الكاتب والراوي الشهير جابرييل ماركيز له مقولة تشبه عبارات الحكمة التي وردت في تراث الأديان. وهو قال "ستبلغ النضج عندما تدرك عيوب أبيك. وستبلغ الشيخوخة عندما تشبهه". نوارة احمد فؤاد نجم بغلت نضج الكتابة، وكتبت عن جمال عيوب ابيها الشاعر فؤاد نجم، وهي اشبهت أسلوبه، قبل ان تبلغ الشيخوخة. كتبت عن ابيها بطريقة لاذعة الابهار. كأنك تقرأ قصائد الفاجومي وانت تركض في سطور كتابها الصادر العام الماضي، بعنوان "وانت السبب يابا ... الفاجومي وأنا".
نوارة في هذه " الرواية "، التي جمعت أسلوب كل الروايات، والمسلسلات، وصنفت في قسم المذكرات، في موقع " ابجد" قالت انها سوف تفصل بين حياتها الشخصية وحياة العم نجم، لكنها لم تفصل، وفصلت. تنسى أحيانا، وتتذكر أحيانا أخرى. صارت تروح وتجي بين نوارة ونجم، وهي اعتذرت، او حاولت "بكهن" كاتبة محترفة، ان تعتذر عن ما سيرد في الكتاب من جرأتها على ابيها، ومن ضمن متاريس هذا الكهن كتبت، ( ... قال المستشار طارق البشري، رحمه الله، وبكل خلفيته المحافظة، إن احمد فؤاد نجم في مذكراته برع في تحويل كل ماهو "مشين" في عرف المجتمع، الى حدث مبهر، ضاحك، لا يشعر أكثر القارئين محافظة معه بأي غضاضة او حرج ).
لكنها في النهاية كتبت نصا ابداعيا، وهي لم تشر الى ما مر بها بعيدا من والدها، والتزمت بهذا، وجعلت غياب تفاصيل حياتها الشخصية الخاصة شيئا ينتظره القارئ، بل يتمناه، لكنه لم يجده. هذا اكد انها كما قال ابيها "بنت كلب"!
كتاب نواره عن ابيها صنعته التفاصيل الصغيرة، على الرغم انه يتناول يوميات حياة شاعر يذكرك بعذوبة الشعراء الصعاليك، وفارسهم، تأبط شرا. وان شئت، فان حياة نجم كانت صورة للحياة العامة في مصر، نلقها الكتاب بعين ابنته ومن خلاله. هنا حوار، ورد في الكتاب. وهو يعطيك لمحة عن نصه. وطريقة التعامل بين الاب وابنته منذ كانت طفلة شقية و "مدردحه". تقول نوارة، ( اخذني أبي الى الشاطئ، ولأول مرة تصلني معلومة أنه يجيد السباحة، ولما سألته كيف تعلم السباحة، أجاب بأنه تعلمها في ترعة قريته، فسألته :
امال ماجا لكش بلهارسيا زي عبدالحليم ليه ؟
فقال: جالي وخفيت منها .
فقلت: أمال عبدالحليم مات وما خفش ليه ؟
قال: عشان ربنا يبعتلي واحدة تنبر علي زيك كده يا بومه !
فقلت: أنا بأسال عن السبب العلمي .
فضحك قائلا: عايز أمسك وشك وأعصره في إيدي يا بنت الكلب! )
هذا الحواري لخص طريقة نوارة في سرد كل المواقف الكبيرة و"الصغنونه" التي مر بها نجم. في السياق عينه. سياق بسيط. وينم وعي الممارسة، والفلاسفة يقولون الوعي ممارسة. نوارة لم تتعامل مع نص، بل مع نص يكتب صاحبه، اوصاحبه يكتبه. وهي وصفت جو الكتابة عند العم نجم. وروت ان نجم اذا كتب يبخل بكل روحه الجميلة و" الفسقانة "، لحشدها في نصه. يصبح مزاجه "خرا"، يصير ظالم للمحيطين به، تصبح كل العدالة، التي عاش من اجلها، من "بخت" القصيدة التي تسيطر عليه في لحظة الكتابة. ليس لديه مانع ان يكتب في ضجيج عارم، المهم لا احد يتحدث معه، لأنه داخل عالم السيدة القصيدة. انه في حضرة القارئ، والناس.
ثورة 25 يناير صار لها الف رواية وسيناريو. غطاها الاعلام بوجهات نظر الصحف، والوكالات والقنوات، والدول التي تمولها. ساعد تعدد الروايات والتحليلات على تكريس نظرية المؤامرة في تحريك احداث هذه الثورة، وتخوين شبابها كلهم، ومن مر في ميدانها، او ايدها. لكن نوارة نجم أدرجت احداث 25 يناير في عجلة سرد تفاصيل حياتها مع نجم، وفوضويته المترعة بالجمال، وخفة الظل و استطاعت ان تنقل ما جرى بصدق شاهد عيان، فضلا عن انها تنبأت بانتهازية المسمى، وائل غنيم، من بدري " اوي"، قبل ان يختفي من المشهد. لهذا فأن من يقرأ، رواية نوارة، سيجد تفسيرا لنهاية غنيم الملتبسة على البعض. الاجمل، في قصة نوارة، موقف نجم من مجريات الثورة وجماعة "الاخوان، والحالة السياسة في مصر.
تروي نوارة في كتابها الاتي: (خرجت من الميدان على أبي مباشرة، وجدني فجأة أمامه في البيت. أنهرت. ماكنتش أتخيل ابدا انهم كده!، "تقصد الاخوان المسلمين"، وتضيف، ماكنتش اتخيل! صدموني! كنت فاكراهم حاجة تأنيه!، ابتسم بطرف شفتيه ثم قال:
انا اللي انصدمت فيكي!
في انا؟!
اه، كنت فاكرك انصح من كده، بس طلعت حمارة زي ابوك! اتصدمتي فيهم ليه؟
ما طول عمرهم كده!.
من الملامح الجميلة، في كتاب نوارة نجم، اسلوبها في تجسيد دور والدتها السيدة، صافي ناز كاظم. وجود الام يشبه موقع الفنان يوسف شعبان، في مسلسل رأفت الهجان، هو صانع المسلسل، على الرغم انه ليس البطل. مساحة دور صافي ناز في الرواية كانت محدودة، لكنها صارت ظل النص، وصانعة الحكاية. صافي استبدلت دور الام بالزوجة. وهي جعلت من زوجات نجم الاخريات شقيقات لنوره، في عينها واهتمامها. انفصلت صافي ناز عن نجم، وبقيت تحبه. ونوارة عبرت عن هذا الحب، وعلى نحو يعد سابقة في الخفر . اليس الحر تكفيه الإشارة.