في خريف 1998، خرج الأستاذ الكبير عثمان العمير من صحيفة "الشرق الأوسط" بعد أكثر من ثلاثة عقود قضاها في بلاط صاحبة الجلالة، وكان اتجاهه طلاقاً بائناً لا رجعة فيه مع الصحافة، قبل أن تقدح في رأسه لاحقاً فكرة بدت في حينها مثيرة للجدل، عندما قرر اقتحام عالم "الإنترنت الكوني" – على حد وصفه – بمولود جديد بجمال ودلال وكمال "إيلاف"، مستنداً إلى دراسات ومؤشرات أكدت بأن عالم الإنترنت شكّل وسيشكّل اتساعاً لا حدود له في تغيير الصيغة الإعلامية وتحوير الفكر الإنساني، ومع إبصار "إيلاف" النور في الحادي والعشرين من أيار (مايو) عام 2001، كان مما قاله الأستاذ عثمان العمير: "بأن غالبية أهل المهنة ما زالوا بعيدين عن الاهتمام بالإنترنت إما جهلاً أو تجاهلاً وكسلاً وتكاسلاً".

والحقيقة كانت المؤسسات الصحفية في ذلك الوقت لا تزال في بحبوحة من العيش، وبعضها كانت رغيدة العيش بفضل ارتفاع مبيعاتها وكذلك الإعلانات التي ترفع من مداخيلها، والتي كانت تظهر جلياً في قيمة الأسهم التي يتم توزيعها مع التئام اجتماعات مجالس الإدارة والجمعيات العمومية، لذلك ربما لم يؤخذ رأي الأستاذ عثمان على محمل الجد.

أمَّا اليوم – وما أسوأ اليوم بالنسبة إلى حال المؤسسات الصحفية – بدت نصيحة العمير مع ما تعيشه تلك المؤسسات كبيت الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:

أَمَرتهم أَمري بمُنعَرَج ِ اللِّوى... فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إلا ضُحى الغَدِ

انحسر الطلب على الصحف الورقية حتى أوشكت على الانقراض، فسقطت المبيعات سقوطاً حراً أمام الانفجار الرقمي وتوفر البدائل الأكثر رواجاً والأوسع انتشاراً، مما دفع بالمُعلنين لمواكبة العصر والبحث عن الوسائل التي تسوق منتجاتهم لأكبر شريحة من الجمهور، فلم يتبق للصحف الورقية من كعكة الإعلانات إلا النزر اليسير الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، حتى بدت بعض تلك المؤسسات بدون مبالغة كالجنازة التي تنتظر الدفن!

إقرأ أيضاً: في ذكرى انطلاق مجلس التعاون

ليس هناك أسوأ على الصحفي من تركه مهنته الأساسية وتحوله إلى مسوّق لصحيفته بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تعانيها مؤسسته، فلا يستطيع والحال هذه تقديم مواد تليق به كصحفي أو بتاريخ الصحيفة التي ربما كانت في يومٍ من الأيام ملء السمع والبصر.

ومن ينظر إلى حال المؤسسات الصحفية في كثير من الأقطار العربية، يجد بعضها قد امتثل لنداء الأستاذ عثمان العمير قبل أكثر من عقدين، فشرع بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أما البعض الآخر فقد بلغ اليأس منه مبلغاً أشبه بالفرقة الموسيقية في سفينة تيتانيك، الذين ظلّوا يعزفون فيما السفينة تغرق في قاع المحيط.

إقرأ أيضاً: قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ (الأَزرقا)

ويبقى السؤال الأكثر طرحاً في كل منتدى وحلقة نقاش: إلى متى ستصمد الصحف الورقية أمام طوفان الصحف الإلكترونية؟ في الحقيقة، لا أملك الإجابة، لكن كل ما أرجوه من مُسيّري تلك الصحف الورقية أن يستحثّوا الخطوات التطويرية واستقطاب الكفاءات المستنيرة التي ربما يجدون معها شعاع نور للأمل وسط النفق المُظلم.