كثيرا ما أسائل نفسي متى ينزاح هذا الظلام وتختفي تلك الجهمة من أوطاننا التي ابتليت بالتخلف والجهل بينما عجلة النماء والتطور تتسارع في هذا العالم وهي تقطع أشواطا في الرقيّ والمدنية المتحضرة وتتبنّى أنظمة حكم حديثة لتُسعد شعوبها وتوصلهم الى حدود قريبة من الكمال والعدل والمساواة وترسيخ مبدأ المواطنة الحقّة .

سنوات وقرون تمرّ وأجيال تجئ وتعيش ثم تموت والشمس تشرق في بقاعنا يوميا ورغم كل هذا الإشراق والإشعاع الشمسي لكن تلك العتمة لا تريد ان تزول والأغرب ان غيوم الظلام تزداد اتساعاً ونشراً وتبقى جراثيم الجهل منتشرة وأكوام التخلّف تتراكم يوما بعد يوم وجيلا اثر جيل دون ان نرى سواعد ومعاول تزيحه وعقولا صانعة للمعجزات تردم أهرامات الجهالة المتمثلة بالعفن العقائدي الطائفي والمذهبي والعشائري وإعلان الحرب على العقلانية ومظاهر التنوير كلما بزغت في عصر ما، وإسكات كل من يدعو الى التخلص من الأنماط الرثّة المعيقة للنهوض والرقيّ والنماء والتحضّر وتقبّل الاختلاف الفكري والعقائدي.

أنكس كثيرا حين تفتقد معاهدنا وجامعاتنا ومدارسنا متعددة المراحل بدءا من التعليم الأساسي حتى الثانوي لعلمنة التعليم من اجل تصفيته وغربلته من النتوءات العقائدية التي يتعثر فيها عقل الإنسان مثلما يتعثر بطريقه وهو يمشي قدما الى الأمام حاله حال أقرانه مواطني الشعوب الناهضة والموقف العدائي والاستعلائي من العقائد والديانات سماوية كانت أم وضعية، ويزداد حزني وخيبتي عندما أرى غياب علمنة القانون وتجديده بقوانين وضعية سليمة تعاصر الالفية الثالثة التي نعيشها الان فما زلنا نعتمد التشريع السماوي وما أفرغته فينا قرائح السلف الاول بهزالهِ الكثير وسمنته القليلة ليكون منهاج حياتنا رغما عنا.

فما نريده اليوم ليس أحلاما عظيمة وآمالا كبيرة يصعب الوصول اليها، انما هذه المطالب لا تعدو ان تكون حقوقا طبيعية سبقتنا اليها الشعوب وألفتْـها منهاجا في ترتيب حياتها نحو الأحسن والأكثر صوابا.

وفي واحدة من تلك المظاهر الضارّة الراسخة فينا؛ حالة التعلّق بالدين ورموزه وحيثياته والغفلة عن العقلنة العلمية الراشدة المؤدية الى الرقي الفكري في المجتمعات التي تعاني إحباطا ونكوصا في حياتها الحاضرة واسودادا او تغييما في مستقبلها خاصة اذا انتشرت وتفاقمت مظاهر الجهل والفقر والمرض دون ان تكون يدٌ راعية تخفف من أهوال نتائجها بسبب عجز وهوان القوانين الوضعية عن معالجة الظواهر الشاذة والحاجات الانسانية التي لها مساس مباشر بالانسان وتسيّد الأحكام الشرعية الدينيّة وسطوتها على مجتمعاتنا وتغمض السياسة أعينها عن المعضلات التي ترسخ في المجتمع بحيث تنغمس في الصراعات الداخلية والمطامع المادية والاستحواذ على الثروات ولا تنظر الاّ لمكتسباتها الدنيوية دون ان تبالي بالشعب ان جاع او خاف او تقيّدت حريته.

ما الذي يفعله الانسان البسيط المسحوق المكتوي بنار الظلم والاستعباد وهو يرى أمواله واستحقاقاته تتناهبه لصوص السياسة أمام ناظريهِ ويزجّ أولاده في السجون ويرتعب من سلطة تسلّط سيفها على رقاب الإنسان ولا يأمن على حياته حتى وهو في باحة بيتهِ؟؟
الى من يلجأ المظلوم المعنّى من سفه السياسة التخريبية المظللة وهو قليل الحيلة ولا احد يلتفت إليه او يربت على كتفه مواسيا ومن يهدئ روعه اذا أحاطه الأخوة الأعداء وصار هدفا لسهام تقصده من الأمام ومن الخلف وتنوشه حجارة المنجنيق يمنة ويسرة وفقد رعاية الارض وأهلها وركنوه خارج الصف مهمّشا منسياً فلا عمل يشغله ويستثمره وعاش عاطلا عن العمل والأمل فلم يجد الاّ السماء ملاذا وحنوّا لعلها تطيّب خاطره يدعوها متوسلا ان تنقذه وتخلصه من المآزق المتراكمة عليه ويصلّي متضرعا ان يزيل الخالق أعباءه.

هنا يأتي الدور الآخر وهو دور رجال الدين غير العقلاء الذين يستغلون حالة الضعف والهوان فيأتون على آخر ما تبقّى له من ثمالة حياة وأنفاس أخيرة ليخنقوها ويكملوا مابدأه سياسيو العهر والسفالة والنهب.

مسكين هذا الإنسان العائش في مجتمعات الجهل والظلمة وفقدان الموازين العادلة تراه محشورا بين فكّي كماشة السياسة العاهرة التي فرمت لحمه وذوّبت شحمه وأهاظت عظمه والدين المضلّل بالحلول الغائبة والآمال الكاذبة والوعود العرقوبية، ليس هذا فحسب بل يقوم أتباع الدين برفع منسوب الخوف والهلع لهذه الضحية المبتلاة والتهديد بالنار والعقاب الأخروي ليعيش ويدخل دورة رعب مفزع وهو حيّ وان الله سيحرقه في جهنم خالدا فيها ويشوى جسده مرات ومرات ان لم يذعن لما يقوله الله ورسوله وأولياؤه الصالحون وان عليه ان يكظم غيطه اذا ظُلم واستلب ماله وان يدفع بأمواله للزكاة والخمس والصدقات ويجاهد بالنفس وما عنده من مدخرات ويقدم روحه فداءً لعقيدته لمحاربة الكفار ممن ليسوا على دينه وان مات فانه سيحيا خالدا ويعدّ من الشهداء الأحياء في الملكوت الأعلى ويعيش هناك حيّا يرزق عند ربّ مقتدر يهب له الحور العين بما يشاء في فراشه الوثير المصنوع من السندس والإستبرق مسترخيا على الأرائك وتجري أمامه أنهارُ العسل والخمر يعبّ منها مايشاء دون ان يحرّك ساكنا ؛ فالولدان المخلّدون طوع أمره في كلّ ما تشتهي نفسه من أطباق الفاكهة التي لاتحصى والكؤوس المسْكرة ذات المزاج الكافوري العاطر.

ومع ان النزعة الدينية والاتجاه الى السماء نراها في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة معا ولكنها ليست على السواء، فاليقظة الدينية او لنقل السكرة تتفاقم كثيرا أينما وجد الجهل وحيثما ترعرع الإجحاف والتمايز والحيف والظلم والمعاناة الحياتية بكل اشكالها وهذه كلها من نتائج وخزعبلات السياسة السقيمة / الحاكم المستبد وأنظمة الحكم الواحد والتمايز الطبقي والديني والعرقي والتي من مسبباتها ظهور الكراهية التي ستؤدي حتما الى بروز النزاعات والمهاترات وتأجيج العواطف لدى الشعوب المغفلة الجاهلة وقد تؤدي الى نشوب الحروب الأهلية مثلما حدث في لبنان والعراق قبلا وفي قسم من قارة افريقيا ونال العراق نصيبا وافرا منها خاصة بعد الاحتلال الاميركي وما زالت آثارها واضحة جلية اضافة لما تخلّفه هذه الحروب المستمرة الان في شرق أوسطنا بسبب السياسة الرعناء وسفاسف الدين غير القويم من خلال أدعيائه حتى كأننا وقعنا في قبضتي ساسة لا ضمير ولا دين لهم، ورجال دين لا عقل لهم كما قال قبلا جدّنا فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة ابو العلاء المعرّي.

يضاف الى ذلك الاحزاب الماسكة للسلطة التي لم تستطع تحقيق طموحات وتطلعات شعوبها، وأيديها وعقولها عاجزة عن ان تجد حلولا واقعية للازمات التي تحيق بهذا الانسان فنراه يلجأ الى يوتوبيا الدين طالما لم يلق في واقعه ما يشفي غليله ويخفف من أعباء أزماته ومشاكله فيرتدّ الى الوراء، الى ماضيه بعد ان يئس من ترميم حاضره وغامت بصيرته وبصره عن رؤية ملامح مستقبله.
تلك هي بوصلة العقل حينما يعوجّ مؤشرها وتغفل عن تأشير الهدف السامي لها، عندئذٍ يشعر الانسان بالخذلان من ساسته الذين خرّبوا حاضره وعتموا مستقبله فيلقفه الدين غير القويم ليجهز على ماتبقّى له من فتات عقلٍ وبقية إرادة وطموح فيطيح به في الضربة الاخيرة القاتلة القاضية.

هو ذا موت العقل وسكونه التام عندما يبحث الانسان عن منقذ فلا يجده فيعود من جديد الى خرافة المسيح العائد (عند الديانة المسيحية) والمهدي المنتظر (لدى الديانة الاسلامية) وشخصية كريشنا المخلّص (عند الهندوس) وعودة بوذا (عند البوذيين) في تيهٍ هائل للارتداد الى الصنمية والوثنية الاولى عندما كان العربيّ في عصر الجاهلية يقدّم النذور والهدايا والأنصاب ويضعها تحت أرجلها انتظاراً لفرجٍ غائب لا يأتي ابدا الاّ في أذهان الواهمين والمنهكين والسارحين في الأخيلة المريضة.