في ظل أسوأ الأوضاع التي تشهدها البشرية، وفي كوكب يمور بالأزمات التي تنذر بحرب شاملة لا تُبقي ولا تَذَر، وحين يصبح الحليم حيرانًا، بينما يحاول العاقل التأنّي في قراءة المشهد بوعي، يجد الإنسان المُفكِّر نفسه أمام مسؤولية أخلاقية تضعفه في تقديم رؤية تُساهم في مساعدة جيل من الشباب اليائس الذي يشعر بالعجز والرغبة الحارقة في إحقاق العدالة حيال التراكم المزمن للمظالم وتجذرها العميق في بنية المجتمعات التي يعيش في خضمها.

وبعد أن كانت الشعوب المقهورة خلال العقود الفائتة تتجلد بالصبر حيال أنظمة تتذرّع بالرّدع الخارجي للمحتل، انكشف مؤخرًا الأمر بشكل مرير، وبما لا يقبل مجالًا للشك، في أن تلك الأنظمة هي المتسبب الرئيس والمباشر في كل خراب. فقد سلّمت حدودها لعدوها وتنازلت عن أمنها القومي، ورهنت أمنها المائي والغذائي، وأهانت مواطنيها، وكانت على أبناء جلدتها أشدّ بأسًا وأشدّ تنكيلًا، بعد أن أغرقت البلاد في الفقر والغلاء والحرمان وانصرفت إلى تعميق التجهيل في صورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمم.

فهل من أمل في تغيير تلك الأنظمة في ظل استحكام القبضة الأمنية المسيَّجة بقوانين مُحكمة شديدة، حيث تبدو المطالبة بالحق أو الاعتراض على الجور شكلًا من أشكال الخروج على القانون الذي يستوجب الغياب في غياهب السجون؟ وكيف يمكن التحرك الفعلي وإحداث التغيير المجتمعي بذكاء، مع الحفاظ على أرواح العباد وعدم الزج بهم في نفق العنف؟ وكيف يمكن تفعيل الحراك السلمي والخروج بحكمة ورويّة من هذا الاستبداد بسلام دون الانجرار إلى العواقب الوخيمة؟

لعلَّ أي مسار تغييري ناجح لا بد أن يكون هادئًا، ويحتاج لنفس مديد واستراتيجية طويلة الأمد، تبدأ قبل كل شيء بإحداث تغيير حقيقي وثورة في الوعي الفردي ومن ثم الجمعي، وذلك يتبلور من خلال محاور رئيسية أهمها: مبدأ اللاتعاون، ومبدأ كسر حاجز الخوف، ومن ثم التركيز على النقاط والمفاصل الفاعلة. بحيث يكون العمل على أن يتسع الوعي بأهمية التغيير البنّاء الفاعل، وترسيخ الإيمان بإمكانية ذلك، حتى ينتشر شيئًا فشيئًا بين كل شرائح الشعب، إلى أن تنصهر كل فئات المجتمع بمن فيهم من كان يستخدمهم المستبد لاستمرار طغيانه. إذ لا يمكن لمستبد ولا لمحتل أن يستمر ما لم يجد من يقبل التعاون والتواطؤ معه، سواء خوفًا من بطشه أو طمعًا في مكاسبه. والشعب، سواء استعبده الخوف أم قنع بهزيمته، هو الحليف الأمثل للحكم الذي يضطهده، لا سيما عندما يترسخ لديه الشعور بالقدرية. وعندها يتضاعف دور النشطاء الحقوقيين، إذ لا ينحصر في رفض جور الأنظمة وحسب، بل التوعية لكسر صمت العامة السلبي الذي لا يقل ضررًا عن غيره. بحيث يتسع العمل ليطال الجميع، إذ لا يقتصر الشعور بالمسؤولية حيال رفض الظلم على الشباب أو النشطاء أو المتضررين من الظلم والقهر بشكل مباشر، بل يشمل كل فرد، لأنها مسؤولية أخلاقية تطال كل فرد تجاه نفسه وتجاه أخيه الإنسان وكلٌّ بحسب موقعه وطبيعة عمله.

إذن، للتحرر سواء من الاستبداد أو الاحتلال، أو لتغيير أي واقع مرير، لا بد من مواجهة التعاون مع الظلم القائم، وذلك عبر اعتماد استراتيجيات عملية سلمية تمامًا وتكتيكات سلوكية غير عنفية، قد تبدو عادية جدًا بحيث لا يمكن وقفها أو منعها، لكنها تُعدُّ مؤشرًا حاسمًا على بداية انتشار الوعي بين الناس.

ولا يهدف هذا المقال المقتضب إلا لإلقاء ومضة سريعة لإيقاظ الوعي، ولست بصدد عرض آليات العصيان المدني والتحرك اللاعنفي ولا بصدد شرح تلك المحاور الفكرية بعمقها، فقد أوردت ذلك في كتاب بعنوان "استراتيجيات الأمل في عصر العنف" المنشور منذ أكثر من عقد ونصف، وقبل انطلاق موجة ما عُرف بالربيع العربي. كما لا بد من العودة إلى كتب جان ماري مولر وآخرين كثيرين ممن كانت لهم تجارب فاعلة، مثل مارتن لوثر كينغ وغاندي وجودت سعيد وغيرهم، واستلهام أعمالهم في هذا المجال.

لعل النقطة المحورية الأهمّ في التوعية، والتي ينبغي توضيحها وإزالة اللبس عنها في أذهان الناس، هي التمييز بين "العدالة" و"القانون"، إذ ليس القانون هو الذي يُملي ما هو عادل، لا سيما في الأنظمة الدكتاتورية حيث تُفصل القوانين السياسية وتُرتب بشكل يضمن للطاغية فعل ما يشاء لاستمراره. كما أن القوانين الاقتصادية لا تحظى إلا بلجان شكلية مهمتها الجباية لا تقديم الخدمات. كذلك، كافة المرافق والموارد الخاصة بالدولة تخضع لسياقات تدور في فلك "السلطة المستبدة" وحاشيتها من المنتفعين، مما يجعل الفساد متجذرًا ومن المتعذر اقتلاعه. لذلك فإنّ النقطة المفصلية في التغيير تكون في اللحظة التي يعي فيها كل إنسان أن رفع الظلم ورد الحق هو مسؤولية تقع عليه شخصيًا ومباشرة، وأنه إن خُيِّر بين العدالة والقانون وكان هناك تعارض بينهما، عليه أن يختار العدالة وأن يعصي القوانين، لأن ما يجب أن يُلهِم الإنسانَ في سلوكه ليس ما هو "شرعي" بل ما هو "مشروع".

وهنا نضيف قائلين إن كل مجتمع يُفترَض فيه أن يستعمل الوسائل التي تسمح له بحماية نفسه من الأفراد والجماعات الذين يجتهدون لزرع الفوضى ويهددون بذلك تماسك المجتمع واستقراره. وإن على كلِّ مجتمع يتطلع إلى ضمان الحرية والعدالة المثلى لأفراده أن يطالب بحق، بل بواجب التنظيم، حتى تبقى هذه الحرية وهذه العدالة في مأمن من أذى أعدائها.

إقرأ أيضاً: الحروب الموازية في الفضاءات السيبرانية

إنَّ الأمثلة والنماذج في مجال وأشكال الحراك المدني السلمي هائلة وأكثر بكثير من أن تُحصر. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لأحد أن يمنعك من الوقوف في شرفة بيتك صامتًا بهدوء، فكيف لو التزم عدد كبير من الشعب بأن يقف في وقتٍ معين محدد في الشرفات؟ فهذا شكل من أشكال الاعتراض السلمي. كما أن العصر الرقمي قد فتح آفاقًا رحبة ومنقطعة النظير لنشر الوعي الآمن والراقي دون الانجرار للمزالق المتهورة.

يقول غاندي: "يتخذ اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضه، منها الصوم، والمقاطعة، ورفض الضريبة، والاعتصام، والعصيان المدني، والعرقلة اللاعنفية، والترحيب بالسجن إذ حصل، ورباطة الجأش أمام الموت... اللاتعاون ليس حركة تبجح ولا هو تظاهر. إنه امتحان لإخلاصنا، وعلى أتباعه أن يعقدوا العزم على التضحية بأنفسهم. إنه نداء موجَّه إلى صدقنا وإلى مقدرتنا على العمل من أجل الأمة، وحركة تهدف إلى ترجمة الأفكار إلى أفعال. من يمارس اللاتعاون يسعى إلى لفت الانتباه وتقديم القدوة الحسنة، ليس بالعنف، بل بالتواضع الراغب عن الظهور. فهو يترك عمله المكين ينطق عن إيمانه، وقوته تكمن في ثقته بعدالة قضيته".

إقرأ أيضاً: الاقتصاد بين عولمة الأنانية وعولمة القيم الانسانية

كما أن الحراك المدني ليس عملًا سريًّا، فعندما كان مارتن لوثر كينغ يخطط لتعطيل العمل العادي لمؤسسات المجتمع الأمريكي من خلال حملات اللاتعاون، أوضح قائلًا: "هذه المقاطعة يجب ألا تكون سرية أو في الخفاء. ليس ضروريًّا أن نُلبِسها ثوبَ حرب المغاوير الرومانسي، بل يجب أن تكون علنية، وأن تقوم بها جماهير كثيرة، دون أي لجوء إلى العنف. وإذا كانت السلطات تريد إفشالها وإغراق السجون بنا فإن معناها بذلك يصبح أوضح".

أخيرًا، تشهد المجتمعات في أماكن عديدة من العالم، من الدول الأكثر ديموقراطية إلى الدول الأشدّ دكتاتورية، هوة تتسع بين جيل من الشباب المحب للقيم الإنسانية والراغب في الحرية والعدالة والعيش الكريم، وبين الحكومات الساعية للاستمرار في مخططاتها لإحكام السيطرة. وحيال ذلك، لا بدّ من التعاطي الجاد مع تلك الاستحقاقات الأخلاقية والإنسانية، بالاحتواء والإصلاح، وعلى الحكومات المسارعة إلى إحداث تغيير جذري في التعاطي مع شعوبها داخليًا والوقوف مع القضايا العادلة خارجيًّا. فإنّنا في الوقت الأكثر حرجًا وإلحاحًا، إذ لو استمر تدهور الحضارة الإنسانية على إيقاعه الحالي، فإن حظوظ الانفجار المدوي وفناء الجنس البشري باتت وشيكة.