اللبنانيون... إخوة حقيقيون لكل العرب. ولبنان بلد غني بالمعرفة وغني بثروة حقيقية تتمثل في قوة أبنائه وتنوعهم الثقافي والمعرفي. سبل النجاح متوفرة واللبنانيون قادرون على تغيير بوصلة الأحداث... ولكن.

تحت عبارة "ولكن..." يمكن أن تتوقف الآمال ونسمع أنين الملايين من جنوب لبنان إلى شماله، أنين من وراء صمت يلتزم به العارفون بلبنان، ويلتزم به الكُتّاب والإعلاميون. المتحدثون لا يصل صوتهم إلى مسامع من بيده القرار في لبنان.

فهل يدرك اللبنانيون أين هي مشكلتهم؟

هذا هو السؤال الأهم، لأن فهم المشكلة هو بداية الحل. لا شك أن على اللبنانيين أن يعوا الأحداث ويفهموا ما يُحاك لهم في الخفاء، لأن ما يُحاك في العلن بات أكثر قسوة ووضوحًا وأكثر نزفًا للدماء.

يعلم كل اللبنانيين من جنوبه إلى شماله أن وجود حزب الله داخل لبنان أضرَّ بمصالحهم وأضرَّ بتماسك أمنهم، وأضعف حراكهم السياسي والإعلامي والاقتصادي. فالتيار المسيحي اليوم، رغم سلطته المعلنة، لا يصل رئيس إلا بموافقة قادة حزب الله. أصبح رئيس حزب الله المرشد الأعلى للبنان.

واقع غريب ومظلم، لكنه حقيقي تعيشه منارة العلم الأولى.

لا شك أن اللبنانيين يعلمون أن حزب الله أصبح ثِقلاً على لبنان وعبئًا. يجب على الجيش اللبناني أن يستعيد دوره، وعلى الأمن الداخلي أن يقوم بواجباته ليستعيد لبنان سيادته ويعيش كدولة ذات قرار سيادي على أرضها وحدودها، ويكون لرئيس لبنان ورئيس وزرائه كلمة مسموعة في العالم.

حتى إيران التي تدعم حزب الله تدرك أن حزب الله يفقد وهجه داخل لبنان، وأنه قد يسقط إذا استمر في دوره المعطّل لنهضة لبنان.

وهنا يمكننا أن نقرأ بين السطور للأحداث الجارية، هذه الضربات المتوالية على حزب الله في مواقع حساسة، تستهدف قيادات من الصف الأول والثاني. نقول إنه ليس غريبًا أن تساوم إيران على إضعاف حزب الله أو حتى إنهائه، إذا لزم الأمر.

فإيران هي التي صنعت هذه الميليشيات في لبنان، كما صنعت أشباهها في العراق واليمن. وعلى القارئ أن يسأل نفسه: ماذا تريد إيران وهي تصرف المليارات على إعداد وتسليح هذه الميليشيات؟ أليس من المهم معرفة أهداف إيران قبل أن ننساق معها في ترديد شعاراتها؟

العنوان الرئيسي لمشروعها هو دعم المقاومة الفلسطينية. فهل بات إضعاف القرار السياسي في لبنان والعراق واليمن يصب في صالح المقاومة الفلسطينية؟ وهل أثمر فعلاً؟

أيها القارئ الكريم، ابحث دائمًا عن المستفيد لتفهم الأهداف.

عندما يعلن حسن نصر الله تبعيته لإيران ولا يعارضه أي لبناني من طائفته في هذا الولاء لغير وطنه، فهذا أمر غريب ومعناه مريب. ثم، ماذا يريد هو من هذا الإعلان؟ وماذا تريد إيران منه؟

وكذلك الحوثي في اليمن يتم تزويده بالطائرات المسيرة والصواريخ فائقة الصوت، والجميع يعلم أن هذه ليست إمكانيات اليمن وإنما هي تقنية وافدة. فماذا تريد إيران من دعم الحوثي؟

والسؤال ذاته يطرح حول ملايين الدولارات التي تصرفها إيران على الميليشيات العراقية، ماذا تريد إيران؟

إقرأ أيضاً: هنا الرياض وهنا القاهرة

رغم كل ما نعلمه من أن الحشد في العراق والحوثي في اليمن وحزب الله في لبنان هم أذرع لإيران، إلا أن طهران على ما يبدو وضعت لكل منتجاتها أسعارًا. ولا أستغرب أن تبيع أحدهم تلو الآخر متى كان السعر مغريًا.

حزب الله في لبنان يتعرض لتصفيات في صفوف قادته من قبل إسرائيل. وهو وإيران يتوعدان بالرد حتى الآن. أخيرًا، صفقة لأجهزة اتصال متفجرة اخترقت الطوق الأمني الداخلي في حزب الله. وإذا نجت القيادات العليا اليوم، فقد يكون الدور عليها قريبًا، وسيتم تصفيتها كما تم تصفية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أو تصفية قائد حماس إسماعيل هنية بعده، رغم الحراسة المشددة من أقوى جهاز أمني في إيران.

ليس غريبًا أن تبيع إيران أحد أذرعها أو قادتها أو مسؤوليها. وليس أتباعها العرب بمفازة من ذلك، في صفقة مع أميركا أو إسرائيل. ولإيران قدرة على إخفاء من تريد من الشخصيات بافتعال تفجير له وإخفاء معالم جثته. تختلق قصة موته، وتعمل له مزارًا سنويًا، ثم تعطيه هوية جديدة عبر عمليات تجميل على ملامح وجهه، وكذلك اسم جديد وجواز سفر جديد. مثل إعلان اغتيال قائد حزب الله عماد مغنية واختفاء جثته. لا أحد على يقين أنه تم اغتياله فعلًا.

إقرأ أيضاً: هل مات نصر الله فعلاً؟

من سيتابع المشهد في لبنان سيدرك أن إيران يمكنها أن تتخلى عن عدد من قادة وعناصر حزب الله، جسديًا أو باختلاق قصة اغتيال، إذا أرادت. وعندما تتخلى، فليعلم اللبنانيون في حزب الله أنهم تم بيعهم لمصير مجهول، وأن دماءهم لا تعني شيئًا لإيران.

إسرائيل تبحث اليوم عن حالة نصر تعيد لها توازنها الداخلي، وتكسب تعاطفًا دوليًا جديدًا بافتعال مواجهة مع حزب الله. المصالح متبادلة، والثمن في أجساد اللبنانيين وعلى أرض لبنان. يمكن لإيران أن تستفيد من هذا الصراع على الأرض العربية، فالقتلى الأبرياء من أبناء العرب في لبنان من كل الطوائف. أما القادة الحقيقيون في حزب الله، فهم حتى الساعة محميون من الضربات الصاروخية والمسيرات ومن الهجمات الاستخبارية الإسرائيلية.

عندما نتحدث بوعي أكبر نستطيع أن ندرك الحراك حولنا، ونفهم أين نقف ومع من نقاتل.

إقرأ أيضاً: هل أصبح لإسرائيل قوة "أقلام" ناعمة عربية؟

الصورة تتضح كل يوم لمن يتأمل المشهد بدقة وعين الباحث والمحلل. لمن يريد أن يفهم، عليه أن يقرأ المشهد من جديد، ويربط الصور، ويطرح الأسئلة كلها.

مصالح إيران من الصراع العربي الإسرائيلي لن تكون معلنة، ولكنها حتماً مفهومة، منها إعطاء إيران مساحة أكبر للسيطرة الجيوسياسية للمد الصفوي، وكذلك السماح لطهران بتصنيع القنبلة النووية، ليمكنها ذلك من تجديد أو تشديد خطابها السياسي، وإعادة رسم خطها الاقتصادي، ورسم صورتها التاريخية. لأجل هذه الأهداف، يمكن لإيران أن تبيع الأخضر واليابس، وتبدأ بالمساومة على تقليم أظافرها في عدة بلدان، لأنها تعتقد أنه عندما تمتلك القوة النووية ستبني قوة أكبر مما هي عليه الآن.