من الثابت أن هناك فارق شاسع بين إدارة "تنظيم" وإدارة "دولة"، وكذلك بين خطط التنظيمات وسياساتها وخطط الدول وسياساتها، وهناك اختلاف كبير بين تنظيم لا يخضع أي قواعد وقوانين أو مواثيق أو أعراف دولية، وبين دولة يفترض أنها تلتزم بكل ماسبق، باعتبار أن هذا الالتزام هو مكون أساسي من مكونات الاعتراف الدولي بها كعضو فاعل في إطار منظومة العمل الدولي المشترك، بكل ما يضم من مؤسسات ومنظمات دولية بغض النظر عن فاعليتها أو تكوينها وفلسفة عملها وانحيازاتها وغير ذلك من أمور وقضايا تثير الجدل بين المتخصصين والمراقبين في دول العالم كافة.
في مناقشة المسألة الغزاوية، ينظر الكثيرون داخل عالمنا العربي والإسلامي إلى طرفي الصراع حركة "حماس" و دولة إسرائيل كطرفين غير متساويين، في القوة العسكرية وكذلك في الالتزام الأخلاقي والمعنوي، وهما كذلك بالفعل وعلى أرض الواقع، لذلك فإن مثل هذه القضايا الشائكة من الأمور التي ينبغي أن نناقشها بموضوعية كي لا يقع بعضنا في شرك العواطف الذي ينصب بمجرد وقوع أول ضحية في أي جولة صراعية بين الطرفين.
حركة "حماس" المتغطرسة والارهابية سقطت مرات عدة وأسقطت معها تعاطف الكثير من الشعوب حول العالم مع قضية الشعب الفلسطيني سواء بسبب المجزرة الدموية التي قامت بها و القيام بخطف رهائن مدنيين، أعقبه التهديد "الداعشي" المستهجن بالمرة بقتل رهائن في حال استمرار هجمات الجيش الإسرائيلي والذي تم استفزازه ودفع الثمن الأبرياء في غزة، وهنا نتحدث عن هذا السقوط الاخلاقي المروع لحركة حماس المتطرفة والارهابية في تعمد واضح أكده خالد مشعل عبر لقاء على قناة العربية حيث اكد انهم درسوا كافة السيناريوهات وعليه فلابد انهم كانوا يدركون عدد الضحايا الضخم من الفلسطينيين الذين سيكونون كباش المحرفة التي اشعلتها حماس لأجل أهدافها، وما قامت به اذا حماس هي أمور تميز "التنظيم" عن "الدولة"، وهنا نجد قضية عادلة تماماً قد وقعت فريسة لاجل مصالح تنظيم إرهابي يعمل بالنيابة عن دولة اقليمية وهو مدرك وعلى فهم ووعي بأبعاد الأفعال والأقوال التي يقوم بها!
نعود إلى مسألة "التنظيم" و"الدولة"، فالتنظيمات لا تحاسب من قبل من تزعم الدفاع عنهم، ولكن الدول تخضع لمثل هذه الأمور، ولعلنا نقرأ كثيراً هذه الأيام عن محاسبات ومحاكمات ستجرى في إسرائيل ليس فقط للفشل في توقع الهجوم "الحمساوي" والمجزرة الدموية التي حصلت ولكن في الأسباب التي أدت إليه وقادت شعب إسرائيل لواحدة من أخطر الظروف التي مر بها، وقد نقرأ فيما بعد تحقيقات حول الممارسات والأخطاء العسكرية التي ارتكبت، وهي للتبصر والتعلم للأجيال القادمة وهي كذلك من باب الدفاع عن سمعة الجيش الإسرائيلي وصورته أمام العالم، ولكن نحن في النهاية نحن أمام منظومة دولة تدار بطريقة تحافظ على مؤسسية معينة تدار بها الدول بشكل عام.
أما "التنظيم" مثل حركة "حماس" فليس هناك من كبح أو رادع لتصرفات أعضائه وعناصره، ويتحول الأمر على أرض الواقع للتصرف بحسب الظروف والتفكير الفردي بعيداً عن أي قواعد والتزامات تحكم سلوك الجيوش في العمليات العسكرية، ورغم أننا نرى ونسمع كثيراً عن خروقات يتورط فيها الجيش الإسرائيلي وغيره من الجيوش في المعارك والحروب، فإن الأمر في كثير من الأحيان لا يمر مرور الكرام بل تكون هناك عواقب نتيجة ذلك، ولكن هذا الامر لا يحدث في الجرائم والانتهاكات الانسانية التي ترتكبها التنظيمات والجماعات المطرفة بغض النظر عن مشروعية القضايا التي تزعم الدفاع عنها وتتحرك تحت لوائها.
الواقع الفعلي يقول إن الجيوش يمكن أن تحيد عن سياق القواعد الأخلاقية في بعض الحالات مثل التعرض لإهانة عسكرية عميقة مثلما حدث بالنسبة للهجوم الذي شنته "حماس" ضد بعض معسكرات أو قواعد الجيش الإسرائيلي، وعلينا أن نتذكر كيف هاجم الجيش الأمريكي بشراسة شديدة حركة "طالبان" الأفغانية كرد فعل للاعتداءات الارهابية في 11 سبتمبر 2001 والتي استلزمت رداً سريعاً لاستعادة ثقة الشعب الأمريكي في جيشه الذي يعد الأضخم والأكبر عالمياً في مواجهة تنظيم إرهابي هو بالأخير لا يعدو أن يكون تنظيماً يمكن إبادته.
"المقاومة"حق مشروع للشعوب المضطهدة وهي حق يكفله القانون والتشريعات الدولية، ولكن عندما تتحول المقاومة إلى فعل عسكري اجرامي خارج سياق القانون الانساني الدولي ويدفع ثمنه المدنيين فحين ذلك يتحول الأمر إلى معضلة، وتختلط الأوراق بين الجاني والمجني عليه، والمتهم والضحية، وتصبح الحرب سجال لافرق فيها بين طرف أو آخر، فكلاهما لديه حسابات خاصة، ولكن ليس له أن يطالب الجميع بالانحياز له إن فارق العقل والمنطق والقانون والأعراف، فالقضايا العادلة لا يمكن الدفاع عنها بارتكاب جرائم أو الاعتداء على مدنيين.
القضية الفلسطينية ليست قضية حصرية لتنظيمات متطرفة تعتبر مثل ـ "حماس" أو "الجهاد" أو "حزب الله"، وليست كذلك قضية حصرية لدول يعرف الجميع قدر توظيفها للمشروع في سبيل تحقيق اللامشروع، وهي قبل هؤلاء وبعدهم قضية الملايين من الفلسطينيين في داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، وبجانبهم وبموازاتهم هي قضية دول وشعوب عربية لا تزال تعتبر استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في صدارة أولويات سياستها الخارجية، وبالتالي ليس لأحد الخلط بين الأمور، أو مطالبة دول وحكومات بالمضي وراء قرار "تنظيم" يريد ادخال المنطقة والدول العربية في حرب إقليمية تأكل الأخضر واليابس، فللدول حساباتها المعقدة في صنع القرار وبناء المواقف، أما التنظيمات فقراراتها تؤخذ في الخفاء من دون حسابات أو وعي بالأبعاد والتداعيات، وربما تؤخذ حتى في الخارج كما في حالة وكلاء ايران في المنطقة وتأتي إلى قادة هذه التنظيمات جاهزة للتنفيذ!
- آخر تحديث :
التعليقات