في وقتٍ مفصلي وحساس جداً، وبعد أن أظهرت فئات كبيرة من الشعب الأميركي، لا سيما فئة الشباب، استياءها من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، وبعد أن أعربت شريحة واسعة من الناخبين عن رغبتها في العزوف عن التصويت لأي من الحزبين إثر الأداء المتدهور للإدارة الديمقراطية الحالية، وفشل الجمهوريين في تقديم مرشح أكثر حكمةً واعتدالاً من الرئيس السابق دونالد ترامب المثير للجدل لاستمالة الناخبين المنزعجين من أداء الرئيس الحالي جو بايدن؛ جاءت المناظرة بين ترامب وكامالا هاريس لتعيد البوصلة إلى مسار التحديات المستقبلية الحقيقية التي تواجه الناخب الأميركي. هذه المواجهة، التي وُصفت بأنها عالية المخاطر، اتسمت بالحيوية في لحظة حرجة، وبثتها شبكة ABC من فيلادلفيا، بعد أن أظهرت استطلاعات للرأي تقارباً في أرقام النتائج والفرص بينهما قبل نحو ثمانية أسابيع فقط من يوم الانتخابات المقررة في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
ويمكن تسجيل بعض النقاط حول محاور تلك المناظرة، وأهمها:
أولاً: كرر ترامب وعوده الانتخابية السابقة، التي تمحورت حول إغلاق الحدود لوقف الهجرة غير الشرعية، والتعهد بتخفيضات ضريبية شاملة، واقترح فرض تعريفة جمركية بنسبة 10 بالمئة على جميع الواردات الأميركية، والعمل على استخراج الوقود الأحفوري لخفض أسعار الطاقة.
أما هاريس، فقد نجحت في تقديم نفسها خارج عباءة بايدن، رافعة شعار "عدم الالتفات إلى الوراء"، من خلال طرح رؤية لتمكين المرأة ودعم حقها في الإجهاض. كما أعلنت عن خطة اقتصادية تدعم المشاريع الصغيرة، وتحظر رفع الأسعار، وتساعد الفئات المتوسطة والفقيرة على امتلاك المساكن، علاوة على تقديم برامج رعاية صحية وطنية للفئات غير القادرة على تحمل تكاليف التأمين الصحي الخاص.
ثانياً: كما كان متوقعاً، لم يأخذ موضوع الدبلوماسية والسياسة الخارجية الأميركية حيزاً كبيراً أو حاسماً من المناظرة، رغم اختلاف رؤية كل منهما حول القضايا العالمية، إلا أن استراتيجية كلا الحزبين ثابتة حيال دعم إسرائيل.
وفيما ركز ترامب على كلمة "لو" وكررها كثيراً، مشيراً إلى أنه لو كان رئيساً لما اجتاح الرئيس الروسي فلاديمين بوتين أوكرانيا، ولو كان رئيساً لما أقدمت حماس على تنفيذ هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وأضاف أنه "لو" أصبحت هاريس رئيسة فإن ذلك سيؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، وأن فوزها يعني زوال إسرائيل خلال عامين.
من جهتها، اعتبرت كامالا هاريس أن أجندة بوتين ليست أوكرانيا فقط، وأكدت على ضرورة التعاون مع الحلفاء الأوروبيين. وركزت في إجابتها حول غزة على نقاط واضحة، قائلة: "يجب أن تنتهي هذه الحرب، ويجب وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن. كما يجب أن يكون هناك حلّ لدولتين لإعادة إعمار غزة." وهنا تجدر الإشارة إلى أن هاريس أعادت إلى الواجهة نقطتين مهمتين جعلتاها تتمايز عن إدارة بايدن الحالية حيال الموضوع، وهما حل الدولتين وإعادة الإعمار مع ما يحمله ذلك من التزام بتنفيذهما.
إقرأ أيضاً: الحروب الموازية في الفضاءات السيبرانية
ثالثاً: الكلمة الختامية لكل من المرشحين لخصت المضمون والأداء لكليهما. فقد بدت هاريس وكأنها تنظر إلى المستقبل، مستهدفة الفئات الأوسع من الشباب والنساء والطبقة الوسطى والملونين. وأكدت أن ما يهمها هو خدمة الإنسان الأميركي، وليس بوصفه ديمقراطياً أو جمهورياً. وقالت: "لن نعود للوراء، وأعتقد أن الأميركيين يعلمون أن هناك الكثير مما يجمعنا أكثر مما يفرقنا. أنا أؤمن بما يمكننا تحقيقه معاً، وسأكون رئيسة تحترم وتحمي الحقوق، بما في ذلك حق المرأة في تقرير مصير جسدها".
أما ترامب، فقد هاجمها واعتبر أن المشكلة تكمن في قيمها، قائلاً: "أنتِ لا تؤمنين بأشياء ستقوم بتقوية هذه الدولة، سواء أحببتِ ذلك أم لا. لا يمكننا التضحية ببلدنا بسبب وجهات نظر عديمة المسؤولية. نحن لا نقود وليس لدينا أي فكرة عما يجري في الحروب بالشرق الأوسط أو في روسيا، ونسير نحو حرب عالمية ثالثة ستكون غير كل ما رأيناه، لأنها ستكون حرباً نووية.
إقرأ أيضاً: الحراك المدني: كلمة العدل بوجه قانون جائر
رابعاً: من حيث الأداء العام خلال المناظرة، يمكن القول إنَّ هاريس استطاعت تنفيذ استراتيجيتها على أكمل وجه. ولعل هذه المناظرة ستدفع بالكثير من المترددين المستائين من أداء بايدن إلى إعادة النظر وتأييد هاريس في حملتها، مما سيساهم في كسب الولايات المتأرجحة لصالحها. ولا شك في أن حضورها القوي وتحضيرها الجيد لما تريد قوله جعلاها تتصدى لأسئلة المشرف بثبات، واستطاعت أن تجيب بشكل مباشر وواضح، وسددت الضربات لمنافسها. منذ بداية اللقاء، توجهت إليه وصافحته، وقدمت نفسها في صورة أوحت بأنها شخص يتصرف بمسؤولية. وخلال اللقاء، كانت تنظر باتجاهه إما لتوجيه انتقاد أو لرفع حاجبيها تشكيكاً في تصريحاته، فيما كان هو يتجاهل النظر إليها عندما تتحدث.
أخيراً، بطبيعة الحال لا يمكن الحسم في النتائج التي ستحملها الأيام القادمة، وبالرغم من أن المناظرة ساهمت في إعادة اللحمة إلى التيار الديمقراطي المتصدع، فإنَّ الاحتمالات تبقى مفتوحة حتى اللحظات الأخيرة فيما يتعلق بكسب فئة المستقلين والمترددين. فهل يعود ترامب إلى سدة الرئاسة، أم تفوز هاريس وتكون أول أميركية من أصل أفريقي، وأول أميركية آسيوية، رئيسة للبلاد؟
التعليقات