أُفُول حركات اليسار العربي مطلع ثمانينيَّات القرن الماضي واِنْطفاءُ خطابات الثورية والتحرر الوطني كرس انعدام قدرتها على تقديم البديل في تحقيق الحرية ومبادئ العدالة الاجتماعية، فانتكست أحزاب اليسار والشيوعية بعد تجارب فاشلة خاضتها بمشاريع الجبهات الوطنية في الحكم كما في العراق وسوريا، وأصيبت قاعدة الثورة الفلسطينية في لبنان بالتهشم الداخلي بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي عام 1982 لأهم معاقل الإعداد الثوري وأفكار التحرر القومي واليساري، ثم جاء الاجتياح العراقي للكويت في آب (أغسطس) 1990 فأحدث انهياراً لجميع المعادلات والثوابت السياسية النمطية السائدة في النظام العربي، وانعكس بسلبية قاتمة على جميع المبادئ التي اشتغلت لأربعين سنة من أفكار التحرر والعروبة ووحدة الموقف للأنظمة العربية.

توقف كل شيء ووقعت الشعوب العربية في الفراغ المعنوي الذي تجسد بحرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت وسقوط دولة العراق التي كانت تعد واحدة من أكثر الدول العربية تقدماً في الأنشطة الفكرية وسؤال الحرية وأفكار الوحدة العربية وغيرها من شعارات سقطت تحت أقدام غرائزية التوحش السلطوي وصورة البطل القومي الذي وجد نفسه وحيداً بلا حول ولا قوة أثر قطيعة عربية وحصار دولي شديد وبغيض أيضاً.

انفتحت الآفاق في المنطقة العربية لخطاب فكري مغاير، فكان خطاب الإسلام السياسي مدعوماً بتنامي تيار السلفية والأخوان المسلمين في مصر والجزائر ونجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة روح الله الخميني؛ ثنائية فكرية ممنهجة ومبتهجة بنجاحاتها وقبول قطاعات واسعة من الجماهير الباحثة عن بديل منتصر، فاحتشد السّنة خلف الأخوان المسلمين والسلفية والسلفية الجهادية بتنويعات مراجعها، وتنادت جماهير الشيعة التي كانت تشعر بـ"مظلومية" تاريخية خلف نداءات الخميني ومشروع تصدير الثورة وتحرير القدس، وفكرة البديل الإسلامي و"الإسلام هو الحل" حظيت بمقبولية واسعة لدى الجماهير بعدما أصابتها الأفكار اليسارية والقومية بخيبة كبيرة، ذلك الانتشار كانت تغذيه مصادر دعم مالية وإعلامية داخلية وخارجية هائلة جداً.

تلك الظاهرة كانت تشكل مكسباً نوعياً للأفكار الغربية التي وجدت في الخطاب الفكري "الإسلاموي" الغيبي الرجعي تكريساً لتفوق الخطاب الحضاري العلماني لدول الغرب، كما اشتغلت إسرائيل بأعلى طاقة لها على دعم غير مباشر لما يحدث من تحولات في داخل النظام العربي من حروب دينية بينية وصراعات عقائدية دموية قضت على فكرة "العدو الصهيوني"، وحل بدلاً عنها العدو الديني والطائفي، وتراجعت إلى حافة النسيان قضية تحرير فلسطين بكونها القضية المركزية للعرب؛ تحول صريح نحو التشرذم وانشغال كل بلد عربي بقضاياه الوطنية ومشاكله المذهبية والطائفية والاقتصادية.

موج عالي من خطابات وطروحات الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسّني الذي ينطلق من أفكار متماثلة ومتطابقة في مشروع السيطرة على السلطة والحكم، ويختلف في توجهات الطوائف الشعبوية التي تتصارع في جوف الماضي الإسلاموي، صراعات تغذي ديمومة السلطة لقادة الإسلام السياسي في الجناحين، وهكذا أطبق الفكر الرجعي الماضوي الذي دفعت سيطرته على دول كانت فاعلة ثقافياً وإبداعياً بالآفاق العربية والعالمية، وانتهت إلى مجتمعات تسود فيها علاقات وسلوكيات ما قبل عصر الدولة.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

لا شك في أنَّ إيران كانت القطب الأوسع الذي يعمل على نحو منظم واستراتيجي في تنفيذ مخططات الهيمنة الفكرية والسياسية في المحيط العربي، ساعدها في ذلك أنها وجدت النواة الوطنية والقومية لتلك المجتمعات غير صلبة، بل نواة مائعة ومستعدة للانعطاف مع أية قوة مقبلة، فاستثمرت إيران في القطاعات الجماهيرية الشيعية الفقيرة ثقافياً واقتصادياً، كما في لبنان واليمن وسوريا، كذلك وجدت في الساحة الشيعية العراقية، بعد سقوط نظام صدام حسين، ترحيباً دافقاً بالعاطفة العقائدية التي وجدت لها متنفساً بفضاء مفتوح الآفاق وبحراسة سلطة تؤلف الأحزاب الشيعية فيها أهم مراكز الحكم والنفوذ التي تسلمتها من قوات الاحتلال الأميركي، فكانت الفرصة التاريخية سانحة للأجندة الإيرانية في استثمار هذه البيئة المتفاعلة إيجابياً، بعد زمن طويل من الاختناق الثقافي الشيعي والممنوع والاغتيالات التي تطال رموز وشخصيات شيعية أخذت أصداءً دولية.

عملت إيران على إيقاظ الفكر الشيعي النائم وتكريسه لخدمة مشاريعها التوسعية وتمددها في المحيط العربي الأضعف من بقية الدول المحيطة بها، وقامت بفتح مدارسها وجامعاتها للطلاب الشيعة، ودعمت الحركات الشيعية الميليشياوية المتمردة وشجعت على قيام أخرى ترتبط بها مباشرة بكونها مرجعيتها العقائدية والسياسية، وقد دعمت تلك التوجهات بملايين الدولارات والتجهيزات المدنية والعسكرية والتسليحية وغيرها تحت عنوان حرية الشيعة وحق المذهب في الحكم وأهمية أن يكون إسلامياً، كما حدث مع حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. كذلك ضمدت انكسار النظام السوري وأنقذته من السقوط جراء الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 وما زالت قائمة في مناطق وتكوينات سياسية وعسكرية متعددة داخل سوريا.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

إيران تدعم الحركات الشيعية التابعة لها وأيضاً يتسع أفقها السياسي لدعم حركات إسلامية سنية مثل حماس والجهاد وأخرى في دول آسيا وأفريقيا، لكنها تدعم بهدف تأكيد وجودها كلاعب سياسي في تلك الدول أو جعل الجهات التابعة لها تسيطر على السلطة، أو أجزاء منها لتشكل بذلك الدولة الموازية وفصائل مسلحة تشكل بنية الجيش العقائدي الذي يرتبط بها، وبذلك تقوم بتفكيك المجتمعات عملياً وتخلق صراعات داخلية دائمة وقمع لكل من يناهض فكرة ولاية الفقيه أو الحضور الإيراني المؤثر.

بعد تفكيك المجتمعات وإجهاض قدرتها على الموقف الوطني الموحد، فإنَّ المكسب الاستراتيجي المهم لدى إيران هو جعل تلك الأذرع العسكرية التابعة لها تقوم بمهام عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولعل أهمها العمل العسكري بالإنابة عنها في أية مواجهة عسكرية مع أميركا أو إسرائيل أو الدول العربية وغيرها، بينما إيران غير ظاهرة في الصورة، وهو ما يحدث اليوم من قصف الحوثيين للسفن التجارية في البحر الأحمر والقصف المتبادل بين حزب الله وإسرائيل، ونشاط الفصائل العراقية ضد التواجد الأميركي في القواعد العراقية أو في سوريا، لكن في المحصلة، فإنَّ الدمار والعقوبات تتحمل أعباءها الدول العربية التي تسيطر إيران على قرارها السياسي، أي جعل هذه الدول ضحية الوهم الطائفي المقدس وشعوبها تدفع ثمن الموت والدماء والفقر والخراب من أجل تحقيق المصالح الإيرانية.