توجه تركيا كليا باتجاه أوروبا و لأكثر من نصف قرن في عهد الأتاتوركية، لكنها مع نهاية الحرب الباردة، بدأت في تغيير وجهتها نحو بلدان البحر الأبيض المتوسط والعالم العربي. و قد تأكد هذا التحول الجديد للسياسة الخارجية لتركيا بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. فشرعت الحكومة التركية بحلحلة الأزمات العالقة في محيطها باعتماد المساعي الحميدة تجاه الجوار العربي ثم تدخلت في الانتفاضات العربية لسنة 2011، بعرض تجربتها السياسية "نموذجا" لمختلف الفاعلين العرب. وقد شهدت المنطقة سقوط بعض الأنظمة، الحروب الأهلية، الإرهاب و أزمة اللاجئين)، أدت إلى تفكك بعض الدول العربية و زوالها حتى. و يبدو أن فشل محاولة الانقلاب، تجديد العلاقة مع روسيا، التدخل العسكري لتركيا في شمال سوريا، الخ، قد تمثل مرحلة ثالثة في دبلوماسية حزب أردوغان.
تتميز تركيا، بحكم موقعها الجغرافي (بين أوروبا و آسيا)، و بحكم تاريخها (الخلافة العثمانية)، وبكونها تقع ضمن "فضاء تتقاطع فيه أبعاد جيوستراتيجية وسياسية و سوسيو-ثقافية ذات أهمية كبرى ". إن امتجاز هذين البعدين، أي التاريخ و الجغرافيا، و تقاسمها العالم العربي الجوار، الدين الإسلامي و الإرث التاريخي. فتركيا بلد يحتل الصدارة اقتصاديا، عضو في منظمة الحلف الأطلسي ومرشح للدخول في الاتحاد الأوروبي. و تمكنت بفضل ذكاء مثقفيها و سياسيها بإيجاد توافق بين الإسلام والديمقراطية.
تركيا قوية ديموغرافيا (ثمانون مليون نسمة)، وغنية بالموارد البشرية ذات كفاءة عالية كما تملك اقتصادا قويا، تمثل صورة رائعة و محيرة، فالمواريث الثقافية المتنوعة التي تنظم هوية هذا البلد "تجعل معالمه مضطربة" و أن البلد " لا يوجد في مكان معين".
و مجيء أحمد داود أوقلو إلى وزارة الشؤون الخارجية سنة 2009 قد جعل سياسة حسن الجوار تتسارع، باعتماد "سياسة صفر مشاكل مع الجوار". إذ نشر قبل ذلك سنة 2001، كتابا تحت عنوان "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا و دورها في الساحة الدولية" و تمت تٌرجمة هذا العمل الأكاديمي إلى اللغة العربية و نٌشر ببيروت. و هو " النص المؤسس" للسياسة الخارجية لتركيا منذ بلوغ حزب أردوغان السلطة سنة 2002. يتوقف نجاح السياسة الخارجية، على حل المسألة الكردية والمصالحة بين الإسلاميين و العلمانيين. أما أولوية التعاون تكون لدول الشرق الأوسط، البلقان و القوقاز والبحور القريبة منها و شمال إفريقيا. و بفضل تلك الرؤية، أصبحت تركيا تشجع على تنمية التبادلات الاقتصادية والسياحية والثقافية مع البلدان العربية، و لاسيما من خلال المسلسلات المدبلجة.
يسعى "الكيسنجر التركي"، لجعل تركيا " قوة دولية"، باستئناف العلاقات مع الجوار العربي بواسطة المشتركات أي التراث الإسلامي، حيث ترغب تركيا إنشاء منطقة خلفية «hinterland » تستغلها لتقفز عليها إلى مستويات أخرى"، لاسيما و أن انضمامها للحلف الأطلسي في أكتوبر سنة 1951 لم يمنحها دورا مهما، سوى منع انتشار الحركة السوفيتية و الشيوعية. و تبنت تركيا خطاب نقض النظام الدولي الجديد و الاحتجاج على إسرائيل. تصادف ذلك مع انتفاضات الربيع العربي. فرفضها لاستعمال ترابها من قبل الجيش الأمريكي لغزو العراق (سنة 2003)، احتجاج أردوغان خلال تدخل شمعون بيريز بدافوس (جانفي 2009)، قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل إثر الهجوم على أسطول المتوجه لغزة، مبادرات تعطي الانطباع بأن تركيا أصبحت صادقة في توجهها نحو الجوار العربي. و هي في الواقع إستراتيجية حقيقية "لمٌيسر و وسيط جعل من تركيا تتبوأ مقام قوة تحسن التعامل مع الجميع و "عراب" أو أخ كبير للدول (...)"الصغيرة"".
أسهمت الانتصارات الانتخابية التي حققها حزب أردوغان، و التنمية الاقتصادية التي سجلها، رفضه التعامل مع إسرائيل،... في إعطاء "النموذج" صدى إيجابيا لدى "الشارع العربي" الباحث عن الكرامة، المتطلع للديمقراطية ". فمثل كل بلد حالة خاصة، له مقاربة خاصة. سهلت الأمور في تونس لسرعة سقوط النظام، لكنها صعبت في ليبيا، و انضم أردوغان إلى حملة الحامي الموحد ( Unified Protector) التي قادها الحلف الأطلسي. أما موقفه من حسني مبارك كان واضحا هو دعوته للاستقالة من الحكم، لكن ستشكل سوريا أعظم و أعقد قضية في وجهه، بحكم الجوار و تعنت بشار الأسد في عدم التنازل عن مواقفه بالرغم من "دبلوماسية المكوكية" التي اتبعتها معه تركيا. و أمام تفاقم الصراع في سوريا، تغير أنقرة موقفها لتطالب الرئيس السوري بالاستقالة و تدعم المعارضة سياسيا و عسكريا، و تحتضن المعارضة و تسمح للمقاتلين الأجانب الذين أتوا لمحاربة النظام السوري بالتسلل عبر حدودها.
يشرع أردوغان في الاستثمار السياسي و الاقتصادي في "العمق التاريخي" لتركيا، بزيارته لدول الربيع العربي، مصر التي كانت محكومة آنذاك من طرف الإخوان المسلمين محطته الأولى، استقبل بوصفه نجما كبيرا "سوبر ستار"، في كل من مصر و تونس و ليبيا، فيما بين 12 و 16 سبتمبر". و قد رافق أردوغان وفد كبير يتكون من المستشارين و الوزراء و رجال الأعمال، و أمينة زوجته ذات الأصول العربية، وابنه بلال و بنته سمية". كان لسقوط الإخوان في مصر ضربة موجعة لأردوغان أدت إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، و تحولت سياسة "صفر مشاكل مع الجوار" مع الجوار العربي إلى "صفر جيران بدون مشاكل". اعتمدت الثورات العربية هذا "النموذج"، لكن تردد دبلوماسية حزب العدالة و التنمية التي اصطفت مع الإخوان المسلمين دون غيرهم (في كل من تونس و مصر و المغرب، الخ.)، أظهرت نوعا من التعصب الحزبي المقصي للرؤى العربية الأخرى. إنشاء تنظيم داعش على حدود تركيا أضاف متاعب أخرى للحكومة، استعمالها للقمع العنيف لاحتجاجات حديقة جيزي (Gezi Parki) بمدينة اسطنبول سنة 2013 قد أضر بصورة "النموذج"، و قد قاضت، الاعتقالات التي مست أنصار غولن و تصفيتهم من المؤسسات عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، على ما تبقى. فالغموض الذي يكتنف علاقة أردوغان بإسرائيل له تأثيره الكبير على العلاقة مع العالم العربي، مما يفرض التساؤل حول صدق انخراط القادة الأتراك في هذا الملف الساخن، هل يعني ذلك مجرد خطاب دون انعكاسات ملموسة أو مبادرة مدروسة؟ فتركيا تقيم علاقات تجارية وعسكرية مع إسرائيل منذ 1996، على الرغم من استنكار أردوغان خطابيا " للممارسات الإسرائيلية ليكتسب شعبية في الساحة الشرق-أوسطية، لكنه يحرص على بقاء مجال الأعمال مفتوحا « business as usual » و متانة العلاقات مع تل أبيب ". وعلى الرغم من ذلك، هناك العديد من العناصر ترافع لأجل تثمين النموذج التركي الذي يغري النخب (من كل التوجهات السياسية و ليس ضمن صفوف الإسلاميين فقط)، و كذلك الفئات الشعبية العريضة في العالم العربي و الإسلامي، و لو أن التجربة السياسية التي يقودها حزب العدالة و التنمية تظل مرتبطة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للبلد الذي شهد التأسيس للنظام الجمهوري في العشرينيات من القرن الماضي. و لعل ما هو موجود حاليا من نماذج ذات نزعة إسلامية، عندنا "النموذج السعودي" و "النموذج الإيراني" اللذين لا يمكن تصديرهما لبلدان أخرى بسبب تصلبهما. و للعلم فكل من السعودية و إيران يبذلان أقصى ما في وسعهما لتصدير إيديولوجيتهم و يتحاربان بالوكالة بإحياء الخلافات القديمة بين السنة والشيعة التي ميزت التاريخ الإسلامي في القرون الوسطى. و خلافا لهذين المرجعين السياسيين، فالنموذج التركي الذي وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات يعطي حقيقة صورة جذابة عن إسلام منفتح على العالمية.
إن ترتيب حزب العدالة و التنمية في خانة "الإسلام المعتدل" قد يبدو ملتبسا، كون استعمال هذا الوصف بصفة عشوائية و وفق ظروف و مصالح الغربيين، يتضمن مسكوتا عنه يتمثل في "الإسلام العنيف"، مما يفتح النقاش على مصراعيه حول العنف الذي ليس بالضرورة مرتبطا بجوهر الدين الإسلامي، بل ملازم للتأويل النفعي للفاعلين في صراعهم حول السلطة. كما أن العنف مس كل الديانات و كل الحضارات عبر المسيرة الطويلة لتاريخ البشرية. و عليه لا يمكن اختزال التجربة التركية في البعد الديني فقط، لأن تصور فكرة "الاعتدال" مرتبطة بما تبنته الولايات المتحدة في مشروعها "الشرق الأوسط الكبير" « Greater Middle East ». و قامت الولايات المتحدة منذ اعتداءات 11سبتمبر 2001 بنيويورك بقيادة حرب دون هوادة ضد الإرهاب الذي يتخذ من الدين الإسلامي غطاء له. و تدخل خلفيات تلك الحرب في إطار إعادة رسم خريطة بلدان الشرق الأوسط التي تمتد من البلدان المغاربية إلى باكستان. و باعتمادها تسمية "محور الشر" صاغت الولايات المتحدة كيفية توظيف الخطاب الديني في الصراعات الإقليمية، و قد كانت العراق تحت قيادة صدام حسين هي الهدف الأول، و على الدول العربية و الإسلامية أن تتلقى المصير نفسه و تعيش الفوضى. وبالمناسبة ذاتها، فإن العقيدة التي يدعو إليها زبيقنيو بريجنسكي (متخصص في العلوم السياسية و العلوم الإستراتيجية و المؤثر في الأوساط الرسمية الأمريكية)، تم استلهمها من أفكار برنارد لويس الباحث المتخصص في الديانة الإسلامية، و ستخدم النوايا الأمريكية في إعادة تشكيل بلدان الشرق الأوسط. و قد نشر صاحب هذه العقيدة كتابا تحت عنوان "رقعة الشطرنج الكبرى" سنة 1997، إذ يرمي إلى مواصلة الحرب الباردة بشكل مختلف من خلال محاصرة روسيا والصين و الهند باعتبارهم "فاعلين جيو-استراتيجيين" حقيقيين وبالتالي وضع تحت وصاية الولايات المتحدة كل الفضاءات التي تغطي عمليات إنتاج و تسويق المواد النفطية. إن مشروع الولايات المتحدة يتمثل في "بلقنة" الشرق الأوسط الإسلامي من أجل إنشاء دول نفطية صغيرة سهلة الانقياد خلافا للدول السيادية ذات الهويات القوية (...) أي عبارة عن دويلات أو خلافات إسلامية صغرى تحت رعاية الولايات المتحدة على غرار الدول الخليجية (قطر و الكويت و الإمارات العربية المتحدة وعمان) أو الطوائف الأندلسية".
و في هذا السياق تبنت تركيا سقوط بشار الأسد و ظلت مهووسة به معتقدة، مثل الجميع، أن سقوطه وشيك، "فقدمت دعما لوجيستيا للمعارضة السورية دون الاهتمام بالتعرف على هوية و طبيعة الحركات التي كانت تتلقى هذا الدعم". و لهذا يمكن القول أن أنقرة قد أصبحت، من غير قصد، عرابا لهذا التنظيم الداعشي، بمنحه الدعم الكافي و تيسير المتاجرة غير القانونية للنفط التي كان يتعاطاها التنظيم الإرهابي على الحدود التركية. كانت أنقرة من خلال دعمها الضمني لداعش، ترمي إلى تحقيق هدفا مزدوجا: التعجيل بإسقاط النظام السوري و منع بأي ثمن قيام دولة كردية على حدودها. و بعد أن أدت "لعبة مزدوجة" تجاه هذا التنظيم، قررت الانضمام إلى التحالف الدولي الذي يسعى لاستئصال الإرهاب، لكن دون فعالية، بسبب "أن أنقرة لا تشعر بتهديد هذا التنظيم الجهادي أكثر مما ترى نفسها مهددة من قبل ظهور قوة كردية مستقلة في سوريا، و التي يمكن أن تتحالف مع الأكراد في تركيا وفي العراق لتشكيل كردستان كبرى، و هو السيناريو الرهيب الذي تخشاه أنقرة".
و قد كان للنجاحات العسكرية التي حققتها الميليشيات الكردية ضد داعش، التي سدت الثغرات التي تركها تعثر الجيشين العراقي و السوري، وزنا معتبرا للأكراد في هذه المنطقة. و ستجعل هذه الأحداث أنقرة أمام خيارين، إما محاربة داعش و دفع ثمن ذلك أو تدعيم الأكراد الذين يطمحون إلى دولة كردية مستقلة. والملاحظ أن الحرب التي يخوضها أردوغان ضد الأكراد على الحدود السورية تتضمن في طياتها أجندة سياسية داخلية، ترمي إلى إضعاف دور حزب الشعوب الديمقراطي داخل تركيا، و هو الحزب السياسي للأكراد الذي فاز في العديد من الاستحقاقات الانتخابية.
و بإمكان السلطة في أنقرة أن تتبنى طروحات "شركائها الجدد" (روسيا و إيران) فيما يتعلق بالأزمة السورية و إنعاش اقتصادها الذي عانى كثيرا من الاعتداءات الإرهابية، دون أن تغيرات موقفها من الحلف الأطلسي. و في هذا الصدد تشعر تركيا أن الحلف الأطلسي قد خدعها، و أن الولايات المتحدة ليست غريبة عن محاولة الانقلاب الذي قاده فتح الله غولن المنفي ببنسلفانيا، وهي "مؤامرة قد أفشلتها المخابرات الروسية" على ما يبدو. و من الواضح أن هذه التفاتة غير المتوقعة من موسكو هي التي دفعت أردوغان للذهاب إلى موسكو للحديث مع الرئيس بوتين حول تحالف جديد. و هو ما يثير عدة مخاوف في المعسكر الغربي، و على وجه الخصوص لدى الأمريكيين و الإسرائيليين الذين سيخسرون كثيرا بفعل هذه التحولات. و قد يمتد هذا التحالف الجديد إلى إيران و قد تلتحق به العراق و ربما سوريا و العدو اللدود للإسرائيليين: حزب الله اللبناني، أي، "عكس ما كانت تتوقعه الحكومة الإسرائيلية عندما أعادت العلاقات مع حكومة تركيا". و لعله من المفيد القول أن كل طرف من الأطراف المشاركة في محور أنقرة – موسكو – طهران، يدافع عن مصالحه و الإبقاء على بشار الأسد في السلطة هو هدف لروسيا و تبادلها طهران ذلك.
و هل يمكن القول أن تركيا قد تخلت عن أحلامها في أن تكون قوة إقليمية، و في تصدير نموذجها لأنصارها في العالم العربي؟ يجب التأكيد على أن نخب هذا البلد لن يتخلوا عن مشاريعهم، فالأحداث المأسوية التي تجري في هذه المنطقة هي التي تعيقهم فقط. يبقى على الأحزاب الإسلامية و على رأسها حركة الإخوان المسلمين المهللة للنموذج التركي، فقد خاب سعيها في استغلال هذا المنعطف التاريخي الذي مثلته ثورات الربيع العربي، في البلدان المشرقية كما في البلدان المغاربية. وبسبب تضافر عوامل داخلية و خارجية خاصة بتنظيماتهم و أمام خيبة أمل الشيخ يوسف القرضاوي في رؤية أردوغان سلطانا على جميع المسلمين و أمام أخفاق شعوب الربيع العربي في طموحاتهم للديمقراطية و الكرامة، يمكننا القول أن التاريخ، مثل شهاب النيزك، قد أضاء للحظات سماء العرب المظلمة، قبل أن ينطفئ.
أستاذ - باحث بجامعة وهران
التعليقات