سمي العصر الذي نمت فيه الحركة الفكرية والاجتماعية و الفلسفية التنويرية في فرنسا بـ quot; عصر الايضاحquot;Eclaireissement. اما في المانيا فقد سمي عصر quot;التنويرquot; Aufklaerung، الذي تعود اليه جميع الحركات الاجتماعية و الفلسفية والسياسية المعاصرة بصورة مباشرة. وكانت اكثر تلك الحركات هي ردود فعل غير مباشرة لها، التي اعتبرت نفسها quot;تنويريةquot; ايضا. وبعد ست سنوات على وفاة كانت في الثاني عشر من شباط 1804، اعتبر مفهوم التنوير، الذي هو في الاصل انكليزي، مفهوما سطحيا مرتبطا بالانتلجنسيا، كما ظهرت لاول مرة كلمة Enlihtenment كترجمة انكليزية لكلمتي Eclairissement,و Aufklaerung، التي حافظت على معناها العام السابق حتى الان.(1)
وجاء اول تعريف لمفهوم quot; التنويرquot; في كتاب quot; الوصيةquot; للأب ميسلي وذلك في عام 1725، حيث ذكر quot;بان نور العقل الطبيعي هو وحده الكفيل بان يقود الناس الى الحكمة والكمال العقليquot;.
وبعد نصف قرن تقريبا اجاب اثنان من الفلاسفة في مجلة برلين عام 1784 عن سؤال عن ماهية التنوير. فكتب موسى مندلسون يقول:
quot; ان كلا من المعرفة والثقافة والتنوير تعديل للحياة الاجتماعية... ويندرج تحت المعرفة كل من الثقافة والتنوير. وتهتم الثقافة بالجانب العلمي... بينما يهتم التنوير أكثر بالجانب النظري. أي يهتم بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الاشياء الموجودة في الحياة الانسانية تبعا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الانسان..quot;
وبعد شهرين نشر كانت في مجلة برلين عدد ديسمبر عام 1784 مقاله الشهير: ما هو التنوير؟ جاء فيه:
quot; التنوير هو خروج الانسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر. ويرجع الذنب في هذا القصور الى الانسان نفسه عندما لا يكون السبب فيه هو عيب في العقل، وانما الافتقار الى العزم والشجاعة اللذان يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من انسان آخر. هذا هو شعار التنوير quot;. كما اضاف: quot; والكسل والجبن هما علة بقاء البعض من الناس عاجزين وقاصرين طوال حياتهم، رغم ان الطبيعة حررتهم منذ زمن طويل من كل سلطة ووصاية خارجية وغريبة عليهم، وفي ذات الوقت، فان الكسل والجبن هما سبب تطوع الآخرين في ان يفرضوا وصاياهم عليهم... ان مبدأ التنوير هو:! Sapere aude quot; كن شجاعا واستخدم عقلك بنفسك!quot;(2)
نخلص من هذا النص التنويري بما يلي:
اولا - ان الانسان مسؤول عن قصوره، اذا لم يكن سببه نقصا في عقله، وانما نقصا في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده.
ثانيا - ان هناك مصلحة في ابقاء الناس على قصورهم وعجزهم، وهم مسؤولون عن ذلك. ويرتبط تطوع الآخرين في فرض وصاياهم عليهم بمصلحة تحقيق السيطرة على القاصرين منهم، لان الأوصياء يجدون صعوبة في تحقيق سيطرتهم اذا لم يكن هناك افراد يعجزون عن استخدام عقولهم ويتركون للآخرين اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية نيابة عنهم.
ثالثا - ان للانسان عقل يميزه عن باقي الكائنات الحية ويوجهه نحو المعرفة الصحيحة والعمل المفيد والقرار الصائب اذا استطاع استخدامه بشكل صحيح وبدون توجيه من انسان آخر.
رابعا - ليس هناك شيء يتطلبه التنوير بقدر ما يتطلب الحرية، ويعني ذلك حرية الاستخدام العلني للعقل وفي كل الامور.
خامسا - هناك شعوب كبيرة خرجت من مرحلة القصور العقلي واصبحت تفكر بشجاعة وبصورة مستقلة دون وصاية من الاخرين، وعلى هذه الشعوب ان تخوض معركة ضد نفسها وضد الاخرين، وهذا لا يتم الا بنشر الحرية، التي هي حق الانسان في الاستخدام العلني لعقله وفي جميع مجالات الحياة.
الملامح الرئيسية لعصر التنوير
يمكننا ايجاز اهم الملامح الفكرية والاجتماعية والفلسفية التي جسدها عصر التنوير في اوربا وهي كما يلي:-
1-النزعة العقلانية
ان احدى اهم نتائج عصر التنوير هي تطور النزعة العقلانية التي كانت تجسيدا للتقدم والتحرر الفكري والاجتماعي وكذلك الاقتصادي والسياسي, الذي واكب التحولات البنيوية التي حدثت في اوربا والتي اعتبرت العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة (ديكارت وسبنيوزا) واكدت على احترام العقل بل وتقديسه ونبذ الفكر الميتافيزيقي والاسطوري وناضلت ضد الآيديولوجية الاقطاعية والكنسية وعملت بلا هوادة من اجل سيطرة العقل لقدراته على ادراك وفهم الضواهر الطبيعية والاجتماعية.
2-مفهوم التقدم
قامت فلسفة التنوير على مفهوم quot;التقدمquot; الذي انبثق من الايمان بقدرة العقل البشري على التطور والتغير والتقدم نحو الاحسن والافضل للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الانسان والمجتمع، وقدرة الانسان على مواجهة التحديات التي تواجهه بفضل قابلياته ومقدراته الذهنية.
3-التفريق بين الدولة والمجتمع
صورت فلسفة التنوير المجتمع بكونه اكثر من مجتمع سياسي, وبمعنى آخر, اكدت على الاستقلالية والتحرر وعدم الخضوع لسلطة الكنيسة وأية وصاية خارجية أخرى، وكذلك التفريق بين الدولة والمجتمع، وبذلك وجهت الانظار الى الاهتمام بالنظم والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
5- فلسفة المنفعة
اتخذ عصر التنوير من مفهوم quot;المنفعةquot; خلقا اجتماعيا واصبح اساسا في التعامل الانساني وكفلسفة اجتماعية- قيمية فسرت الاخلاق بمفهومي quot;اللذة والالم quot; واتخذت من سعادة الاكثرية اساسا لتقرير وتقييم السلوك الاجتماعي.
6- الطبيعة الانقلابية- الثورية
انطوى عصر التنوير على طبيعة انقلابية- ثورية قامت على منهج جدلي نتيجة تحالف الطبقة البرجوازية الجديدة مع الارستقراطية العليا وبقايا الاقطاع من جهة، وظهور الحركات الجماهيرية والنقابات العمالية، كرد فعل لها من جهة اخرى، كان هدفها احلال مجتمع ديمقراطي اكثر حرية وعدالة.
7- القوانين الطبيعية والقوانين الاجتماعية
اخذ فلاسفة التنوير يفسرون الظواهر الاجتماعية على ضوء القوانين الطبيعية وذلك بسبب انتشار المذهب الحسي، كمذهب للبحث في نظرية المعرفة والاهتمام بدراسة الحياة الاجتماعية. كما اتجهت العلوم الى استخدام quot;التجربةquot; التي اصبحت لها اهمية خاصة باعتبارها مصدر المعرفة، كما هو الحال عند جون لوك، وديفيد هيوم.

8 - اعادة الاهتمام بالفلسفة
حاول فلاسفة التنوير اعادة الاهتمام بقيمة الفلسفة وذلك بجعل العقل المصدر الوحيد للمعرفة، وليس التراث القديم كشيئ مقدس ومفروض، ووضع جميع الاشياء على محك العقل للكشف عن المسببات المنطقية التي ادت اليها. وعلى هذا الاساس رفض فلاسفة التنوير التراث المسيحي التقليدي الذي ينتهك قوانين العلم والمنطق وكذلك اخلاقية الزهد والتقشف الصارمة في الحياة الدنيا، ودعوا الى اخلاق اكثر انسانية والالتزام بالتسامح والسلام بدل التعصب والعنف.
جدل التنوير
غير ان عصر التنوير، الذي دعى الى افكار التقدم والعقلانية واكد على أولوية الانسان وحريته واستقلاله وجعل سلوكه القاعدة المعيارية لممارساته الاجتماعية، لم يحقق ما وعد به تماما، بل ومهد الطريق، كما يقول هوركهايمر وأدورنو في كتابهما quot;جدلية التنويرquot; عام 1947، لتنامي انظمة شمولية لم تاتي عبثا، فسرعان ما اخذ المجتمع العالمي بالانقسام وتنحى الفكر النقدي عن وظيفته واهدافه التي دعى اليها، وهو ما كون شكلا من الارتداد على الذات، الذي تمثل بالتحول الى سيطرة الدولة الشمولية وسيادة الاقوى وليس الافضل، الذي قاد الى فكرة quot;التمركز الأوربيquot; ونمو الدكتاتوريات واستمرار الحروب وتصنيع الثقافة التي انطبعت في اخلاقية الانسان الاقتصادي ومعاييره النفعية بحيث اصبح المال والقوة هما مقياس النجاح والتقدم في الحياة.( 3)
ومع ذلك، يجب التمييز بين المواقف الرافضة تماما لأفكار عصرالتنوير، كما جاءت عند رواد ما بعد الحداثة ومن بينهم ميشيل فوكو، وتلك التي تنتقده لتطويره، بأعتباره مشروع لم يكتمل، كما عند يورغن هابرماس. فالافكار التي جاء بها عصر التنوير اعطت للعقل والحرية والتجربة دورا أهم بالقياس الى التقاليد، وهو ما مكن الشعب من ان يتحرر والفرد من ان يحصل على استقلاليته والمجتمع من ان يتقدم بأطراد.quot; فالأنوار ما زالت معاصرة لنا وتشع بنورها علينا. ورغم بعض الغيوم التي تلبد سماءنا، فاننا تلاميذ هذا العصر العقلاني الفريد حتى عندما ننتقدهquot;(4).
المصادر:

1-Poper, K, R, Immanuel Kant, Der Philosopfh der Aufklaerung. Suhrkump, Frunkfurt, 1992,s. 336- 337.
2-Kant, A. Beantwortung der Frage, Was ist, Aufklaerung, Kant Werke, Bd , 3, Berlin 1900, s. 35 ff. باربارا باومان وبريجيتا اوبرلة، عصور الادب الالماني،(ترجمة)، عالم المعرفة، رقم 278، الكويت 2002، ص.132
3-Horkheimer u. Adorno, Dialektik der Aufklaerung, Fischer Verlag,Frankfurt,1982, S.IX
4- Jurgen Habermas, Der Phhlosophische Diskurs der Moderne, Surkampf,Frankfurt,1991