عندما عدتُ بقوَّة للكتابة الصحفية بعد عام (2003)، لم أعُد لها من باب الشهرة أو إثبات الوجود؛ وإنما هو رد فعلٍ طبيعي للتعبير عن وقوفي مع بلدي (العراق)، وإيماني بأهمية فضح المحتل؛ الذي عبث بالأرض والعرض والقيم، وأشعل نيران فتنة الدم بين أبناء الوطن الواحد.
أتذكَّر دخولي للعراق بعد أشهُرٍ من الاحتلال عن طريق (طربيل)، وغيابي عنه لمدة خمسة عشر عامًا، لقد كان ذلك وضعًا مأساويًّا، ومرعبًا في نفس الوقت؛ حيث كان منفذ طربيل خاويًا من الموظفين، إلا من جندي أميركي يمضغ العلكة ببرود، ولا يُبالي بما يحدث، ولا يسألك عن جوازك وجنسيتك. وكأنني اكتشفت فكرة بداية المؤامرة؛ المتمثلة في: تعليق الحياة من العراق، وبرمجة الفوضى، ومسح ذاكرة العراقي بل وتصفيره!
كنت أبكي مثل طفل فقَدَ والديه فجأة، وأنا أرى الدبابات والدروع والسيارات العراقية وقد حوَّلها المحتل إلى أكوام من الخردة، ملقاة على قارعة الطريق، والمنظر هنا وهناك يدعو إلى الذهول؛ لكن ذلك لم يكن يشغلني بقدر ما انتابني شعور من الحزن واليأس لما يحدث في المستقبل من خراب نفسي يزلزل الناس زلزالًا، ويحدث شرخًا كبيراً في الشخصية العراقية، وتجعلها تعيش أوهام الحرية والرفاهية؛ حيث خرابُ القيَم والهوية والجمال.
عُدتُ للكتابة الصحفية بضمير الوطن، من منطق حب العراق المجرد، من الفرد أو الحزب أو الأيديولوجية أو الطائفة أو القبيلة، ومن أجل كتابة الحقيقة، وأنا أعلم بأن رضا الناس جميعِهم مُحال، وسأخسر إذا ما مضيت في الكتابة التي قد لا تُناسب أفكار بعضهم، من أولئك الذين أجَّروا عقولهم للآخرين بانتهازية مزدوجة المعايير والمصالح.
كمْ كنتُ حزيناً بالتعليقات المنشورة، وبعضها كان سريًّا (على الخاص)؛ فبعض المؤدلجين المرضى يغضب لأنني كتبت عبارة (قصيرة)، وأحيانًا كلمة (واحدة)، لا تتطابق مع فكرته الحزبية، أو نقداً لتجارب سياسية سابقة، فهي محرمات لا ينبغي أن تُكتَب وتُنشَر عَلنًا كما يعتقدون. وفي نفس المقالة يراني الآخر عدواً؛ لأن المقالة تنتقد السلطة الحالية وأحزابها. هي عين عوراء أو حولاء لرؤية الواقع، وتزويرٌ صارخ للحقائق، وتعصبٌ أعمى، بحيث لم يعد الشخص يرى شيئًا إلا من خلال زاويته الضيقة.
إن تلك الرؤية العوراء والحولاء قادت مَنْ رأَوْها وتبنَوْها إلى اختيار الطريق الخطأ الذي يُفضي إلى تقديراتٍ خاطئة وخياراتٍ ساذجة، وتعفي صاحبها من المراجعة والتصحيح؛ فالعين العوراء، بتعصبها السياسي والطائفي مُغرمة دائمًا برؤية العدو (الوحيد)، والقضية (الوحيدة)، والقائد (الأوحد)، والحزب (الواحد)، والطائفة (الأكبر).
فلا أسهل من اكتشاف التعليقات والآراء التي تَكيل الأفكارَ بألف مكيال؛ لتنتج الكوارث، وتختزل المواقف بأحكام ضالّة ومضلّلة. فإذا رأى نقطة إيجابية نأى بجانبه، وإذا سمع بسيئة التقطها وسارع إلى نشرها. هو نفاق يصيب القلوب ويورث الذل.
إقرأ أيضاً: الحنين إلى خرافة الجن والعفاريت
ولئن كان التقلب والمزاجية والتعصب هو دأب البعض من القراء، فقد كنت أعرف جيدًا شخصية العراقي؛ سريع الأحكام، نرجسيًّا لا يُعجبه العجَب، صعبَ المراس، مزدوج السلوك؛ لذلك كنت حذرًا للغاية في صياغة المعاني والأفكار. وبالرغم من ذلك، لم أسلمْ من النقد أو التخوين؛ أمزجة متقلبة، وثورات غضب سريعة، وتحوُّلات أسرع من الصوت ما بين الفكرة والفكرة المضادة، وعنادٌ قَبَلي محكوم بالثأر والانتقام، وحدَّة الطباع في الجدل أو التحدي!
وكما نعرف جميعًا، فالناس لهم طبائع مختلفة، وأمزجة متقلبة ومتنافرة، فائضة وناقصة، قوية وضعيفة. كما الأخلاق يعسر عدّها، ويصعب حصرها. واسترضاؤهم متعبٌ ومُجهدٌ؛ بل يكاد يكون محالاً للجميع. فإن أرضينا بعض الناس أسخطنا آخرين، وإن وافقنا بعضهم اختلف معنا بعضٌ آخر.
والناس بين حامد وجامد مُنذ خُلقت الدنيا، متوالية لا تنتهي؛ ورضا الناس غايةٌ لا تُدرك. يتقلبون بتقلُّب الظروف والمؤثرات والمصالح. والناس لم ترضَ عن الأنبياء الذين بُعثوا لهدايتهم، وإرشادهم لسبل الخير، ولإسعادهم؛ فحاربوهم ونبذوهم، وأجهزوا على بعضهم بالقتل.
إقرأ أيضاً: تفاهات الرَّقمنة
لن أستجدي القراء بمنحي الإعجاب أو التعليق؛ فلم أطلب من أحدٍ أن يعلق على المنشور، أو أن يكتب مدحًا زائفًا، أو أن تتطابق أفكاره مع أفكاري؛ فأنا أكتب للتاريخ وللإنسان الحر، بغض النظر عن عِرقه ولونِه وقوميتِه.
ما أصعب أن يقول لك أحد القراء تعليقًا يختصر اليأس في النفوس: "لا حياةَ لمن تنادي"، فهي قصة مزعجة تتوالى بالأرقام والنيات، تجعلك تعيش جحيم التحديات، وتأنيب الضمير، ونشوة الموقف. فبعضهم يراك خارج نطاق الواقع؛ لأنك تكتب بلا صدى، أشبه بعبث لا يستحق معه تدمير نفسك، وضياع وقتك، وارتفاع ضغطك، وتصلُّب شرايينك؛ قلقًا وسهدًا ومرضًا وعذاباً.
متناقضات غريبة؛ ما جدوى أن تبحث بكلماتك عن قارئ لا يبحث إلا عن رغيف الخبز، أو أن تهمس بمعانيك لسابح في ملكوت (التحشيش) أو (الغيبيات)، أو لمَن يلهو بتفاهات وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث ستجد الكثير منهم خارج تغطية الزمن! بل ما جدوى أن تنشر مقالاتك وسط مستنقع الفساد والانتهازية والقتل والخطف وضجيج الكوارث، وموت ضمير السياسي الذي يقرأ مقالتك، ثم ما يلبث أن يغرق بالضحك والتندُّر على ما تكتب، وخزائنه مملوءة بمليارات الدولارات؟
إقرأ أيضاً: كن فيلسوفًا في الحياة
إنه لغزٌ كبير، أن تتدرج في حل معادلات رياضية بمعطيات وبراهين ثابتة؛ لكنك تفشل في الوصول إلى النتيجة الصحيحة في بلد صعب يطفو على بحرٍ من الغرائب والعجائب، ويصحو وينام على النفاق الفج، والفساد الشرس، وتناقضات السلوك الاجتماعي المريض؛ ثم ينقلب رأسًا على عقب، فيسير بالمقلوب عكس الاتجاه!
بالمختصر، ما زالت علاقتي قوية مع القراء الأذكياء؛ الذين يُجيدون قراءة ما بين السطور، تلك العلاقة القائمة على التنوير، واحترام الرأي والرأي الآخر. ما زلت مؤمناً بحرية التعليق والمشاركة، وان الاختلاف لا يعني الخلاف، ولا يفسد للود قضية، والشافعي يقول: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". لكنني مؤمن بالحكمة التي تقول: إذا لم تستطِع قولَ الحق فلا تصفِّق للباطل.
التعليقات