يمكن تقسيم الأزمات الاقتصادية إلى ثلاثة أنواع: (1) انهيار أسواق رأس المال (أي انهيار أسعار الأسهم في البورصات)، (2) انفجار فقاعة العقارات (أي انهيار أسعار المساكن بعد فترة ارتفاع غير طبيعية تؤدي إلى صعوبات مالية للشركات و البنوك المقرضة إلى هذا القطاع)، (3) و الأزمات المصرفية، أي تعرض البنوك لصعوبات مالية تهددها بالإفلاس نتيجة القروض المتعثرة. و الأزمة الاقتصادية الحالية تحتوى على كل هذه العناصر و ان جاءت الشرارة الاولى من انفجار فقاعة العقارات.
لخصت دراسة حديثة البروفيسور كينيث روجوف الرئيس السابق لدائرة الأبحاث بصندوق النقد الدولي و كارمين رينهارت من جامعة ميريلاند(*) أهم الدروس المستفادة من الأزمات المالية السابقة و يمكن تلخيصها كالتالي:
أولا: تؤدي الأزمات المصرفية إلى انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 9،3% و على مدى سنتين (مقارنة بأقل من سنة واحدة في فترات الكساد العادية)، و يكون الانخفاض اكبر في الدول النامية نتيجة فقدانها للتمويلات من الأسواق العالمية. على سبيل المثال، انخفض الناتج المحلي الإجمالي على مدى سنتين و بحوالي 15% اثر أزمة 1997 في اندونيسيا، و على مدى 4 سنوات و بأكثر من 20% في الأرجنتين اثر أزمة 2001.
ثانيا: ترتفع نسبة البطالة على مدى قرابة 5 سنوات ( أكثر من ضعف فترة انهيار الإنتاج المنوه لها أعلاه) و بمعدل 7 نقاط مؤوية، لكن الزيادة في الدول النامية تبدو اقل من هذا المعدل ( حوالي 2،5 نقاط مؤوية في كل من تايلاند و اندونيسيا اثر أزمة 1997 و 7 نقاط في الأرجنتين اثر أزمة 2001). و قد يعود هذا الفارق إلى الانخفاض الحاد في الأجور في الدول الفقيرة و عدم وجود تعويضات للعاطلين مما يجبرهم على ابحث الجدي عن العمل و لو برواتب اقل بكثير من السابق.
ثالثا: الارتفاع الكبير لدين الحكومة و بمعدل 86% (حوالي 100% بالنسبة لاندونيسيا اثر أزمة 1997)، و ذلك نتيجة انخفاض عائدات الضرائب من جهة و ارتفاع النفقات الحكومية من جهة أخرى في محاولة لإنعاش الاقتصاد، بالإضافة لتحمل الحكومات لبعض النفقات الأزمة للبنوك المتعثرة.
من ايجابيات الفترة الحالية إدراك أفضل لأنجع السبل لمواجهة الأزمات و تنسيق أفضل على المستوى العالمي، لكن عولمة الاقتصاد و المال تجعل عدوى الأزمة أكثر سرعة، وسوف يكون من الصعب على الدول النامية تجنب الآثار انهيار أسواق الصادرات في الدول المتقدمة (بما فيها السياحة و الخدمات التابعة لها) و كذلك شح مصادر التمويل في الأسواق العالمية بما فيها تمويل الصادرات. وتزداد احتمالات عدم إيفاء الدول النامية بمستحقات ديونها الخارجية عندما تشتد الأزمة في دول عدة و في وقت واحد.
تعددت برامج دعم القطاع المالي و الانتعاش الاقتصادي، منذ اندلاع الأزمة الأخيرة، و تغيرت ملامحها لسبب بسيط و هو أننا مازلنا في مرحلة تجريبية من حالة انهيار مالي و اقتصادي يذكر بما حدث في أمريكا في الثلاثينات من القرن الماضي، لكن مع الاختلاف في جذور الأزمة و مظاهرها و الأدوات المتاحة للتعامل معها. و بما انه لا يمكن صياغة برنامج الإصلاح بالجدوى المطلوبة دون معرفة الأسباب العميقة للمشكلة توجب علينا مزيد البحث في جذور الأزمة الحالية، و أهمها الابتكارات المالية و ثورة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، أي شبكة الانترنت.

أولا: الابتكارات المالية
ساعد تطور الهندسة المالية على جمع أصول مالية في حزمة واحدة - مثل الرهون العقارية لدى شركات التمويل العقاري - و استعمالها كأساس لإصدار سندات يتم عرضها للمستثمرين. و سارعت البنوك التجارية (مثل سيتي-جروب في أمريكا) و بنوك الاستثمار في quot;وول ستربتquot; (ميريل لينش و ليهمان بروذيرز...) لشراء أدوات الدين هذه. كما سارعت البنوك الأجنبية للحصول على حصتها من الكعكة (بنك دويتش بنك الألماني، يوبي اس السويسري و مؤسسات أخرى في آسيا...).
خلافا للمقرض الأول (شركات التمويل العقاري في هذه الحالة)، لم يكن بإمكان المستثمرين الجدد التعرف على هوية مالك العقار عن قرب، و من ثم تقييم درجة المخاطر الحقيقية لأدوات الدين التي بحوزتهم، و من هنا كان فشل الأسواق المالية في تقدير المخاطر و تسعيرها كما يجب.
لكن هذا لا يعني جهلا تاما بالمسالة. عملاق التامين الأمريكي quot;أي-آي-جيquot;، على سبيل المثال، نجح فعلا في تقدير احتمال عدم الإيفاء بالديون التي كان يتعهد بتأمينها ( Credit Default Swaps )، و ذلك بفضل النماذج الإحصائية التي طورها البروفيسور quot; Gary Gorton quot;أستاذ المالية بجامعة quot;يايل.quot; لكن خطا إدارة الشركة و من ثم صعوباتها المالية الحالية كانت نتيجة التزاماتها إزاء عملائها (مالكو بوليصة التامين) بتعويضهم في حال انخفاض سعر الأوراق المالية المؤمنة و كذلك في حال انخفاض التصنيف الائتماني لشركة quot;أي-أي-جيquot; نفسها. و هي التزامات ما كان للشركة القبول بها في المقام الأول، آو كان عليها تقدير درجة مخاطرها و توفير المخصصات المالية لمواجهة أي طارئ.

ثانيا: شبكة الانترنت
سهلت شبكة الانترنت عمليات عقد الصفقات للمشتقات المالية دون تكلفة تذكر، مما ضاعف من حجم هذه العمليات وسهل توزيعها على مختلف مناطق العالم. و أمام النمو الكبير لهذه العمليات و أهميتها، طالب مراقب الخزانة الأمريكي عام 1994 بالرقابة على هذه الصفقات، لكن طلبه هذا جوبه بمعارضة شديدة من الرئيس السابق لبنك الاحتياط الأمريكي quot;ألان جرينسبانquot; الذي اعتبر أن الانترنت تساعد على quot;إعادة توزيع المخاطر على النطاق العالمي.quot; و كما ورد في quot;نيوزويكquot; بتاريخ 27 أكتوبر 2008: quot;رأى جرينسبان في الانترنت و أجهزة الكومبيوتر السريعة الطريقة الأمثل لإعادة صياغة الرهون العقاري في شكل أصول جديدة يتم عرضها على مؤسسات الاستثمار المالية حسب الطلب، داخل الدولة و في العالم بأكمله. و هكذا تم تناسي المخاطر التي تحيط بمثل هذه المشتقات المالية، حتى انفجار الأزمة.quot;
و من المهم التنويه أن نسبة متزايدة من الأصول المالية كانت تتم خارج نطاق السلطة الرقابية المركزية مثل شركات الرهن العقاري الأمريكية التي لا تخضع لترخيص و رقابة بنك الاحتياط الفيدرالي و إنما للرقابة الضعيفة على مستوى الولايات، كما أن صناديق التحوط (Hedge Funds) و شركات الاستثمار المالي (Private equity funds)تكاد لا تخضع لأية رقابة تذكر. و هذا ما أدى لمزيد تجاهل المخاطر الكامنة. لكن هذا لا ينفي حقيقة إن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة نجاح علمي و تكنولوجي في المقام الأول، كان من الصعب توقع أعراضه الجانبية و آثاره السلبية. و لحسن الحظ إن مثل هذه الأزمات نادرا ما تحدث - مرة كل قرن تقريبا حسب تقديرات الآن جرينسبان -. لذلك اعتقد شخصيا إن تلافي مثل هذه الأزمات في المستقبل سوف يكون شبه مستحيل. و الممكن و المأمول أن يكون هناك استعداد أفضل لمواجهة مثل هذه الأزمات منذ البداية و بكافة الأدوات المتاحة و بأكثر ما يمكن من التعاون و التنسيق بين دول العالم، و في كل هذا تمثل مواجهة الأزمة الحالية تقدما كبيرا مقارنة بما حصل خلال الأزمة السابقة للانهيار الكبير للعام 1929.

إجراءات مواجهة الأزمة الاقتصادية
مع انتقال عدوى الأزمة المالية إلى مختلف الأنشطة الاقتصادية، لم يعد هناك بد من اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة مخاطر. بالنسبة للدول النفطية عملية تصحيحية في الدول التي عرفت نموا سابقا غير طبيعي ndash;فقاعة القطاع العقاري أشهر امثلته ndash; لا توجد عوائق للنمو كما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير عن المنطقة، خصوصا و أن الدول النفطية لها الموارد الكافية لتتجنب انهيار الإنفاق المقرر في الموازنات الحكومية، كما من غير المرجح أن تنزل سعر النفط إلى مستوى اقل يهدد هذه الموازنات.
أما بالنسبة للدول العربية غير النفطية فلا بد من التنبيه أولا من الانعكاسات السلبية لانخفاض الصادرات إلى الدول المتقدمة و السياحة المتأتية من هذه الدول بالإضافة إلى انخفاض التمويلات من الأسواق العالمية سواء لتمويل التجارة الخارجية أو الحكومات و القطاع الخاص. و كل هذا يعني احتمالا اكبر اليوم مقارنة بأشهر قليلة مضت بان تنخفض نسبة النمو الاقتصادي في معظم الدول العربية غير النفطية و ربما يحصل نمو سالب في بعضها.
لكن من المهم التتحذير من اتخاذ القرارات الميتعجلة و الخاطئة و من اهمها:
القرارالخاطئ رقم 1: تخفيض اسعار المواد المدعومة، أي اسعار الغذاء و البنزين، مادامت هذه الاسعار دون مستوياتها في الاسواق العهالمية. دعم الاسعار سياسة غير ناجعة و هي تصب في مصلحة مستهلك البضاعة و غالبا ما تكون الطبقات المرفهة و السواح الاجانب من اكبر المستهلكين. كما يؤدي الدعم الى عمليات تهريب واسعة الى الدول المجاورة حيث الدعم اقل، و كل ه1ذا يؤدي الى زيادة عجز الموازنات الحكومية.
القرار الخاطئ رقم 2: اعتماد برنامج انتعاش اقتصادي يزيد من نفقات الحكومة (كما هو الحال مع برنامج الادارة الامريكية الجديدة). انفاق الحكومة مرتفع نسبيا، و يصل الى 40% في الاردن، 32% في تونس زو 28% في كل من المغرب و مصر، ز هذه نسب مرتفعة. بالضافة فان رفع النفقات سوف ينعكس على عجز الموازنة و هو ما يؤدي الى تضخم او دين (داخلي و خارجي). و الدين الخارجي المرتفع اساسا (51% من الناتج المحلي الاجمالي في الاردن و 50% في تونس).
القرار الخاطئ رقم 3: مزيدا من حماية البنوك من المنافسة الخارجية بدعوى التصدي الى العدوى. وجود البنوك الاجنبية يرفع النسبة السنوية للنمو الاقتصادي بنقطة مئوية و مضاعفة الاقروض المصرفية للقطاع الخاص كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي تزيد من هذه النسبة بنقطتين مؤويتين.
الاجراءات المطلوبة تتمثل في حزمة من القرارات تتلخص في: (1) تجميد اية زيادة للاجور خلال هذه السنة، (2) برنامج متكامل للتخفيض التدريجي لنسبة الضريبة الجمركية على الواردات و على دخل الافراد و الشركات مع تطبيق البرنامج المعلن عنه هذه السنة على مدى 3 الى 5 سنوات، (3) فتح مجال امام القطاع الخاص المحلي و الاجنبي للاستثمار في البنية التحتية (الطاقة ndash; بدءا بالطاقة المتجددة - و الطرقات السريعة و الموانئ و المطارات و السكك الحديدية و الميترو). في دولة مثل التشيلي كل هذه الانشطة تم تموبلها من القطاع الخاص و من الخطا تمويلها من ميزانية الدولة، و (4) تشجيع استثمار القطاع الخاص في التعليم.
تحسين بيئة الاعمال، اذ مازالت مؤشرات تقارير البنك الدولي تؤكد على وجود عراقيل كبيرة على هذا المستوى في الدول العربية غير النفطية، حيث تاتي تونس في المرتبة 73 عالميا تليها لبنان (مرتبة 99)، الاردن (101)، مصر (114) المغرب (128)، الجزائر (132)، سوريا (137)، السودان (147) و العراق في المرتبة 152.
يمكن تقسيم الأزمات الاقتصادية إلى ثلاثة أنواع: (1) انهيار أسواق رأس المال (أي انهيار أسعار الأسهم في البورصات)، (2) انفجار فقاعة العقارات (أي انهيار أسعار المساكن بعد فترة ارتفاع غير طبيعية تؤدي إلى صعوبات مالية للشركات و البنوك المقرضة إلى هذا القطاع)، (3) و الأزمات المصرفية، أي تعرض البنوك لصعوبات مالية تهددها بالإفلاس نتيجة القروض المتعثرة. و الأزمة الاقتصادية الحالية تحتوى على كل هذه العناصر و ان جاءت الشرارة الاولى من انفجار فقاعة العقارات.
لخصت دراسة حديثة البروفيسور كينيث روجوف الرئيس السابق لدائرة الأبحاث بصندوق النقد الدولي و كارمين رينهارت من جامعة ميريلاند(*) أهم الدروس المستفادة من الأزمات المالية السابقة و يمكن تلخيصها كالتالي:
أولا: تؤدي الأزمات المصرفية إلى انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 9،3% و على مدى سنتين (مقارنة بأقل من سنة واحدة في فترات الكساد العادية)، و يكون الانخفاض اكبر في الدول النامية نتيجة فقدانها للتمويلات من الأسواق العالمية. على سبيل المثال، انخفض الناتج المحلي الإجمالي على مدى سنتين و بحوالي 15% اثر أزمة 1997 في اندونيسيا، و على مدى 4 سنوات و بأكثر من 20% في الأرجنتين اثر أزمة 2001.

ثانيا: ترتفع نسبة البطالة على مدى قرابة 5 سنوات ( أكثر من ضعف فترة انهيار الإنتاج المنوه لها أعلاه) و بمعدل 7 نقاط مؤوية، لكن الزيادة في الدول النامية تبدو اقل من هذا المعدل ( حوالي 2،5 نقاط مؤوية في كل من تايلاند و اندونيسيا اثر أزمة 1997 و 7 نقاط في الأرجنتين اثر أزمة 2001). و قد يعود هذا الفارق إلى الانخفاض الحاد في الأجور في الدول الفقيرة و عدم وجود تعويضات للعاطلين مما يجبرهم على ابحث الجدي عن العمل و لو برواتب اقل بكثير من السابق.
ثالثا: الارتفاع الكبير لدين الحكومة و بمعدل 86% (حوالي 100% بالنسبة لاندونيسيا اثر أزمة 1997)، و ذلك نتيجة انخفاض عائدات الضرائب من جهة و ارتفاع النفقات الحكومية من جهة أخرى في محاولة لإنعاش الاقتصاد، بالإضافة لتحمل الحكومات لبعض النفقات الأزمة للبنوك المتعثرة.
من ايجابيات الفترة الحالية إدراك أفضل لأنجع السبل لمواجهة الأزمات و تنسيق أفضل على المستوى العالمي، لكن عولمة الاقتصاد و المال تجعل عدوى الأزمة أكثر سرعة، وسوف يكون من الصعب على الدول النامية تجنب الآثار انهيار أسواق الصادرات في الدول المتقدمة (بما فيها السياحة و الخدمات التابعة لها) و كذلك شح مصادر التمويل في الأسواق العالمية بما فيها تمويل الصادرات. و تزداد احتمالات عدم إيفاء الدول النامية بمستحقات ديونها الخارجية عندما تشتد الأزمة في دول عدة و في وقت واحد.
تعددت برامج دعم القطاع المالي و الانتعاش الاقتصادي، منذ اندلاع الأزمة الأخيرة، و تغيرت ملامحها لسبب بسيط و هو أننا مازلنا في مرحلة تجريبية من حالة انهيار مالي و اقتصادي يذكر بما حدث في أمريكا في الثلاثينات من القرن الماضي، لكن مع الاختلاف في جذور الأزمة و مظاهرها و الأدوات المتاحة للتعامل معها. و بما انه لا يمكن صياغة برنامج الإصلاح بالجدوى المطلوبة دون معرفة الأسباب العميقة للمشكلة توجب علينا مزيد البحث في جذور الأزمة الحالية، و أهمها الابتكارات المالية و ثورة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، أي شبكة الانترنت.

أولا: الابتكارات المالية
ساعد تطور الهندسة المالية على جمع أصول مالية في حزمة واحدة - مثل الرهون العقارية لدى شركات التمويل العقاري - و استعمالها كأساس لإصدار سندات يتم عرضها للمستثمرين. و سارعت البنوك التجارية (مثل سيتي-جروب في أمريكا) و بنوك الاستثمار في quot;وول ستربتquot; (ميريل لينش و ليهمان بروذيرز...) لشراء أدوات الدين هذه. كما سارعت البنوك الأجنبية للحصول على حصتها من الكعكة (بنك دويتش بنك الألماني، يوبي اس السويسري و مؤسسات أخرى في آسيا...).
خلافا للمقرض الأول (شركات التمويل العقاري في هذه الحالة)، لم يكن بإمكان المستثمرين الجدد التعرف على هوية مالك العقار عن قرب، و من ثم تقييم درجة المخاطر الحقيقية لأدوات الدين التي بحوزتهم، و من هنا كان فشل الأسواق المالية في تقدير المخاطر و تسعيرها كما يجب.
لكن هذا لا يعني جهلا تاما بالمسالة. عملاق التامين الأمريكي quot;أي-آي-جيquot;، على سبيل المثال، نجح فعلا في تقدير احتمال عدم الإيفاء بالديون التي كان يتعهد بتأمينها ( Credit Default Swaps )، و ذلك بفضل النماذج الإحصائية التي طورها البروفيسور quot; Gary Gorton quot;أستاذ المالية بجامعة quot;يايل.quot; لكن خطا إدارة الشركة و من ثم صعوباتها المالية الحالية كانت نتيجة التزاماتها إزاء عملائها (مالكو بوليصة التامين) بتعويضهم في حال انخفاض سعر الأوراق المالية المؤمنة و كذلك في حال انخفاض التصنيف الائتماني لشركة quot;أي-أي-جيquot; نفسها. و هي التزامات ما كان للشركة القبول بها في المقام الأول، آو كان عليها تقدير درجة مخاطرها و توفير المخصصات المالية لمواجهة أي طارئ.

ثانيا: شبكة الانترنت
سهلت شبكة الانترنت عمليات عقد الصفقات للمشتقات المالية دون تكلفة تذكر، مما ضاعف من حجم هذه العمليات وسهل توزيعها على مختلف مناطق العالم. و أمام النمو الكبير لهذه العمليات و أهميتها، طالب مراقب الخزانة الأمريكي عام 1994 بالرقابة على هذه الصفقات، لكن طلبه هذا جوبه بمعارضة شديدة من الرئيس السابق لبنك الاحتياط الأمريكي quot;ألان جرينسبانquot; الذي اعتبر أن الانترنت تساعد على quot;إعادة توزيع المخاطر على النطاق العالمي.quot; و كما ورد في quot;نيوزويكquot; بتاريخ 27 أكتوبر 2008: quot;رأى جرينسبان في الانترنت و أجهزة الكومبيوتر السريعة الطريقة الأمثل لإعادة صياغة الرهون العقاري في شكل أصول جديدة يتم عرضها على مؤسسات الاستثمار المالية حسب الطلب، داخل الدولة و في العالم بأكمله. و هكذا تم تناسي المخاطر التي تحيط بمثل هذه المشتقات المالية، حتى انفجار الأزمة.quot;

ومن المهم التنويه أن نسبة متزايدة من الأصول المالية كانت تتم خارج نطاق السلطة الرقابية المركزية مثل شركات الرهن العقاري الأمريكية التي لا تخضع لترخيص و رقابة بنك الاحتياط الفيدرالي و إنما للرقابة الضعيفة على مستوى الولايات، كما أن صناديق التحوط (Hedge Funds) و شركات الاستثمار المالي (Private equity funds)تكاد لا تخضع لأية رقابة تذكر. و هذا ما أدى لمزيد تجاهل المخاطر الكامنة. لكن هذا لا ينفي حقيقة إن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة نجاح علمي و تكنولوجي في المقام الأول، كان من الصعب توقع أعراضه الجانبية و آثاره السلبية. و لحسن الحظ إن مثل هذه الأزمات نادرا ما تحدث - مرة كل قرن تقريبا حسب تقديرات الآن جرينسبان -. لذلك اعتقد شخصيا إن تلافي مثل هذه الأزمات في المستقبل سوف يكون شبه مستحيل. و الممكن و المأمول أن يكون هناك استعداد أفضل لمواجهة مثل هذه الأزمات منذ البداية و بكافة الأدوات المتاحة و بأكثر ما يمكن من التعاون و التنسيق بين دول العالم، و في كل هذا تمثل مواجهة الأزمة الحالية تقدما كبيرا مقارنة بما حصل خلال الأزمة السابقة للانهيار الكبير للعام 1929.

إجراءات مواجهة الأزمة الاقتصادية
مع انتقال عدوى الأزمة المالية إلى مختلف الأنشطة الاقتصادية، لم يعد هناك بد من اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة مخاطر. بالنسبة للدول النفطية عملية تصحيحية في الدول التي عرفت نموا سابقا غير طبيعي ndash;فقاعة القطاع العقاري أشهر امثلته ndash; لا توجد عوائق للنمو كما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير عن المنطقة، خصوصا و أن الدول النفطية لها الموارد الكافية لتتجنب انهيار الإنفاق المقرر في الموازنات الحكومية، كما من غير المرجح أن تنزل سعر النفط إلى مستوى اقل يهدد هذه الموازنات.
أما بالنسبة للدول العربية غير النفطية فلا بد من التنبيه أولا من الانعكاسات السلبية لانخفاض الصادرات إلى الدول المتقدمة و السياحة المتأتية من هذه الدول بالإضافة إلى انخفاض التمويلات من الأسواق العالمية سواء لتمويل التجارة الخارجية أو الحكومات و القطاع الخاص. و كل هذا يعني احتمالا اكبر اليوم مقارنة بأشهر قليلة مضت بان تنخفض نسبة النمو الاقتصادي في معظم الدول العربية غير النفطية و ربما يحصل نمو سالب في بعضها.

اكن من المهم التتحذير من اتخاذ القرارات الميتعجلة و الخاطئة و من اهمها:
القرارالخاطئ رقم 1: تخفيض اسعار المواد المدعومة، أي اسعار الغذاء و البنزين، مادامت هذه الاسعار دون مستوياتها في الاسواق العهالمية. دعم الاسعار سياسة غير ناجعة و هي تصب في مصلحة مستهلك البضاعة و غالبا ما تكون الطبقات المرفهة و السواح الاجانب من اكبر المستهلكين. كما يؤدي الدعم الى عمليات تهريب واسعة الى الدول المجاورة حيث الدعم اقل، و كل ه1ذا يؤدي الى زيادة عجز الموازنات الحكومية.

القرار الخاطئ رقم 2: اعتماد برنامج انتعاش اقتصادي يزيد من نفقات الحكومة (كما هو الحال مع برنامج الادارة الامريكية الجديدة). انفاق الحكومة مرتفع نسبيا، و يصل الى 40% في الاردن، 32% في تونس زو 28% في كل من المغرب و مصر، ز هذه نسب مرتفعة. بالضافة فان رفع النفقات سوف ينعكس على عجز الموازنة و هو ما يؤدي الى تضخم او دين (داخلي و خارجي). و الدين الخارجي المرتفع اساسا (51% من الناتج المحلي الاجمالي في الاردن و 50% في تونس).

القرار الخاطئ رقم 3: مزيدا من حماية البنوك من المنافسة الخارجية بدعوى التصدي الى العدوى. وجود البنوك الاجنبية يرفع النسبة السنوية للنمو الاقتصادي بنقطة مئوية و مضاعفة الاقروض المصرفية للقطاع الخاص كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي تزيد من هذه النسبة بنقطتين مؤويتين.

الاجراءات المطلوبة تتمثل في حزمة من القرارات تتلخص في: (1) تجميد اية زيادة للاجور خلال هذه السنة، (2) برنامج متكامل للتخفيض التدريجي لنسبة الضريبة الجمركية على الواردات و على دخل الافراد و الشركات مع تطبيق البرنامج المعلن عنه هذه السنة على مدى 3 الى 5 سنوات، (3) فتح مجال امام القطاع الخاص المحلي و الاجنبي للاستثمار في البنية التحتية (الطاقة ndash; بدءا بالطاقة المتجددة - و الطرقات السريعة و الموانئ و المطارات و السكك الحديدية و الميترو). في دولة مثل التشيلي كل هذه الانشطة تم تموبلها من القطاع الخاص و من الخطا تمويلها من ميزانية الدولة، و (4) تشجيع استثمار القطاع الخاص في التعليم.

تحسين بيئة الاعمال، اذ مازالت مؤشرات تقارير البنك الدولي تؤكد على وجود عراقيل كبيرة على هذا المستوى في الدول العربية غير النفطية، حيث تاتي تونس في المرتبة 73 عالميا تليها لبنان (مرتبة 99)، الاردن (101)، مصر (114) المغرب (128)، الجزائر (132)، سوريا (137)، السودان (147) و العراق في المرتبة 152