غزة، وعلى صغر مساحتها التي تقارب 360 كيلومتراً مربعاً، تتمتع بأكبر كثافة سكانية في العالم تقارب مليونين ونصف نسمة، وتتميز بخصائصها الجيوسياسية والمناخية التي يغلب عليها الصيف والاعتدال طوال السنة، كما تحظى بساحل يمتد على البحر المتوسط بطول يقارب 40 كيلومتراً، فيما يغلب على خصائصها السكانية الاعتدال وثقافة التسامح والتعايش المشترك والطابع التجاري والاستهلاكي، وكلها تجعل منها أنموذجاً مناسباً لتكرار الخيار السنغافوري ونموذج الريفييرا، وهي منطقة تقع على ساحل البحر المتوسط ومن أهم مدنها نيس، وتتميز بجمال طبيعتها وظروفها المناخية التي تتماثل مع غزة.
لكنَّ الاختلاف كبير بين خيار سنغافورة وريفييرا الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي يسعى إلى تحقيقها الآن بعد حرب تجاوزت السنة والنصف، اتسمت بالإبادة الشاملة وتدمير كل مقومات البقاء والحياة وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للحياة. الغاية من ريفييرا ترامب استيطانية احتلالية وترمي إلى نزع غزة من الجسد الفلسطيني وتفريغها من سكانها، وهم مصدر قوتها، وتحويلها إلى منطقة سياحية لغير سكانها. وهدفها الأساسي سياسي يتماهى مع أهداف إسرائيل بغلق كل ملفات القضية الفلسطينية، وغلق ملف غزة وشطب اسمها وإكسابها اسماً آخر. فالغاية هنا لا تتفق مع الريفييرا نفسها، وذلك بتهجير سكانها وتشتيتهم عبر دول غير متجانسة وبعيدة، وهنا الأخطر الأكبر للتهجير وهو تفكيك المفهوم الأسري المجتمعي لغزة.
اقتراح ريفييرا غزة الهدف منه خلق منطقة غريبة وفرضها على الأرض التي تحتضن الآلاف من الشهداء، والذين ستهتز بهم الأرض برفض اقتراح ترامب الغريب بشراً وسلوكاً وقِيَماً. فقيمة وعظمة غزة بهذا التجانس والتفاعل والاندماج والانصهار بين سكانها، وهذه المساحة الصغيرة، تخلق هوية متميزة متفردة تنفرد بها غزة على امتداد التاريخ، أهمها التعايش والتكامل والوحدة البشرية بين كل سكانها من مسلمين وأقباط.
وأعود لخيار سنغافورة، وهو الأقرب لخصائص غزة بكل مقوماتها وصفاتها. والسؤال هنا: لماذا لم تتحول غزة إلى سنغافورة فلسطين والعرب؟ ولماذا تحولت لحالة من الحروب مع سيطرة حماس عليها عام 2007، وبدأت تطفو صفات غير صفاتها وخيارات غير خياراتها؟ فالحرب ليست خياراً لغزة، والمقاومة المسلحة ليست من خصائص غزة، فمن منظور خصائصها الجغرافية والسكانية والاقتصادية، تصلح غزة أنموذجاً تنموياً مدنياً.
أما خيار الحرب، كما نرى في الحرب الحالية التي راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف شهيد ودمرت كل مقومات الحياة فيها، فالهدف كما الدفع بتهجير أبنائها قسراً بحثاً عن حياة جديدة. والسؤال ثانية: ما الحل والبديل والحيلولة دون الهجرة؟ والإجابة السريعة بالنموذج السنغافوري التنموي وليس فقط السياحي.
ولقد سمعت "غزة سنغافورة" من الرئيس الراحل ياسر عرفات عندما عاد ومعه "فتح" والقيادات والآلاف من الشعب الفلسطيني إلى غزة في أعقاب اتفاقات أوسلو. لحظتها أعلن أنَّ غزة ستتحول إلى سنغافورة فلسطين والعرب، مدركاً ومتفهماً أنَّ غزة تملك كل المقومات المؤهلة لذلك. ولعلي أستبق الحرب الحالية وأقول: لو نجحنا في بناء نموذج "غزة سنغافورة" لتفادينا كل الحروب والخلافات الفلسطينية، ولقدمنا للعالم أنموذجاً لفلسطين المستقبل الذي يقوم على الديموقراطية والسلام والتنمية، والكفيل بإنهاء الاحتلال، ولكانت غزة نواة للدولة الفلسطينية.
وقبل المقارنة، وما آلت إليه غزة من فقر ومجاعة وبطالة ومعاناة بشرية وحروب مدمّرة، نسأل هل تملك غزة مقومات النموذج والخيار السنغافوري الذي تحدث عنه الرئيس عرفات؟ والإجابة: نعم. ويكفي العنصر الشبابي الذي يشكل قوة الدفع لعملية تنموية بحكم التعليم أولاً.
والسؤال: لماذا لم يتحول هذا الاقتراح إلى واقع وحقيقة رغم توفر كل الظروف في البداية بانسحاب إسرائيل من غزة؟ وبعيداً عن أهداف إسرائيل التي لا تريد أن ترى أنموذجاً فلسطينياً ناجحاً ينزع منها كل المبررات بأن الفلسطينيين لا يصلحون للبناء السياسي وتغلب عليهم صفة الإرهاب والعنف، تبقى هناك قدر من المسؤولية الفلسطينية مع أول وصول للسلطة إلى غزة، واليوم مع حماس وحكمها لغزة.
لقد أتيحت الفرصة لنموذج "غزة سنغافورة" مع قدوم السلطة وتدفق مليارات الدولارات مساعدات، التي لم توظّف توظيفاً كاملاً في المشاريع التنموية والتعليمية والصحية وبناء البنية التحتية، القوة وركيزتها الإنسان التنموي المبدع، فغلبت مظاهر الفساد والطابع الأمني، لتنتهي بانقلاب حماس وسيطرتها على غزة عام 2007 وفرض الحكم الديني، لتزداد فجوة الفقر والبطالة والرغبة في الهجرة بحثاً عن العمل والأمان.
السؤال ثانية: ما البديل والحل بعد هذه الحرب المدمّرة؟ والإجابة: بالعودة ثانية للإعمار بالنموذج السنغافوري التنموي، وأساسه العنصر البشري الفلسطيني، والحفاظ على بقاء السكان، ورداً على الدعوات لتفريغ سكانها، البديل بالتنمية والحكم المدني، وإعادة تأسيس الإنسان على قيم الإنتاج والتعايش المشترك والتسامح ونبذ العنف وخيار الحرب. هذا هو الحل لغزة بـ"سنغافورة غزة الجديدة". بإنسانها الجديد.
التعليقات