لكثرة الموت (..) وبلغ القمح نصف ويبة بدينار. وخربت عدة من كراسي الأساقفة لخلوها من الناس (..) وأضيفت للكراسي المجاورة لها (..) ولم يدخل البطريرك الاسكندرية مدة سنة (..)]].

١٥ـ وفي أيام الأنبا أبراهام السرياني، الثاني والستين، المعروف بابن زرعة (٩٧٤ـ٩٧٨)، وهو من أصل شامي، يقول ساوري أنه أبطل الشرطونية (أو السيمونية = أخذ المال مقابل المناصب الكهنوتية)، [[ولما رأى جماعة من الأراخنة (كبار الأقباط) يتسرون بالسراري ويلدون منهن، أحرم من يفعلون فأطاعوه (..) ويقال أن إنسانا من الأراخنة يعرف بأبي السرور الكبير كانت له وجاهة في الدولة، وكان له سراري كثيرة فأمره البطريرك بإخراجهم فلم يفعل فحرمه (..)]] (وانتقم الرب منه).
لاحظ كيف أن بعض أثرياء القبط بدأوا يتأثرون بعادات الغزاة...
وكان وزير المعز رجل يهودي اسمه أبو يعقوب بن كلس وصل معه من المغرب وأسلم على يديه، وكان لابن كلس صديق يهودي اسمه موسى (..) طلب من المعز مجادلة النصارى [[فأرسلوا إليه أسقف كرسي الأشمونين، ساويرس ويعرف بابن المقفع، وكان كاتبا ثم صار أسقفا، وأعطاه الرب نعمة وقوة في اللسان العربي (..) ومرات كثيرة جادل قضاة من شيوخ المسلمين بأمر الملك المعز فغلبهم (..)]].
وفي اليوم الذي استقر فيه على مجادلة اليهودي، تحداهم بشأن آية الإنجيل التي يقول فيها المسيح quot;من كان في قلبه إيمان مثل حبة خردل، فإنه يقول للجبل انتقل فينتقلquot; [[فقال المعز: quot;هوذا أنتم نصارى ألوف وربوات في هذه البلاد (..) وأريد أن تظهر هذه الآية (..) وإلا أفنيتكم بالسيف]]. ويحكي ساوري معجزة تحرك جبل المقطم المعروفة، وبعدها قال المعز quot;حسبك يا بطرك، قد عرفت صحة دينكمquot;. ثم قال له quot;تمنى عليّ شيئاquot; فقال له: quot;ما أتمنى إلا أن يثبت الله دولتك ويعطيك النصر على أعدائكquot;. فأصر المعز، فطلب التصريح بإعادة بناء كنيسة أبو مرقورة والمعلقة وغيرها. فأمر المعز أن يكتب له سجل بذلك وأن يعطى من بيت المال ما يصرفه على العمارة. فأخذ السجل و(رفض) المال.
[[فلما قرئ السجل عند كنيسة ابو مرقورة، تجمع الباعة وأوباش الناس وقالوا: quot;لو قُتلنا أجمعين بالسيف ما مكنا أحدا أن يضع حجرا على حجر في هذه البيعةquot;. فعاد البطرك إلى الملك المعز فغضب لذلك (..) وأمر بحفر الأساس (..) فلم يجسر أحد أن ينطق بكلمة بعدها إلا شيخ واحد كان يصلي بأولئك الباعة في المسجد الذي هناك، وهو الذي كان يجمع الجموع (ويحرضهم)، فرمى نفسه في الأساس وقال quot;أريد أن أموت اليوم ولا أدع أحد يبني هذه البيعةquot;. فعلم الملك المعتز فأمر أن ترمى عليه الحجارة ويبنى فوقه، فلما رميت عليه الحجارة أراد أن يقوم فلم يمكنه (جنود المعز). فلما رأى البطرك ذلك تطارح بين يدي المعز وسأله فيه إلى أن أمر بإصعاده من الأساس (..) ولم يجسر أحد بعد هذا أن ينطق بحرف إلى أن كملت عمارة البيعة وكذلك بيعة المعلقة بقصر الشمع وكذلك البيع بالاسكندرية التي كانت قد وهنت]].
[[وكان المعز كلما أراد أن يعمل شيئا كعادته في (المغرب) يمنعه منه جوهر بلطف وسياسة ويقول له quot;إن أهل مصر قوم فيهم مكر وفطنة لا يخفى عنهم شيء كأنهم يعلمون الغيبquot;. (فأراد المعز أن يجربهم) فأمر أن يؤخذ ورق كبير مثل السجل ويطوى بلا كتابة ويختم (..) وأمر بضرب البوق قدامه وأن ينادي منادي في الناس أن يحضروا لسماع سجل الملك. وأمر جواسيسه أن يسمعوا ما يقوله أهل مصر، فسمع بعض الناس يقولون لبعض quot;لا تتعبوا أنفسكم، ما فيه شيء فهو فارغquot;. فتعجب الملك جدا لما عرف]].

١٦ـ وفي أيام الأنبا فلتاؤس ٦٣ (٩٧٩ـ١٠٠٣) يقول ساوري أنه عاد لأخذ المال على قسمة الأساقفة (الشرطونية) واتهمه البعض بأنه quot;يقسم من لا يستحقquot;..
ويحكي ساوري قصة الواضح ابن الرجا، وهو شاب مسلم دارس للإسلام وكان يحضر مجلس قاضي الحكم، شاهد شخصا كان مسلما وتنصر وقد أعد له الجند الحطب ليحرقوه [[وقد اجتمع عليه جمع كبير من الناس لينظروه. وكان (ابن الرجا) غيورا جدا في دينه (..) فتقدم إلى ذلك الشخص وقال له quot;يا إنسان ما الذي حملك على هلاك نفسك بسبب دين تكفر فيه بالله تعالى وتشرك به آخر فتستعجل بهذه النار في الدنيا وفي الآخرة نار جهنم لأنك تجعل الله ثالث ثلاثة (الخ الخ). والآن اسمع مني ودع عنك هذا الكفر وعد إلى دينك وأنا أجعلك لي أخا ويكرمك كل أحدquot;. فقال له quot;لا تنسبني إلى الكفر (..) إنما نعبد إله واحدا (..) وسر ديننا عجيب مخفي عنكم لأن عقولكم لا تحتمله، وأنت قلبك مظلم (..) لكني أرى بعد قليل النور يدنو منك ويضيء قلبك (..)quot;. فلما سمع (ابن الرجا) حنق عليه (..) ثم قلع نعله ولطمه على وجهه (..). ثم أنهم ضربوا عنقه وحرقوا جسده]]. ويحكي ساوري بالتفصيل كيف كانت هذه الحادثة بداية تحول ابن الرجا وتعميده بعد تردد كبير، ثم هربه ومعاناته؛ وكيف أصبح صديقا للأنبا ساويرس (ساوري) وألف كتابين بالعربية هما quot;الواضحquot; و quot;نوادر المفسرينquot; يرد فيهما على المخالفين من كتبهم..
وطلب ملك الحبشة من البطريرك أن يرسم مطران [[خوفا من أن ينقرض ويبطل دين النصرانية من (الحبشة) لأن هوذا ستة بطاركة قد جلسوا ولم يلتفتوا إلى بلادنا بل هي سائبة بلا راع، وقد مات الأساقفة والكهنة وخربت البيع (..) فأجاب (البطريرك) سؤله ورسم له راهبا من دير أبو مقار وأنفذه لهم مطرانا (..)]].
وعموما يبدو أنه كان القبط يشعرون بسلام في أيام الملك المعز إلى أن مات (٩٧٥) وكذلك أيام ابنه العزيز بالله. وبعد موته (٩٩٦) تولى الحاكم بأمر الله.
وقد توفي ساوري (ساويرس) قبيل سنة ١٠٠٠ وتتابع بعده كتاب السير لاستكمال كتاب quot;تاريخ البطاركةquot; على مدى العصور، وإن اختلف الأسلوب.

١٧ـ وفي حياة الأنبا زخاريوس ٦٤ (١٠٠٣ـ١٠٣٢) يقدم كاتب السيرة (ميخائيل، الذي أصبح أسقف تنيس) صورة كئيبة عن [[أفعال بعض الأساقفة الذين كانوا في ذلك الزمان (..) لأنهم قد صاروا مثل الولاة المسلطين على الكهنة وكانوا يختلقون الحجج لجمع المال ويتاجرون في بيع (مناصب الكهنة) (..) ولم يصبر الله فأنزل غضبه على البيع بسببهم (..). وفي أيامهم انقطع التعليم أيضا ولم يردع أحدٌ أحدا (..) وصار الفهيم العالم غير معدود إن كان فقيرا، والجاهل الغير فهيم مكرما (..) إن كان موسرا]]. ويبدو أن البطريرك كان عفيفا لكنه ضعيف [[كان تلاميذه حاكمين عليه وهم الذين يأخذون المال (..)]].
[[أما الملك (الحاكم بأمر الله) فتقلد أمر المملكة (٩٩٦) وهو صبي صغير، ولما كبر تولى (وهو في حوالي السادسة عشرة من عمره) صار محبا لسفك الدماء أكثر من الأسد الضاري، حتى أن جماعة أحصوا من قُتل بأمره فكان عددهم ثمانية عشر ألف إنسان (..)]].
وكانت له مغامرات كثيرة مع القبط: [[(..) ثم أخذ عشرة من الأراخنة والكتاب (القبط) منهم أبو النجاح الكبير فأحضره وقال له أريد أن تتخلى عن دينك (وتدخل) ديني وأجعلك وزيري وتدبر أمور مملكتي، فقال له أمهلني للغد، فمضى (وأحضر أصحابه وأهله وودعهم وأوصاهم وثبتهم ورجع في الغد ليخبره بالبقاء على دينه). فاجتهد الحاكم بكل نوع من الترغيب والترهيب ولم يقدر أن يميله عن مذهبه فأمر أن تنزع ثيابه عنه وأن يشد إلى الهنبازين (آلة تعذيب) فضربوه خمسمائة سوط حتى تقطع لحمه (..) ثم ضرب ثلاثمائة أخرى فقال أنا عطشان (..) فقال الحاكم اسقوه إذا رجع لديننا، فرفض ثم مات، فأمر أن يُضرب إلى تمام الألف سوط وهو ميت]].
[[وآخر يعرف بالريس فهد ابن ابراهيم، وكان (الحاكم) قد قدمه على جميع الكتاب وأصحاب الدواين، فأحضره بين يديه وقال له: أنت تعلم إنني اصطفيتك فاسمع مني وكن معي في ديني فأرفعك أكثر وتكون لي مثل أخ. فلم يجب إلى قوله فأمر بضرب عنقه وأحراق جسده بالنار (..)]]
[[وأما باقي هؤلاء العشرة (الأراخنة) لما طالبهم بترك دينهم لم يفعلوا، فأمر بعذابهم فضُربوا بالسياط، ولما تزايد الضرب عليهم أسلم منهم أربعة والبقية ماتوا تحت العذاب. وأحد هؤلاء الأربعة مات ليومه و(الثلاثة) الباقون عادوا لمذهب النصرانية بعد انقضاء زمن الهيجان]].
ومع كثرة الحكام الهمج الذين تولوا مصر منذ الغزو، فإن الحاكم بأمر الله يتميز أيضا بشخصيته السايكوباتية وقد [[فعل أفعالا لم يسمع بها أحد (..) ولم يثبت على رأي واحد ولا اعتقاد واحد، وكان منظره مثل الأسد وإذا نظر إلى إنسان يرتعد (منه)، وكان صوته جهرا مخوفا. وكان ينظر إلى النجوم والحكمة البرانية وكان يخدم النجم زحل على زعمه ويداوم الطواف في الجبل الشرقي (المقطم) ليلا ومعه ثلاثة من الركابية (..)، وكان يمشي بالليل في الشوارع ويتسمع على الناس في بيوتهم ما يقولوه عنه، وكان له جواسيس كثيرون ومخبرون يرفعون له الأخبار (..). وأمر ألا تخرج أي امرأة من بيتها (..) وألا تؤكل الملوخية (..) وأمر بألا يشرب أحد النبيذ وكسرت الأوعية التي فيها نبيذ في كل مكان. ثم أنه يوما قفز قدامه كلب فجفل الحمار الذي يركبه فأمر بقتل كل كلب في مصر (..)]].
[[وأمر ألا يضرب ناقوس في بلاد مصر، وبعد قليل أمر بأن تقطع الصلبان من على قبب الكنائس وتمحى التي على أيدي الناس. ثم أمر أن يشد النصارى الزنار في أوساطهم ويلبسوا على رؤوسهم عمائم سوداء (..) وأن يحملوا صلبانا طولها شبر، عاد وزادها إلى ذراع ونصف (..) وألا يدخل أحد من أهل الذمة حماما مع المسلمين (..) وجعل على باب حمام النصارى صليب، وعلى باب حمام اليهود قرمة خشب (..) ثم أمر أن تكون صلبان النصارى (التي يحملونها) خشب ووزن كل صليب خمسة أرطال مختومة بخاتم رصاص، يعلقوه في رقابهم بحبال ليف (..) ومن يوجد بغير ختم (يؤخذ) للحبس، فسجن كثيرا من النصارى واليهود، من رؤسائهم لأدناهم، ولم يصبروا على هذا الهوان والعذاب (..)]]
وحدث أن راهبا، كان قد حاول أن يصبح أسقفا لكن طلبه رُفض، ذهب إلى الحاكم يشكي البطريرك [[فأمر أن تغلق كل البيع وأحضر البطرك، وكان قد شاخ وطعن في السن، واعتقله]].
[[وفي ثاني يوم اعتقاله كتب الحاكم إلى والي بيت المقدس سجلا يقول: quot;خرج أمر الإمامة إليك بهدم قمامة (*) فاجعل سماءها أرضاquot;]]
(*) quot;قمامةquot; هي كنيسة القيامة في القدس. يُطلق عليها ذلك الإسم أحيانا لأنها بنيت على المكان الذي اكتشفت فيه هيلانة (أم قسطنطين) خشبة الصليب تحت تل قمامة. لكنه كان يطلق أيضا كنوع من التحقير.. على أي حال فقد تسبب هدم هذه الكنيسة الشهيرة في إرسال موجة صدمة هائلة عبر أرجاء العالم المسيحي، وكان أحد العوامل الرئيسية وراء حروب الفرنجة (quot;الصليبيةquot;) التي اندلعت بعدها بعقود.
[[وبعد أيام أرسل الحاكم سجلات إلى سائر (ولايات) مملكته بأن تهدم الكنائس وأن يحمل ما فيها من الآنية الذهب والفضة إلى قصره وأن يطالب الأساقفة في كل مكان بالأموال وأن لا يباع شيء للنصارى ولا يشترى منهم في أي موضع من المواضع. فجحد جماعة منهم دينهم (أي أسلموا)، وأكثر النصارى المصريين نزعوا عنهم الغيار والصليب والزنار وتشبهوا بالمسلمين (..)]].
[[وأما أنبا زخاريوس (البطريرك) فبقي معتقلا ثلاثة شهور وهم يخيفونه كل يوم بالحرق والرمي للسباع إن لم يدخل في دين الأسلام ويقولون له إن وافقت نلت مجدا عظيما ويجعلك قاضي القضاة وهو لا يلتفت إليهم (..) (ثم أطلقه الحاكم) وفرح النصارى وأشاروا عليه بأن يسير إلى برية (شيهيت) (..) فسار وأقام تسعة سنوات (..) وكان أكثر الأساقفة مقيمين معه (..) وكان النصارى يدخلون البرية مرتين في السنة، في عيد الغطاس وعيد القيامة (للتناول). وكان على النصارى في هذه التسع سنين ضيق عظيم وطرد وشتم ولعن من المسلمين، ويبصقون في وجوههم (..) وكان إذا جاز نصراني عليهم يشتموه ويقولوا له اكسر هذا الصليب وادخل في الدين الواسع]]. وحوادث أخرى متعددة بنفس الطريقة.
[[ولم يصبر المؤمنون الأخيار على البعد عن الأسرار المقدسة وكانوا يبرطلون (يرشون) الولاة حتى يتركوهم يتقربوا بالليل سرا في الكنائس المهدومة (..)]]
[[(وبعد سنوات) خرج أمر الحاكم (بإباحة البيع والشراء) مع النصارى، وكتب سجلا بأنه من أراد من النصارى أن يمضي إلى بلاد الروم أو الحبشة أو النوبة وغيرها لا يمانعهم أحد (..)]]. ويبدو أن الكثيرين فعلوا، هربا من الاضطهاد.
ثم وقف للحاكم جماعة من النصارى الذين أسلموا طالبين أن يعيدهم إلى دينهم [[فقال لكل منهم أين زنارك وصليبك وغيارك، فأخرجوها من تحت ثيابهم فأمرهم بلبسها وأمر لكل واحد سجلا (..) فعاد كثير ممن أسلم إلى دينهم (*)]].
(*) من سخريات القدر أن الحاكم بأمر الله قد سمح، في إحدى شطحاته الجنونية، بعودة المتحولين للإسلام إلى دينهم، لكن بعدها بعشرة قرون مازالت طوابير quot;العائدين للمسيحيةquot; تنتظر شطحة من شطحات الحاكمين بأمر الله في الدولة المصرية، لعل وعسى أن يدركوا أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين...

[[وكان من جملة من أسلم راهب اسمه بنيامين عاد إلى دينه وسأل الحاكم أن يمكنه من (إعادة تعمير) دير دير مار مارقوريوس (مصر القديمة) فبناه وسكنه مع إخوة له رهبان. وكان الحاكم يجيء عندهم دفعات كثيرة ويأكل من طعامهم الحقير (..) ثم ذكّره بنيامين بحال أنبا زخاريوس (..) فلما أتاه الحاكم (في زيارة تالية) أخرج له البطرك (الذي كان قد أحضره من برية شيهيت حيث كان مختفيا) فسلم عليه بسلام الملوك وبارك عليه ودعا له، فسأل الحاكم: من هذا؟ (فقيل له) ثم أومأ بأصبعه وسلم عليه. وكان معه جماعة من الأساقفة (وكانوا شيوخا حسني المنظر)، فقال لهم: هذا مقدمكم كلكم؟ قالوا: نعم يا مولانا، الرب يثبت ملكه. فتعجب وقال: إلى أين ينتهي (ملكه)؟ فقالوا: في ديار مصر والحبشة والنوبة والخمس مدن الغربية وغيرها. فازداد تعجبه وقال: كيف يطيعونه كل هؤلاء بلا عساكر ولا مال ينفقه؟ فقالوا: بصليب واحد. فقال: وإيش هو هذا الصليب؟ فقالوا: مثال الذي صلب عليه المسيح (..) فقال بالحقيقة ليس في العالم دين ثابت مثل دين النصارى. هوذا نحن نسفك الدماء وننفق الأموال ونخرج الجيوش وما نُطاع، وهذا الرجل الشيخ الحقير المنظر الذميم الخلقة تطيعه أهل هذه البلاد كلها بكلمة لا غير. ثم قال له وللأساقفة: أقيموا هاهنا حتى أقضي حوائجكم (..) ثم أنه جاء إليهم ومعه سجل عظيم (بعد تسع سنوات من سجله السابق) بفتح الكنائس وعمارتها وأن تعاد إليهم الأخشاب والأعمدة والأراضي والبساتين التي كانت لها (..) وأعفاهم من لبس الغيار وحمل الصليب]].
[[وفي تلك السنة نفسها (١٠٢١) كان الحاكم يطوف بالمقطم في الليل (كعادته) ومعه ركابي فنزل عن دابته وقال له: امض إلى القصر ودعني هنا، فمضى كما أمره، وفي الصبح طلبه أهل القصر في كل موضع فلم يجدوه ولا عرفوا خبره (..). فضبطت أخته (ست الملك) الحكم إلى أن كبر ولده الطفل فأجلسوه ملكا وسموه الظاهر لإعزاز دين الله]]. وقد كثرت قصص المؤرخين حول مصير الحاكم بأمر الله، ولكن معظمهم يقول أن أخته ست الملك هي التي دبرت قتله..
***
وإلى مقال آخر...

[email protected]