وتتساقط أوراق الخريف... تتطاير تراقص النسائم والأعاصير...
تلين وترقُّ وتتخلّى...مع أنَّ جذورها لا تزال بالأرض متشبّثة، متعلّقة، متأصّلة!

كم ننظر إلى الأوراق المتطايرة وقد داعب أوتارَها الاِستغراقُ وولَّد أجمل النغم... فنقفُ، ونتوقَّفُ، ونُؤخذ بالصورة والعبير، ونترك الدفء يتسرّبُ إلى القلب والبصر رغم الصقيع.... ثمَّ ببساطة نمشي... وكأنَّ ما وقع من جمال لم يستقطب منّا الحواسَ إلاَّ للحظة!

وتتابع الأوراق، وتتطاير تصنع غيمة، تصنع نفقًا، تصنع وردًا، تصنع نهرًا، تصنع شمسًا... وَتَتالى الوقفات وأنت تصبو لأنْ تُسحب نحو العُلا؛ فتنزع الأغلال، والأثقال، وتُفرد الجناح والجناح، وتسدل الأجفان وتفتح منازل الإلهام، وتحلّق في سفين لا يُصنع إلاَّ من خيالٍ، ونفير، وطيب ذكرى...

وتمرُّ لحظة... تدرك فيها أنَّ العُمرَ سراب، وأنَّ الفراق عزفُ ناي وحفلةٌ صوتها شوقٌ ورقصها قُبلة، وأنَّ الجَذر بقاءٌ الطارئُ فيه فناءٌ وبِدعة!

وتأخذك اللحظة، وتسوقك النغمة، وقُبيلَ أنْ تعود الأرضَ تعرف أنَّ اللا تعلُّقَ نبْذُ إسَارٍ، وخِفَّة!

وتبقى ورقة!!!

وتبقى ورقةٌ تقارعُ الريح والنسيم، تعلو وتهبط في رقة، تناور وتراوغ، وتسلبُ منك كلَّ تفكير إلاَّ تلك اللحظة...عندما تساقطت أوراقك، وابتعدت، وتباعدت، وتناثرت، وقد حلَّقت في الفضاء من دون رجعة...

ومن فناء الدفء والحرية واللا إسار، يعودك الرخام وقد جرَّدتْكَ الرحمة؛ وتحت إزميل النحّات تتشكّل ذكرى!

عمود يقفُ شامخًا ينتظر من الحق لفتة، ويدًا تعلو به ورِفعة! عمود يغلّف النبض خلفَ أسوار عنيدة، وينفي الشعور عمق آفاق سحيقة، ويسقي الآمالَ شوق أفكار سعيدة!

عمودٌ رخام يميد تحت الشمس بانتظار القواطع، بانتظار جلاء الغيم ليكون النور الساطع!... وفجأة... تشدو عصافيرٌ، وتسِمُ له الجبين بقبلة، ويتواضعُ المكفهرُّ نقطة نقطة ليحيلَ جذر الرخام فيه نبتة، ويحضنَ بنَقيٍّ كلَّ أخدود فيه، ورقّة! ولينسجَ بالإزميل أبراج الياسمين، والورد الذي لا يُنبَتُ الشوك فيه إلاَّ لفزعة. أمّا الروح، فكسرةُ خاطر، آلام فَقْدٍ وشوقٍ، كيُّ نارٍ ونسوةٍ!

ويأتي الربيع، فتورِقُ في غياهب الرخام نبتة شجرة. وَقَبْل حين الثمرِ، تعصفُ بالأوراقِ صُفرة خضرة، وتتطاير الأوراق مع الأرياحِ نسمةً، وتتراقصُ مع الأعاصير لترقُدَ في أعماق الكون ذكرى!

وتُمهرُ بالتوقيع في سفر وجودٍ آخرُ صفحة، ولا يبقى من أصوات الحياة في الثرى تربة. وتتقطَّعُ الحبالُ حتى الأثير، وقد تاهت بعض الأوراق تشدو للضياء أنْ يحجب السواد المدلهمّ عند الظالمِ بعِبرة... ليعودَ مِن سبيلٍ كان الشيطانُ له فيه مُريدًا يستقي منه ألف فكرة وفكرة، قبل صياح الديك، قبل رقدة الشمس خلف الأصيل ولو بلحظة...

ولو طالَ الزمان، فإنَّ للظالمِ ما آل إليه كسرى...

ولو طال الزمان، فإنَّ للحقِّ سطوع يملأ الكون بحكمة...

ولو طال الزمان فإنَّ للأرواح لا محالة سجدة...

ومن رَحِمِ الحياة يولدُ الموت وقد كان قبلُ الأمَّ والحياة نُطْفة... وتتساقط أوراق الخريف، وترسم فسيفساء أجمل لوحة... ويُلفَحُ في الرخام الوجه والوجنة، ويتطاير الشعرُ كأمواجٍ في ربيع دِجلة، وتُفرِجُ الأعماق عن صرخةٍ، عن «آه» تمزّق الأحشاء، تؤججُ الأشواق، تدفنُ القلبَ، وتُجرّح الكبدَ... تصدّع وتكسّر وتؤلم حتى حدود القشرة... في الرخام... والرخام إنسانٌ طاوَعَهُ الزمان، وقد بادله المطاوعة بفعل البُعاد وأدْمى...

وإنْ كان للكون في سيره لا تُدرَكُ حِكمة، غاية، علَّة... يبقى لسان الظالم شاهدًا، ولو صار المظلومون موتى وقبورُهم ملهًى وضحكًا...

يَظلمُون وفي توليد الألم عند الآخرين للجناة مُتعة... يظلمون وينسوْنَ أنَّ جعجعةَ الكلام أمام الصمِّ البكمِّ فحسبُ فُصحى... يظلمون وينسوْنَ أنَّا كلنا في هذا الوجودِ، مُجرّدُ طَفْرة...