في مشهد السياسة الدولية الذي يتسم بالتحول والتقلب، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في طبيعة علاقات الدول وتحالفاتها. فالتصريح الصادم الذي أدلى به السياسي الأمريكي سكوت ريتر مؤخراً، حين أكد أن الولايات المتحدة "لا تملك حلفاء وإنما أتباعاً تقوم بحمايتهم ومساندتهم عند اللزوم "، يضعنا أمام مرآة نرى فيها حقيقة العلاقات الدولية بكل وضوح: إنها علاقات مصلحية بحتة، تخضع لموازين القوى والتفاوت في ميزان التأثير.
قيادة ترسم المسار: من الرؤية إلى التطبيق
لقد أدركت قيادتنا الرشيدة هذه الحقائق مبكراً، وجسد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هذا الفهم في رؤية المملكة 2030 وسياساتها الخارجية، حين أكد أن "السياسة الخارجية السعودية تعتمد على المصالح الوطنية، لا على الأيديولوجيا". هذه العبارة التاريخية لم تكن مجرد شعار، بل أصبحت منهجاً عملياً يحكم تحركات المملكة على الساحة الدولية.
إن ما دعوتُ إليه في مقالاتي منذ التسعينيات من ضرورة تنويع العلاقات الدولية، نراه اليوم يتحقق على أرض الواقع تحت قيادة سمو ولي العهد. فالمملكة تبنى شراكات استراتيجية مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا والهند، إلى جانب علاقاتها التقليدية مع الولايات المتحدة، في نموذج عملي للدبلوماسية المتوازنة. هذا التنويع ليس مجرد خيار استراتيجي، بل ضرورة حتمية لتعزيز السيادة الوطنية وتأمين المصالح الطويلة الأمد.
بناء القوة الذاتية: أساس الاستقلال الاستراتيجي
لقد فهم سمو ولي العهد أن التحرر من التبعية يبدأ من بناء القوة الذاتية. حين قال سموه: "أصبحت لدينا حالة إدمان نفطية في السعودية، فعطلت تنمية القطاعات كثيراً"، كان يضع يده على الجرح الحقيقي. ومن هنا جاءت الرؤية الطموحة لبناء اقتصاد منتج يعتمد على "معرفة الإنسان وطاقته الإبداعية"، وتوطين الصناعات العسكرية، وتمكين القطاعات غير النفطية.
إن مشاريع نيوم والمدينة الصناعية في رأس الخير، وبرنامج التوازن المالي، ليست مجرد مشاريع تنموية فحسب، بل هي أدوات لتعزيز السيادة الوطنية والاستقلال الاستراتيجي. فهي تمثل الجانب العملي لتحرير الإرادة الوطنية من أي تأثير خارجي.
الشراكة الفاعلة: نهج القيادة
لقد نجحت قيادة سمو ولي العهد في تحويل المملكة من متلقٍ للسياسات إلى شريك فاعل في صنعها. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة رؤية استراتيجية تقوم على:
أولاً: الدبلوماسية البراغماتية التي تتعامل مع الجميع على أساس المصالح المتبادلة، بعيداً عن التحيز الأيديولوجي الذي كان يحد من خياراتنا في الماضي. فكما كتب جون بابسون في القرن التاسع عشر داعياً الشباب الأمريكي إلى "الذهاب إلى الغرب" بحثاً عن فرص جديدة، يجب على المملكة أن "تذهب إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب" لبناء شبكة علاقات دولية متوازنة ومتنوعة.
ثانياً: التنويع الاقتصادي والدبلوماسي، فكما قاد سموه تحرير الاقتصاد من الاعتماد على النفط، قاد تحرير السياسة الخارجية من الاعتماد على محور واحد. لذا فالشراكات الاقتصادية والتكنولوجية مع القوى الصاعدة، وخاصة في آسيا، حيث أصبحت الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية أقطاباً اقتصادية لا يمكن تجاهلها.
ثالثاً: قيادة تحالفات إقليمية مستقلة، فالمملكة بقوتها الاقتصادية وموقعها الجيوسياسي قادرة على تشكيل تحالفات إقليمية تحقق التوازن الاستراتيجي وتخدم مصالح دول المنطقة.
رابعاً: الاستثمار في القوى الناعمة، من خلال تعزيز الحضور الثقافي والديني للمملكة، وإبراز نموذجها الحضاري الفريد.
ختاماً، إن النهج الذي تتبناه قيادة سمو ولي العهد يمثل نقلة تاريخية في سياسة المملكة الخارجية. فهو يجمع بين الحكمة في الحفاظ على العلاقات التقليدية، والجرأة في بناء شراكات جديدة، والرؤية في بناء القوة الذاتية.
إن الاستراتيجية التي ننادي بها ليست ضد أحد، بل هي لصالح المملكة ومستقبلها. وهي استراتيجية تتفهمها واشنطن نفسها جيداً، فهي تتبع نفس النهج في سياستها الخارجية عندما يتعلق الأمر بمصالحها الوطنية.
هذا هو طريق السيادة الكاملة، وهذا هو نهج القيادة الحكيمة التي تضع مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات. فتحية لقيادتنا التي جعلت من المملكة نموذجاً للدولة العصرية التي تحافظ على ثوابتها مع انتهازها فرص العصر، وتوازن بين الأصالة والمعاصرة في سياستها الخارجية. هذا هو الطريق الذي يضمن لمملكتنا الحبيبة سيادتها الكاملة، ويحقق مصالحها الاستراتيجية، ويضعها في المكانة اللائقة بها على خريطة العالم في القرن الحادي والعشرين.
فكما قيل: "اذهب إلى الغرب أيها الشاب"، نقول اليوم: "اذهب إلى العالم كله أيها الوطن، بثقة واقتدار وحكمة".






















التعليقات