تسعى الولايات المتحدة إلى منع الصين من الهيمنة الإقليمية (إقرأ الجزء الأول من المقال هنا)، لأنها إن حققت ذلك، فستنتقل إلى الهيمنة الدولية. لذا، تحارب أميركا الصين عند سواحلها، بما في ذلك تايوان، واليابان، وكوريا الجنوبية، والفيليبين، وحتى في فيتنام، التي سبق أن احتلتها الولايات المتحدة من خلال حرب دموية شهدها العالم. الآن، فيتنام أقرب إلى أميركا منها إلى الصين بسبب الحساسية التاريخية بين الصين وفيتنام.

أما الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته الولايات المتحدة فهو أنها دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتحالف مع الصين، وهو أكبر مكسب استراتيجي للصينيين. فحرب أوكرانيا حتى الآن لم تُكسب بوتين أو الغرب، بل كانت لصالح الصين. العقوبات الاقتصادية على روسيا أجبرت بوتين على الاعتماد على المنتجات الصينية، كما أنه مضطر لبيع الطاقة الروسية إلى الصين بأسعار منخفضة، في حين أن حاجة الصين إلى الطاقة لا تشبع.

من الناحية الجغرافية، فإن الحدود المشتركة بين الصين وروسيا تبلغ 4400 كم، وكلا منهما يعتبر درعًا للآخر. فإذا نجح الغرب في كسر بوتين وأتى بقائد جديد موالٍ للغرب، فإن ذلك يعني انكشافًا كبيرًا لظهر الصين. وهذا يعني محاربة الولايات المتحدة للصين في البر والبحر، لذا يواجه بوتين الغرب على اليابسة بينما تواجه الصين الولايات المتحدة في البحر.

وبالانتقال إلى الحرب الروسية - الأوكرانية، فلا يمكن اختزالها في شكلها العسكري، لوجود أسباب عميقة تتعلق بالهوية والثقافة وحتى الدين. فقد كانت أول دولة أنشأتها روسيا خارج أراضيها هي العاصمة كييف. ويريد الغرب إخفاء هذه الحقائق التاريخية وتجاهلها، بل إن الأوروبيين يرون أن الروس ليسوا أوروبيين بما يكفي ولا حق لهم في أوكرانيا.

كما يرى الأوروبيون الروس أقل منهم في التدين، لكونهم ينتمون إلى طائفة الأرثوذكس، والتي يعتبرونها بدعة وهرطقة وليست على الطريق الصحيح. لذلك توجد عقدة حقيقية بين الطرفين، وهذا هو الحال بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية منذ الانشقاق الأكبر في الكنيسة. لذا يحاول الغرب أن يجعل روسيا تنتمي إلى القارة الآسيوية أكثر من الأوروبية.

وبالعودة إلى الصين كدولة صاعدة، فلا يمكن وصفها بأنها في "عنق الزجاجة"، لأنه لا توجد دولة نووية في عنق الزجاجة، أي أنه لا يمكن تدميرها عكس الدول الأخرى. كما أن العقل الاستراتيجي الصيني هو عقل صبور، وربما أبلغ من عبر عن هذا أحد الكتاب الأميركيين حين قال إن روسيا مثل الإعصار، أما الصين فهي مثل تغير المناخ. بمعنى أن حركة الصين بطيئة وهادئة لكنها عميقة التغيير، وهذا صحيح؛ إذ تمكنت الصين من تغيير العالم بهدوء شديد.

والمتابع للأحداث الجيوسياسية يرى أن التاريخ والجغرافيا يقفان إلى جانب الصين أكثر من الولايات المتحدة، لكونها تتحرك في بيئتها الطبيعية. فتايوان تبعد عن الصين 160 كم، بينما تبعد عن الولايات المتحدة 12 ألف كم.

إقرأ أيضاً: سلطنة عُمان وجهة عالمية

وفي كتاب "صدام الحضارات" للكاتب صامويل هنتنجتون، حذر الكاتب من تحالف إسلامي - كونفوشيوسي، أي تحالف الصين مع العالم الإسلامي، حيث اعتبره أكبر خطر على النفوذ الغربي وعلى مستقبل القوى الغربية في العالم. حيث تم إصدار الكتاب في عام 1997، بل اعتبر أن التحالف بدأ بالفعل بتحالف باكستان مع الصين. كما ازدهرت مبيعات السلاح بين الدول الإسلامية والصين بعد حقبة التسعينات مقابل شراء الصين للنفط، لتصبح شريكًا حقيقيًا للدول الإسلامية.

وبلغة الأرقام، تجد أن الصين تشتري 18 بالمئة من النفط السعودي، وتزداد الكمية مع الوقت، مقابل 4 بالمئة فقط لصالح الولايات المتحدة، وهو فرق كبير جدًا. كما لعبت الصين دورًا في الصلح بين السعودية وإيران، لأنه من مصلحة الصين عدم استهداف الحوثيين المدعومين من إيران للنفط السعودي.

وأخطر ما يواجه العالم الإسلامي هو الاختراق الاستراتيجي، لكن الأمر مختلف مع الصين لكونها لا تملك أدوات التدخل في ساحات الدول الداخلية، على عكس الغرب الذي يتعمد التدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية والإسلامية. كما أن التقارب مع الصين يُعد أداة للتخلص من الاختراق الغربي، لكون الصين لا تملك تاريخًا استعماريًا أو تأثيرًا ثقافيًا يمكنها من التوغل في نسيج هذه الدول.

إقرأ أيضاً: الخليج يحتضن إقامة كأس العالم

والإسلام في القارة الآسيوية يتجه نحو الصين، والدليل على ذلك التقارب بين إندونيسيا، وهي أكبر دولة إسلامية، وبين الصين. صحيح أن هذا التقارب لم يتحول إلى تحالف بمفهومه التقليدي، لكنه تقارب ملموس، وينطبق الشيء نفسه على ماليزيا وباكستان، الحليف العسكري للصين بسبب صراعها مع الهند. كما أن الصين تتولى إعادة إعمار أفغانستان.

وأعتقد أن الإشكالية بين الدول الإسلامية والصين تكمن في تعاملها مع الأقلية المسلمة هناك، ويمكن حلها من خلال تفاهمات معينة ومحددة. فالعلاقات مع السعودية كفيلة بحل هذه الإشكالية في أسرع وقت بفضل القوة الناعمة للمملكة. كل ذلك هو ما فهمته من حديث ذلك المفكر والملم بالساحة الدولية.

وفي نهاية هذا الاستعراض، فإن حرب غزة الحالية وضعت حواجز نفسية عالمية تجاه الإدارات الغربية المنحازة لتعنت نتنياهو وفريقه المتطرف، ولا سيما البيت الأبيض الذي لم يضع حداً لتجاوزات إسرائيل المتزايدة.

إقرأ أيضاً: مجلس الأمن يحتضر

وبعد هذا كله، أقول إن محركات التغييرات السياسية كثيرة، والأمم حين تتصارع لمصالحها لا تحتاج إلا لشرارة لتشعل الحرب. وتبقى هذه قراءة وتكهنات، والغيب لا يعلمه إلا الله، لكن تبدل الأمم سنة كونية، يرث بعضها بعضًا مهما كانت قوتها. فالشرق الأوسط هو أحد مواضع محركات التغيير في العالم، لارتباطه جغرافياً ودينياً وتاريخياً بالكثير من المعتقدات والمطامع والتنافس الدولي. والصراع الدائر في فلسطين له أكثر من قرن، وهو مرشح للتصعيد أكثر، وقد يكون إحدى ساحات المواجهة بين الشرق والغرب. ونسأل الله دوماً أن يجنبنا شرور ذلك. لكن الصلف الإسرائيلي والتطلع الإيراني للهيمنة وإشعال المنطقة كلها نذر خطيرة، وهذا الإدراك دفع بالدول الفاعلة والعاقلة لقيادة مسيرة سلام، وتهدئة المنطقة. والبحث عن مخارج وسبل لإنهاء الحرب في غزة ووقف التصعيد في جنوب لبنان وسوريا وتهدئة الساحات المشتعلة في ليبيا والسودان. وما زالت المملكة العربية السعودية تبذل جهودًا متواصلة ومعها دول الخليج ومصر ودول واعية أخرى لتجنيب المنطقة هذا التصعيد الخطير، وهذه النذر التي تلوح في الأفق. ووسط الإيمان بحتمية المواجهة بين القوى الكبرى التي سادت وتلك الصاعدة، والإيمان أيضًا بحكمة الرياض ودول عديدة لإدارة هذه التحديات والصعوبات، نعيش لحظات إيمانية كبرى بأن الأمر يبقى لله وحده، من قبل ومن بعد.

إنه سبحانه وحده مدبر هذا الكون، يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو ناصر عبده وهازم الأحزاب وحده. ومهما تكالبت الأمم وتعاضدت فلا غالب على أمره، وإلى الله يرجع الأمر كله.