تاريخ الاقتصاديات المتقدمة و الناهضة حافل بالأزمات المالية الكبيرة و المكلفة. الأزمة الحالية كلفت أمريكا حتى الآن حوالي 5،8% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 3،9% في أزمة الادخار السكني عام 1988. و هكذا كان حال أزمات شبيهة في دول أخرى: أزمة فنلندا عام 1991 (بتكلفة 12،8% من الناتج المحلي الإجمالي)، السويد عام 1999 (بتكلفة 3،6%)، المكسيك عام 1994 (بتكلفة 19،3%)، اليابان عام 1997 (بتكلفة 24%)، و كوريا الجنوبية عام 1997 (بتكلفة 31،2% من الناتج المحلي الإجمالي). مع هذا فانه من الخطأ اعتبار حرية المبادرة في القطاع المالي و انفتاحه على المنافسة الخارجية شرا كله. أمريكا على سبيل المثال، ما كانت لتحقق نموا اقتصاديا يقارب ضعف ما تحققه الدول الأوروبية و ما كان لمعدل دخل الفرد فيها أن يفوق حاليا بــ 30% المعدل الأوروبي لولا المزايا التي يوفرها قطاعها المالي التنافسي و المتطور. لكن الدرس الذي يجب استخلاصه من الأزمات السابقة و الحالية هو ضرورة التعامل مع جذور الأزمة، كل حالة على حدة، و هذا ما لم يحصل من خلال قرارات المصارف المركزية منذ بداية الأزمة الحالية، خصوصا الاعتماد المفرط على خفض سعر الفائدة.
كان رد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ بداية الأزمة الحالية بخفض سعر الفائدة على الأموال الاتحادية (القروض قصيرة الأجل فيما بين البنوك) من 5،25% في سبتمبر 2007 حتى قراره الأخير بتاريخ 8 أكتوبر الماضي عندما تم خفض سعر الفائدة من 2% إلى 1،5%، و الذي جاء بالتوازي مع إجراءات مماثلة لستة مصارف مركزية في العالم. لكن التمويلات فيما بين البنوك لم ترتفع نتيجة ذلك، نظرا لعدم وجود الثقة في قدرة البنوك المقترضة على السداد. و من هنا جاء الرد السلبي لأسواق رأس المال على هذا الإجراء، إذ انخفض مؤشر أسعار الأسهم بــ 2% في أمريكا، 6% في أوروبا، 9،4% في اليابان، 5،2% في المملكة المتحدة، 3% في الصين، و 4% في البرازيل...
لعل أفضل تحليل لخطا المصارف المركزية جاء عن طريق الباحثة quot;آنا شفارتزquot; التي سبق لها أن الفت مع الاقتصادي البارز quot;ميلتون فريدمانquot; كتاب quot;التاريخ النقدي للولايات المتحدة الأمريكيةquot; الذي يعد حسب تعبير بين برنا نكيacute;رئيس الاحتياطي الفيدرالي quot; العمل الأروع و التفسير الأدق لأكبر انهيار اقتصادي في تاريخ أمريكا (أزمة 1929)quot;.
كتبت quot;آنا شفارتزquot; في صحيفة وول ستربت بتاريخ 20 أكتوبر الماضي ما يلي:

-quot;لقد تصرف الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) و كان المشكلة الحالية هي أزمة سيولة، بينما واقع الحال يشير إلى عدم القدرة على التعرف على المؤسسات المالية السليمة (القادرة على الإيفاء بتعهداتها المالية) و المؤسسات غير السليمة. لذلك اتخذت البنوك الحذر المفرط، مما شل أسواق الاقتراض فيما بين البنوك و بذلك فقدت هذه الأخيرة القدرة على تمويل الأفراد و المؤسسات.

- أزمة الثلاثينات من القرن الماضي كانت أزمة ثقة من طرف المودعين الذين سارعوا بسحب أموالهم من البنوك بما في ذلك البنوك التي تتوفر فيها شروط السلامة المالية، بينما المشكل اليوم يقع في جانب الأصول (الأصول المرتبطة بالرهن العقاري التي لا نعرف بالضبط قيمتها الحقيقية حتى يتم بيعها في السوق على هذا الأساس).

- بناء على ما سبق، يتمثل الحل اليوم في التخلص من هذه الأصول المشبوهة، و الحل الذي اقترحه و زير الخزانة الأمريكي quot;هانك بولسونquot; سابقا بشراء الحكومة لهذه الأصول يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح.

- الخطأ في البرنامج الحالي للإنقاذ الذي يعتمد على رفع رأس مال البنوك بمساهمة من الدولة انه يدعم كافة المصارف العاملة بما فيها المصارف الفاشلة التي كان عليها أن تتحمل تبعات قراراتها الخاطئةquot;. (انتهى)
و الحقيقة إن تدخل السلطات النقدية يجب أن يركز على إنقاذ النظام المالي (لا المؤسسات المالية)، و ذلك بالاقتصار على اتخاذ الإجراءات الضرورية التي تحد من مخاطر النظام المالي في مجمله (انعدام ثقة المودعين في أزمة 1929 وشلل قدرة المصارف على التمويل خلال الأزمة الحالية). و يقتصر ذلك على ضمان الودائع المصرفية في الحالة الأولى و شراء الأصول المشبوهة خلال الأزمة الحالية. إن يتعدى الأمر ذلك إلى دعم المؤسسات التي فشلت في اختبار السوق فهذا مؤشر كإرثي سوف يشجع البنوك في المستقبل على المقامرة و اتخاذ القرارات الاستثمارية غير المسئولة.
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي وخبير سابق بصندوق النقد الدولي
ِ[email protected]