في مشهد يذكّرنا بأبشع فصول التاريخ، خرج وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش بتصريح لا يشوبه سوى القسوة والجهل، قال فيه "لن تدخل حبة قمح إلى قطاع غزة". جملة قصيرة، لكنها تلخص عقيدة كاملة تقوم على الحصار والتجويع والتركيع، عقيدة تؤمن بأن الجوع أداة سياسية، وأن حرمان البطون وسيلة لإخضاع الشعوب.
منذ اندلاع الحرب على غزة، والعالم يشهد على واحدة من أقسى صور العقاب الجماعي في العصر الحديث. لا ماء، لا كهرباء، لا دواء، لا مأوى، ولا طعام. حتى القمح، رمز الحياة، بات محظوراً بأمر الاحتلال، تحت ذرائع "الأمن" حيناً، و"الضغط على حماس" حيناً آخر.
لكن من يدفع الثمن؟ أطفال غزة الذين فقدوا آباءهم، وأمهاتهم اللواتي ينتظرن لساعات في طوابير الإغاثة، وشيوخها الذين يقتاتون على القليل المتبقي. إن تجويع أكثر من مليوني إنسان ليس "تكتيكًا عسكريًا"، بل جريمة حرب مكتملة الأركان، تُدينها القوانين الدولية، وتحرمها كل الشرائع.
في ظل هذا المشهد المؤلم، تقف المؤسسات الإنسانية عاجزة، والمنظمات الحقوقية تكتفي بالتنديد الباهت، والهيئات الأممية تعلن "قلقها" المعتاد. أمَّا الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فهي لا تكتفي بالصمت، بل تشارك بالفعل عبر دعمها اللامحدود لإسرائيل، مالياً وعسكرياً وسياسياً. أكثر من 3.8 مليار دولار سنويًا تقدمها واشنطن لإسرائيل، فضلاً عن السلاح والمظلة السياسية في مجلس الأمن، حيث استخدمت الفيتو مرارًا لحمايتها من أي مساءلة.
ولولا هذا الدعم الأميركي السخي، لما تجرأت إسرائيل على المضي في جرائمها بهذا الشكل الفج. فهل كانت لتمنع القمح عن غزة لولا أنها تدرك أن واشنطن تقف خلفها كحائط صد؟ هذا الغطاء الأميركي لم يعد مجرد دعم، بل أصبح تفويضًا غير مباشر بالقتل والتجويع والحصار.
قصة التجويع في غزة ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى عام 2006، حين بدأ الاحتلال في تنفيذ سياسة "الحد الأدنى للبقاء"، سياسة تسمح بالعيش دون الانهيار، لكنها تضمن معاناة دائمة. اليوم، بعد خمسة أشهر من القصف والدمار، بلغت المجاعة ذروتها، وبدأ سكان غزة يقتاتون على علف الحيوانات، ويصطفون بالساعات من أجل كيس دقيق.
أمام كل هذا، نحن كعرب وكمسلمين، بل وكبشر، مطالبون بألا نصمت. يجب أن يكون هناك موقف جماهيري، إعلامي، سياسي، لمواجهة هذه الجريمة، والضغط من أجل فتح المعابر الإنسانية فورًا، والسماح بدخول المساعدات بلا قيود أو شروط. القمح ليس سلاحاً، والخبز لا ينبغي أن يُستخدم كورقة في معادلات الحرب.
وهنا، لا بد من مساءلة أولئك الذين اختاروا التطبيع، وفتحوا أبوابهم لإسرائيل، وكأنها دولة طبيعية لا تمارس الإبادة ولا تعرف التجويع. هل ما زال الوقت مبكرًا لإعادة النظر؟ هل لا يزال بإمكان هؤلاء أن يراجعوا خياراتهم بعد كل ما جرى؟ إن إسرائيل اليوم لا تترك مجالاً للحياد، فهي تفرض على الجميع موقفًا واضحًا: إما أن تكون في صف الضحية، أو في صف الجلاد.
لقد كشفت هذه الحرب عن زيف الكثير من الشعارات، وأسقطت أقنعة طالما تغنّى بها البعض باسم الواقعية أو المصالح. واليوم، نحن أمام لحظة فاصلة: إما أن نستمر في خداع أنفسنا، أو نواجه الحقيقة بشجاعة وننحاز للإنسان قبل كل شيء.
ما يجري في غزة ليس أزمة مؤقتة، بل اختبار أخلاقي للعالم كله. التجويع سياسة متعمّدة، والسكوت عليها شراكة. أما من يبررها أو يدعم مرتكبيها، فلن تعفيه حسابات السياسة من المسؤولية.
في النهاية، قد تمنع إسرائيل القمح، لكنها لن تمنع الكلمة الحرة. قد تجوّع الأجساد، لكنها لن تخنق الضمائر. واليوم، الكلمة أصبحت واجبًا، لا ترفًا. فلنكتب، ولنصرخ، ولنفضح، لأن صمتنا جريمة أخرى بحق الإنسانيَّة.
التعليقات