لا أحد هنا يظن ان عالم المهنة، حاضرها، ومستقبلها، بخير، بعد سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، التي غيرت قواعد اللعبة، وصرفت قطاعا كبيرا من الجمهور إلى المعلومة السهلة، وليس بالضرورة الموثوقة، على هذه الوسائط الإلكترونية.
إنني أثق في أن الصحافة يمكن أن تغير تقنياتها، فهذا هو الأساس الذي تجري به المقادير في العالم. كل شيء يتغير، ويتطور، ويتجدد، ليعبر عن عصره، وإيقاعه. أقول هذا لأنني اعتدت دايما في كل ملتقى إعلامي أن أسمع النغمة ذاتها: صراع بين صحافة تقليدية، وصحافة جديدة. وبودي لو ينتهي هذا الحوار فوراً، ونفكر في حلول للمستقبل.
المهنة مهنة. الصحافة صحافة. الصحافي صحافي. هذا فصل القول. لا يمكن أن تتغير القواعد الأساسية للبناء المعرفي، والمهني، لهذه المهنة، ولكن يمكن أن تتطور آلياتها، ووسائل التعبير عنها.
ولكن ما العمل؟
علينا ألا نضيع الوقت، بل نشرع في خطة تحول للصحف الكبرى، كي تكمل رحلتها إلى العالم الجديد، دون تأخير، ولا اهتزازات. لا زلت أرى أن الصحف تمتلك محتوى أكثر قوة، وموثوقية، من عدد من الصحف الإلكترونية. لكن المشكلة هو أنها لا تعرض باللغة المناسبة، والشكل المناسب، حين يتعلق الأمر بالنشرة الإلكترونية للصحف.
الصحف مصانع محتوى ضخمة، وليست أوراق، أو ذرات إلكترون فحسب. وهذا ما فهمته المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم، وبهذه النظرة تمكنت من الإفادة من محتواها، وتسويقه، وتعزيز ربحيته للمؤسسة.
كنا نتحدث عن تغير قواعد اللعبة في عالم الإعلام، ونهاية الصحف الورقية، وبروز الصحف الإلكترونية، كشكل جديد، وتعبير عن زمن مختلف. هذا غير دقيق حاليا. العالم يتحرك بسرعة كبيرة. لدي قناعة إن عصر الصحف، والمواقع الإلكترونية، وقنوات التلفزيون، يوشك أن ينتهي. سندخل عصر المنصات، وهو وعاء يحوي بعضا من الصحيفة، والموقع الإلكتروني، والقناة، والفيديو، والجرافيك. وعاء كبير للمحتوى.
إننا أمام مرحلة جديدة لا تحتاج تجديد نظرتنا للمهنة فحسب، بل كذلك للصحافي أيضاً، الذي صورته مرحلة فكرية عربية معينة، بأنه لابد أن يكون المناضل، الناقد، عدو السلطة. إننا بحاجة لمراجعة فكرية لهذه الصورة القاتمة التي رُسمت لحامل القلم، الباحث عن الحقيقة.
وحتماً سنخرج من عصر "الجمل الكرتونية" التي يشتهر بها القاموس العربي، وأكثرها خداعاً هو أن "الصحافي يجب أن يبتعد عن السلطة". وفي رأيي، ورأي كثيرين، أن السلطة، وأجهزتها، هي مصنع الأخبار، وباختيارك تجاهلها، فإنك تتجاهل النصف الآخر من القصة، وبالتالي مصداقيتك، وموثوقية ما تطرح.
الهجوم على السلطة لا يصنع صحافياً حقيقيا، بل العمل وفق المهنة وأصولها.
المأساة الأساسية في عالمنا العربي هو أننا لا نملك القارئ. شعوب لا تقرأ. وشعوب ليس لديها استعداد للتقييم المالي للمعرفة. يمكن للمواطن العربي أن يدفع دولارات للحصول على علبة سجائر مضرة، لكنه يستحيل أن يدفعها لقراءة كتاب أو شراءه.
إذا أردنا أن نستعد للمستقبل، ونبقي المهنة حية، فعلينا أن نؤسس لقارئ الغد، وذلك عبر تنشيط صحافة الطفل، في الصحف العربية، فهو الذي سوف ينهض بالصحافة، ولعله لن يتوانى عن الدفع، حين يتعلق بمادة معرفية قد تفيد.
نعم.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
التعليقات