كان في جوارنا زوج من يمام يأويان إلى شجرة قريبة، قد صنعا فيها عشاً لهما، وكان يلذ لي أن أرقبهما حالاً بعد حال، إن هما وقعا يلتقطان الحب، أو إن ذهبا يلتمسان العيدان وخيوط القش لينسجا عشهما، أو في حال غناء الإلف لإلفه يريد قربه، فكانت تجتمع لليمام خصال كلها حسن: الوداعة، والوسامة، ورقة الغناء، ثم كانت أحزم خصاله هي شدة الحذر، فهو لا يزال طول الوقت محاذراً من كل شيء يدب، ومن كل صوت خفي، فمنقاره في الأرض يلتقط الحب، وبصره في السماء يلتقط ما يسعى من حوله أو ما يطير من فوقه، وجناحه يخفق متأهباً للفرار، فهذا كان عهدي بطيري الحبيب اليمام.

ثم إنه كانت تعرض لي من الأمور والحاجات ما يحملنى أن آتي القاهرة، فكنت في غدوتي ورواحي أغشى "محطة رمسيس"، وهي لمن لم ينزل مصر، ولم يعرف القاهرة، محطة قطارات في ميدان رمسيس في قلب القاهرة، هي مجمع السكك بين الوجهين البحري والقبلي، فكان لا يهبط من الجنوب إلى الشمال مسافر إلا اجتاز بها، ولا يصعد من الشمال إلى الجنوب راكب إلا مرَّ بها، ولا كانت لأحد من أهل الأقاليم حاجة في القاهرة إلا نزلها ثم انطلق منها يلتمس ركوبة أخرى تبلغه مقصده، وإني لأزعم أنَّ "ميدان رمسيس" ومحطته هو من أزحم الميادين بشراً ومركبات وضوضاء لا أقول في مصر، بل فى سائر بلاد العرب، وأفريقيا!

فكنت في خروجي أو دخولي إليها أو انتظاري بها تتلبسني "عواجيز الفرح"، أولئك العجائز من النسوة اللاتي يقعدن من الأفراح مقعد الهماز اللماز ينلن من الداخل والخارج، والقائم والقاعد، والصامت والناطق، والشاهد والغائب، فكنت كمثلهن إذا كنت في "محطة رمسيس"، لا أكاد أدع صغيرة ولا كبيرة من قطار أو راكب أو بائع إلا راقبتها، وحفظتها، وحاورت نفسي فيها! غير أن أعجب ما رأيت هنالك كان طير اليمام في تلك المحطة وحولها، فإنَّ اليمام الذي ذكرت لك صفته آنفاً من الوداعة في نفسه، وشدة الحذر إن همَّ أحد بالاقتراب منه - هو في "محطة رمسيس" أوقح الطير خُلُقاً، وأجرؤها طبعاً، فتراه يقع بين هؤلاء وهؤلاء غير مبالٍ بفجأة قطار، ولا غدر إنسان، بل إن كان ليقع بين القضيبين فلا يغادرهما إلا إذا أقبل عليه القطار فكان بينها وبينه أقل من المتر الواحد فحينئذ يطير، ثم لا يلبث أن يقع بين القضيبين ثانية إذا غادرهما القطار مستأنفاً ما انقطع من سعيه، وإن شئت فقل ما انقطع من وقاحته! بل قد رأيت بعضهن وقد نزلت تشرب من زيوت سوداء بين القضبان كأنما تشرب الماء الزلال! فكان هذا أعجب العجب!

لكن ذهب عجبي حين ذكرت أنهن فى مدينة كبرى مليونية، وإن من أثر هذه المدن المليونية أنها تغير فطرة ساكنها، وتبدل خصاله، فهذا الريفي ذو النجدة إن سكنها تراه يمر بالملهوف المستصرخ فلا يصرخه ولا يغيثه، ويغض عنه طرفاً، ويصم عنه سمعاً، ويقول في نفسه: لعل وراء هذا المستغيث ما يوردني المهالك.

وهذا البدوي الجواد الذي لا تنطفئ ناره ولا تنقطع أضيافه، تجده في المدينة المليونية منشغلاً بعيشه، منقطعاً عن الخلق، متعجلاً يُطارد الحافلات والقطارات، ولا يكاد يفرغ لنفسه فيضيفها بكوب شاي أو فنجان قهوة.

وهذا أخو الحفاظ والمرؤة والحشمة، ينزل المدينة المليونية فتجده وقد صار ماجناً رقيع الأثواب والأخلاق والمنطق، ولم يكن هذا من خلق قومه، ولا طينة أرضه، ولكن بدَّل الديار فبدَّلته الديار.

وهذه المرأة هي في قومها أنثى حسنة الدَّلّ، رقيقة الطبع، لبقة الشمائل، فإن هي سكنت المدن المليونية تلك انخفضت أنوثتها وعلت الذكورة، وتبدلت رقتها غلظة، وتحولت دماثتها شراسة، وارتفع صياحها، وعلا صخبها.

فأي شيء بدّل يمامة القوم؟!

لقد دارت بهم المدينة الكبرى دورتها فأخرجتهم مسوخاً لا صبغة تطبعهم، ولا سيماء تميزهم، فاللون جنوبي، واللسان شمالي، والفعل أعجمي!