قادني فضولي الصحافي ذات يوم للدخول إلى إحدى المساحات الصوتية على موقع إكس (تويتر سابقاً)، بعد أن اطلعت على عنوانها الجذاب، غير أنني سارعت بالخروج من الوهلة الأولى، عندما وجدت نفسي محاصرة بصور لشخصيات سياسية، وأنا الوحيدة بينهم التي تستخدم صورتها الشخصية على حسابها.

ربما أبدو مثالية أكثر من اللازم لأني غادرت تلك المساحة! لكنني لم أكن مستعدة للتحاور مع الكثير من الأقنعة المزيفة والقليل من الوجوه، والتملق للسياسيين المخادعين، في مجتمعات تهدر فيها الكرامات في العلن، لكن لا أحد يجرؤ على محاسبة السياسيين الفاسدين!

جميع ثقافات العالم تميل إلى الإشادة بصفات الشخصيات الملهمة والقادة الناجحين. لكن الميل إلى التملق وإظهاره علناً، أمرٌ تطوّر أيضاً عبر الزمن، ومشاعر مثل هذه تلعب دوراً في وصف الواقع القاتم بـ"الوردي"، في وقت تلتهم فيه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية حياة أجيال بأكملها، من دون أن تكون هنالك إجراءات صارمة لمعالجة الأسباب الحقيقية للفقر والفساد في معظم المجتمعات العربية.

إننا إزاء حقبة جديدة من "التزييف العميق" للواقع البائس، يساهم في تشكيلها موجة من "المتملقين الخفيين" الذين تكاثرت جيناتهم بشكل سريع في مواقع التواصل الاجتماعي، فيستحوذون على اهتمامات الناس ويشحنون عقولهم بالأفكار المغلوطة، فيغيرون من الطريقة التي ينظرون بها إلى العالم من حولهم، وقد يدفعونهم أيضاً إلى تغيير آرائهم السياسية، عبر إثارة الخوف وتغيير منظومات القناعات والأفكار.

المفارقة أن التملق منبوذ اجتماعياً، إلا أن الكثيرين في العالم العربي مهووسون بحب التملق، في معظم الأنشطة التي يقومون بها على مواقع التواصل، سواء كان الأمر يتعلق بالصور التي ينشرونها على حساباتهم الخاصة، أو حتى في تدويناتهم وخطاباتهم وتعليقاتهم.

إقرأ أيضاً: عامل يومي رئيساً لتونس!

لسوء الحظ، "التملق المستتر" يترافق مع شعور بالمنافسة مع الأشخاص الآخرين، وهو ما قد يؤدي بسهولة إلى أن تصبح للمتملقين الافتراضيين قاعدة جماهيرية، تروج لأسطورة القائد "الإله"، وتهيئ له برجه العاجي الخاص عبر تزييف الواقع والتاريخ. وبدلاً من التوحد لدحض الخرافات والدعايات الكاذبة والمضللة، يتخذ البعض مواقف عدائية ضد بعضهم البعض، كما لو أن الأمر أشبه بمبارزة حامية الوطيس للحظي ببركة "السياسي العظيم".

مثل هذا الأمر يحيلنا إلى حالة الاستعلاء الطائفي والعرقي والديني التي تروج لها الجماعات المتشددة والتيارات والأحزاب الدينية المتطرفة في بعض المجتمعات، كوسيلة لاستمالة الناس وتقوية مشاعر السطوة والانتماء إليها.

إقرأ أيضاً: معجزة تونسية أم موهبة فطرية!

على أية حال، لا يشكل هذا أمراً جديداً منذ أن قال ميكافيلي في كتابه "الأمير" جملته الشهيرة "أكذب، أكذب حتى يصدقك الناس". يحترف السياسيون الكذب، حتى أنهم يكذبون دون أن يهتز لهم جفن، وبعضهم اعترف علناً بقوله "نكذب عليهم ويكذبون علينا" في إشارة إلى علاقة بلاده مع دول أخرى!

بالنسبة إليّ شخصياً، أعتقد أنه يجب أن نمنح عقولنا الفرصة كي ترى السياسيين على حقيقتهم، وليس على الشاكلة المثالية التي يظهرون بها أنفسهم. فعندما ننشر صورنا الشخصية على مواقعنا بدلاً من صور السياسيين، نكون قد أنقذنا أنفسنا من مأزق الخلط بين الوهم والحقيقة.