المحتوى العربي المكتوب والمشاهد بات، منذ عهد قريب، يقع بين اتجاهين: الجديد يمدحها، والأقدم يذمها. عندما بدأ الاحتلال الصهيوني بعد الحرب العالمية الأولى حتى عهد قريب، كانت النظرة العربية والإسلامية لهذا الاحتلال واحدة، وهي أنَّ إسرائيل كيان محتل للأرض العربية والإسلامية يجب زواله.
ثم سعت إسرائيل والغرب في حرب طويلة لتغيير المفاهيم، بدءًا من تحويل الصراع من "الصراع العربي الإسرائيلي" إلى "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي". بعد ذلك، تغير الصراع الوجودي بين إسرائيل إلى مواجهات سياسية داخلية. سعت إسرائيل لعقود لإخراج العرب من المشهد وحصر الصراع مع الفلسطينيين فقط، وليس على أرض فلسطين. من يتأمل هذا التحول يدرك الفرق بين أن تتحول القضية من الأرض إلى السكان فقط.
كما استطاعت إسرائيل أن تؤثر في الذهنية العربية بتغيير المصطلحات المستخدمة. فعبارة "الاحتلال الصهيوني" تم استبدالها بعبارة أخف هي "الوجود الإسرائيلي"، وعبارة "العدو الصهيوني" أصبحت "إسرائيل" فقط، دون أن يصفها البعض بالعدو، وكأن حالة العداء انتهت. اليوم، ندرك أننا نتعامل مع إسرائيل كحقيقة موجودة على الأرض، ولا أحد يتحدث عن زوالها كما كان سائدًا في الخطاب السياسي العربي في السبعينيَّات من القرن الماضي وما قبلها.
كذلك، تغيّر وصف "شهيد" لمن يدافع عن أرضه في فلسطين إلى "قتيل"، مما يدل على تغيير في الموقف من الصراع نفسه. إذا لم يُوصَف من يُقتل دفاعًا عن أرضه بأنه شهيد، فمتى يُوصَف؟ هذه حرب طويلة على المصطلحات لا تقف عند ما ذكر، ولكن للإشارة إلى حرب حقيقية تحت الطاولة. اليوم، نرى نتائجها والبعض يسير كما تريد إسرائيل وهو لا يعلم.
المشكلة أنَّ الحرب الصهيونية الناعمة قطعت شوطًا كبيرًا، حتى بدأنا نقرأ نصوصًا عربية تمدح إسرائيل وتزينها في عيون ضحاياها. نجد، على سبيل المثال، مقالًا يمتدح التقنيات الإسرائيلية والحضارة، دون أن يلتفت صاحبه لمعاناة أطفال غزة والضفة، وهو أمر يستحق التأمل. قد تكون لهؤلاء الكُتّاب أسبابهم أو مصالحهم، لكن تلك المقالات لا تخدم المواجهة الدائرة اليوم سياسيًا واجتماعيًا وعسكريًا. إنها تدخل في باب زعزعة الثقة النفسية بأهمية الاستمرار في المواجهة، وهي خطوة تسبق الهزيمة النفسية والاستسلام المبكر.
إقرأ أيضاً: بين الإفراط والتفريط تبقى الوسطية الحل
هذا الجهد الذي يصب في صالح إسرائيل لا ينبغي أن يصدر عمن كتبه، ولا ينفع جهود الدبلوماسيين العرب الذين يعملون ليل نهار لدعم الموقف الفلسطيني وانتزاع حقوقه الشرعية. هذه الكتابات لا تليق بصورة العرب الذين قدموا الكثير من التضحيات، وما زالوا يفعلون.
احترامنا للمواقف العربية المشرفة لأكثر من قرن، والجهود الدبلوماسية الحثيثة التي تبذلها الدول العربية الفاعلة اليوم خدمة للقضية الفلسطينية العادلة، يتطلب منا دعم هذه الجهود وتشجيعها والثناء عليها، وإبراز خطواتها بالنشر والتحليل. كما يجب علينا عدم نشر ما يؤخر هذه الجهود ويضعف الموقف العربي ويزعزع الثقة. مثل هذه المقالات تضر بالجهود وتنسف ما حققناه من تقدم. ترك مدح إسرائيل يجب أن يكون للحظة التي تتوج فيها الجهود العربية، ويحصل الحق العربي على أهله. ما زلنا في حالة صراع مع إسرائيل، واستجماع كل قوة يعزز موقف المسؤولين العرب الذين يجمعون أوراقهم التفاوضية بدقة، ويزيدون من فرصهم لتحقيق تقدم تفاوضي حقيقي.
إقرأ أيضاً: هل كل ما يُقال حقيقة؟
نسأل الله أن يعين المسؤولين العرب الذين يقدمون الكثير خدمةً لهذه القضية العادلة. ومن العدل أن نلتمس العذر لمن له أسباب قناعته، لكن الأكيد أن الدبلوماسية العربية، وعلى رأسها المملكة، تدافع عن القضية الفلسطينية من مبدأ راسخ وثابت.
أما تحوّل المصطلحات على مستوى الجماهير العربية فهو أمر طبيعي، في ظل تقادم القضية وتوالي الأجيال وبروز قضايا أكثر تهديدًا للوطن العربي ضمن مشروع توسع طائفي بغيض.
لو كانت القضية حاضرة جماهيريًا لما استطاعت إسرائيل تغيير هذه القناعات. ومن يريد أن يبقى العالم كما هو، لا يريد أن يبقى العالم.
التعليقات