إشكالية التدخل في السودان
بقلم
د. سالم الكتبي
أغرب مافي الإحتراب السوداني الذي اندلع مؤخراً أن الكثيرين يشيرون بأصابع الإتهام إلى "أطراف خارجية"، فتارة يتهم البعض دول مجلس التعاون، وتارة أخرى تتهم دولاً غربية وروسيا ممثلة بمجموعة "فاغنر"، وبين هذا وذلك يتهم آخرون إسرائيل وأطراف إقليمية أخرى بتأجيج الصراع في السودان! المبرر الذي يسوقه كل طرف لإثبات مزاعمه في ترديد جهذه الإتهامات أن هناك مصلحة لهذه القوى الإقليمية أو الدولية أو تلك في السودان، وأن طرف إقليمي أو دولي ما يساند الجيش السوداني أو قوات "الدعم السريع" من أجل هدف ما، مع إن البديهي أن تكون هناك مصالح للكثير من الأطراف في دول بعينها لأسباب تتعلق بالموقع الجغرافي أو الثروات الطبيعية أو التأثير الجيواستراتيجي أو غير ذلك.

من الناحية الرسمية الأممية، يقول فولكر بيرتس رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان أنه لا دليل على تدخل خارجي في القتال السوداني، وأن مايحدث هو صراع على السلطة بين قوى عسكرية وليس خلافاً بين عسكريين ومدنيين، والحقيقة أن الواقع الذي نراه من خلال التقارير الإعلامية وما ترصده "السوشيال ميديا" يؤكد أنه لا تدخل "مادي" على الأقل في هذا الإحتراب، بمعنى أنه لا دعم عسكري بالأسلحة والعتاد لطرف ضد آخر، وهذه هي النقطة الأهم في الموضوع لأنه لا يمكن الحديث عن غياب تام للإنحيازات الخارجية لطرف من طرفين يمثلان جزءاً من المكون العسكري في السودان. فقوات "الدعم السريع" ليست عناصر تنظيم "داعش" أو "القاعدة" على سبيل المثال، بل كان قائدها جزءاً من المشهد السياسي والعسكري السوداني طيلة السنوات السابقة، وتتعامل معه أطراف إقليمية ودولية بشكلٍ معلن، وله علاقات تشكلّت على مدى سنوات تحت سمع وبصر المؤسسات الرسمية السودانية، وبالتالي فليس من المنطق إتهام طرف ما بأنه يتواصل مع الجيش أو مع من يتهمهم الأخير بالإنقلاب عليه.

المسألة هنا لا تتعلق بدفاع أو تبرير لعلاقات خارجية مع أي من "حميدتي" أو "البرهان"، فمن البديهي أن تسعى الأطراف الإقليمية والدولية إلى تأمين مصالحها الإستراتيجية في السودان أو غيره من دول العالم، ولكن من واجب أبناء أي بلد والأطراف الفاعلة فيه تحصين هذا البلد ضد أي تدخلات تضر بمصالح شعبهم وبلدهم، ولكن الإشكالية الحقيقية تبقى دوماً في كيفية بناء التوافقات الوطنية، وبناء الشراكات الراسخة على أسس وطنية خالصة، وإقناع كافة فرقاء الداخل بالوقوف على أرضية مشتركة، ويكفي شاهداً أن جميع القوى الاقليمية والدولية قد سعت خلال الأيام الماضية بشكل مكثّف لإقناع طرفي الصراع العسكري السوداني بهدنة إنسانية مؤقتة ولفترة وجيزة جدً، وليس بإنهاء المواجهة، ومع ذلك فقد تابع الجميع كيف تنهار الهدنة بمجرد الإعلان عنها وكيف تتواصل الإتهامات المتبادلة عن تواصل القصف واطلاق النار بشكل يعكس حجم التقوقع على الذات وغياب أي مراعاة لمصالح وأمن واستقرار بل وتأمين وصول الغذاء والمياه إلى أبناء الشعب الذي يدعي الطرفين أنهما يتصارعان من أجله!

بديهياً، كيف يمكن لأي عاقل تصور بقاء طرف إقليمي مثل مصر مثلا بعيداً عما يحدث بالجارة الجنوبية في ظل هذا الكم من المشتركات الجغرافية والجيوسياسية، ناهيك عن إرتباط البلدين بشريان حياة واحد وهو نهر النيل ما يعني أن ما يحدث يمثل تهديداً لأمنها المائي والعواقب المعتادة لأي صراع أهلي كتدفق اللاجئين وغير ذلك، والكلام ذاته ينطبق بشكل أو بآخر على أطراف إقليمية أخرى، ومنها دول مجلس التعاون، التي تعاني تغول قوى إقليمية أخرى في المنطقة العربية ومنها السودان الذي كان في يوم من الأيام ساحة مستباحة لتنظيمات الإرهاب التي هددت جميع دول المنطقة ولا تزال، فضلاً عن أن بعض دول مجلس التعاون لديها إستثمارات كبيرة في السودان ومن مصلحتها الإستراتيجية السعي لحماية هذه الاستثمارات والعمل على تحقيق إستقرار هذا البلد العربي، وتفادي ألا ينضم إلى قائمة الدول العربية الفاشلة التي تعاني الفوضى والاضطرابات والعنف، في وقت يعمل فيه الجميع بكل جدية لتسوية أزمات هذه الدول وليس إضافة عضو جديد لقائمة الفوضى والاضطرابات العربية.

مايحدث في السودان لا يبقى داخل السودان فقط، رغم كبر هذا البلد وتأثيره الجيوسياسي إقليمياً، فهو ثالث أكبر بلد أفريقي مساحة، ويجاور سبع دول أغلبها يعيش ظروف استثنائية أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وحيث تتمركز تنظيمات الإرهاب وتنتشر الأسلحة والصراعات الداخلية، ما يعني أن هذه الإشكاليات تنتقل بكل ثقلها بالتبعية إلى أي نقاشات حول مايحدث في داخل السودان، لاسيما أن القارة الأفريقية بأكملها تعيش سجالات حول طبيعة أنظمة الحكم: ديكتاتورية أم ديمقراطية، على الرغم من أن لهذه المجتمعات كلها خصوصية ثقافية وعرقية وتاريخية وحضارية، لا تسمح لمتخصص موضوعي بدعوة هذه الدول لانتقال ديمقراطي من دون تهيئة لازمة وضرورية.

مايحدث في السودان هو مسؤولية داخلية بالأساس، وأخطر مافي الأزمة أنها تدور للمرة الأولى بين عسكريين وليس بين عسكريين ومدنيين، وكلاهما يعرف خبايا الآخر و تحالفاته وشبكة علاقاته الداخلية والخارجية، وحدود قدراته ومناطق تمركزه وانتشاره.