مهند سليمان من المنامة: بكلمات مملوئة بالحزن والصبر والأمل والشفاء اعلن رئيس تحرير صحيفة الوطن البحرينية (سادس صحيفة محلية بحرينة) محمد البنكي لقرائه اليوم خبر إصابته بمرض العصر quot; السرطانquot; باحثا عن دعائه ووقفهم معه في محنته التي بدأت قبل أسبوعين بعد ان اكتشف انه مصاب بالسرطان في القولون. البنكي وهو احدث رؤساء تحرير البحرين في الصحافة تقدمة في صفحة كاملة بجريدته بالشكر إلى عاهلا البحرين والسعودية لأمرهما السامي ‮ بعلاجه بمستشفى الملك فيصل التخصصي‮ ‬بالرياض وتقديم جميع ما‮ ‬يلزمه من علاج‮.‬

رئيس التحرير وهو احد الكتاب البحرينيين الذين لهم بصماتهم في الثقافة كانت كلماته التي سطرتها بقلمه موجعة ومحزنة للقارئ حيث صارت حديث الشارع البحريني اليوم الجمعة فقد رؤى اللحظات الأولى من إبلاغه بالمصيبة والبلاء وكيف استطاع ان يعلم زوجته وأبنائه ومحرري الصحيفة quot; أظنها أيام قليلة تلك التي‮ ‬تفصلني‮ ‬الآن عن الملاءات البيضاء والمضادات الحيوية والأربطة المعقمة وأجهزة التخطيط وقياس الضغط وأنابيب نقل الدم وأسلاك القسطرة لكنني‮ ‬في‮ ‬مزاج إيجابي‮ ‬استمد قوتي‮ ‬من التوكل على الله وحث طاقتي‮ ‬الحيوية على المقاومة ومن الدعوات التي‮ ‬يغمرني‮ ‬بها الأهل والأصدقاء والمحيطين‮. ‬مازلت أستطيع أن أحلم وأن أستدعي‮ ‬صور الشفاء‮. ‬وسأنتظر رحمة الله ولطفه بوجدان صابر محتسب،‮ ‬سأنتظر إلى أن‮ ‬يخرج من دواليب المطبعة ذات فجر قادم عدد جديد من صحيفة الوطن،‮ ‬يعيدني‮ ‬إلى المساهمة مع بقية الأصدقاء من أسرة الوطن في‮ ‬مصافحة‮ ‬يد القارئ بصفحات جديدة بين سطورها نستأنف انجاز حلمنا المشتركquot;.

رئيس التحرير البنكي هذا ماقاله لقرائه :
ا هو الكلام الذي‮ ‬ينقش على محاجر العيون بأبلغ‮ ‬مما تقوله كل ألفاظ الأرض؟‮ ‬
قد‮ ‬يجد كل قارئ أجابته الخاصة عن مثل هذا السؤال،‮ ‬إلا إنني‮ ‬وجدت تلك الفصاحة،‮ ‬كأبلغ‮ ‬ما تكون،‮ ‬في‮ ‬عين استشاري‮ ‬المناظير بمستشفى ابن النفيس الدكتور بتيل المسمّرة علي‮ ‬عيني‮ ‬حين أخبرني،‮ ‬للمرة الأولى،‮ ‬أنني‮ ‬مصاب بالسرطان‮. ‬لم تغادر أحداقه أحداقي‮ ‬وهو‮ ‬يستعد لإطلاق الخبر بلحظة صمت طويلة‮. ‬بدت عيناه،‮ ‬من خلف النظارة الطبية الأنيقة،‮ ‬كما لو قد جمعت خبرة السنين كلها وجاءت لكي‮ ‬تستودع النبأ في‮ ‬أغوار بؤبؤي‮ ‬بتؤدة تستحث ضرورة الارتفاع إلى مستوىشجاعة أولئك الذين اختارهم هذا المرض العنيد لمنازلات باهرة‮. ‬عينا الدكتور بتيل في‮ ‬عيني،‮ ‬وكل ما حول هذه النظرات باهت ويغور في‮ ‬الهشاشة‮. ‬قررت لحظتها،‮ ‬بارتجال خاطف،‮ ‬أن لا أفرغ‮ ‬نظراتي‮ ‬من صلابتها وإيمانها واعتدادها بنفسها‮. ‬طاف في‮ ‬خاطري‮ ‬ما الذي‮ ‬سأقوله لزوجتي‮ ‬التي‮ ‬تنتظر خروجي‮ ‬من‮ ‬غرفة العمليات‮. ‬الثبات والتطمين مطلوبان،‮ ‬ولكن هل عرفت هي‮ ‬شيئا قبل خروج نقالتي‮ ‬السريرية من‮ ‬غرفة العمليات؟‮ ‬هل تسلل الخبر إليها بنحو ما؟‮ ‬كيف سأطل عليها لتبادرني‮ ‬بعبارتها الخيرة‮: ''‬حمداً‮ ‬لله على السلامة‮''. ‬وأي‮ ‬سلامة بعد تمكن الخبيث في‮ ‬الأحشاء؟‮!‬
لم‮ ‬يكن لدي‮ ‬وقت طويل للتفكير‮. ‬خرجوا مسرعين كأنما‮ ‬يهرولون بسريري‮ ‬المتحرك على عجلات لا تكف عن الصرير‮. ‬وقعت النظرة على النظرة وقالت زوجتي‮: ''‬حمداً‮ ‬لله على السلامة‮''. ‬ساورني‮ ‬إحساس عميق بأنها تعرف كل شيء‮. ‬أبلغتها بأنه السرطان‮. ‬تظاهرت بالقوة مجيبة‮: ‬وماذا‮ ‬يعني؟ الحمد لله على كل حال‮. ‬سنتجاوز ذلك بإذن الله‮. ‬أنا واثقة‮.‬
خرجنا من المستشفى لتبدأ الرحلة بين أشعة الـ‭ ‬CT‮ ‬وأشعة الـ‮ ‬MRI‮ ‬ومعاينات المناظير ومراجعات الاستشاريين‮. ‬التقمتني‮ ‬بطون الآلات الضخمة تروح وتجئ لتمسح جسمي‮ ‬المحقون بصبغة الباريوم في‮ ‬الوريد،‮ ‬والمواد الملونة في‮ ‬الأحشاء،‮ ‬وإبر سحب الدم،‮ ‬وأجهزة التخطيط‮. ‬أصبحت كائنا مشعاً‮ ‬لكثرة ما اخترقني‮ ‬من موجات رنين مغناطيسي‮ ‬وأشعة إكس وما لا أعرف من موجات ضوئية وصوتية‮.‬
كنت محتشداً‮ ‬باستحضار رفاق المعاناة نفسها من أصدقاء الفكر والكلمة الذين مروا بمحطات هذا المرض فافترسوه بالكتابة حتى آخر مقاومة إدوارد سعيد،‮ ‬جاك دريدا،‮ ‬عبدالوهاب المسيري،‮ ‬محمد شكري،‮ ‬سعدالله ونوس،‮ ‬علام القائد،‮ ‬نعمات البحيري،‮ ‬هاني‮ ‬الراهب وغيرهم‮.‬
قبل أيام قليلة من اكتشافي‮ ‬للمرض كتبت،‮ ‬للمفارقة،‮ ‬عن معاناة علام القائد مع السرطان وإبر البنسلين والمورفين والأسبرين وانعكاس ذلك في‮ ‬بعض قصائده التي‮ ‬لم تنشر حتى وفاته‮.‬

البنكي وأبنائه

أربعة أبناء طافوا مخيلتي‮ ‬بكثافة أول ما علمت بالنبأ‮. ‬في‮ ‬الساعة الأولى احتضنت كل منهم وأغمضت عيني‮ ‬ولم أفكر بشيء‮. ‬في‮ ‬الساعة الثانية تبلورت قناعتي‮ ‬تماما بأن من البداهة أن أصارحهم بكل شيء،‮ ‬رغم سنين عمرهم الغضة‮. ‬معرفتهم المبكرة ستساعدهم على التكيف والتعايش بشكل أفضل‮. ‬في‮ ‬كل الأحوال ذلك أجدى من أن تتكون معارفهم حول المرض من تَسْقُط كلمة هنا،‮ ‬والتقاط عبارة من مكالمة هاتفية هناك،‮ ‬وبناء استنتاج من ربط عشوائي‮ ‬بين حقائق وأوهام وأحاديث وتصورات تغوص وتطفو دون ضابط أو رقيب‮.‬
أعددنا للأمر عدته،‮ ‬أنا وزوجتي‮. ‬انطلقنا بالأولاد إلى برنامج اسري‮ ‬جماعي،‮ ‬افتتحناه بغداء مرح في‮ ‬أحد مطاعم المجمعات‮. ‬بعد تناول وجباتنا بادرنا في‮ ‬السيارة إلى إجراء تصويت على المقترحات المطروحة لبقية النزهة،‮ ‬واستقر الأمر على اختيار أحد الكافيهات الجميلة لتناول العصائر والآيسكريم‮. ‬في‮ ‬الغرفة التي‮ ‬اكتريناها لحساب الأسرة وحدها بدأت بالحديث،‮ ‬وتداخلت معي‮ ‬كاميليا‮.. ‬أدرنا الدفة بحيث‮ ‬يستغرقنا الحديث تدريجيا لقول كل الحقائق‮: ‬السرطان هو اختلال في‮ ‬نظام استنساخ خلايا الجسم البشري‮. ‬وكما‮ ‬يحدث في‮ ‬آلة‮ ''‬الفوتوكوبي‮'' ‬يصاب الجسم البشري‮ ‬أحيانا بخلل في‮ ‬نظام تكاثر الخلايا،‮ ‬فبدل أن تنسخ الخلية إلى خليتين،‮ ‬يرتبك النظام فتتكاثر خلايا متعددة من خلية واحدة‮. ‬هذا‮ ‬يحدث في‮ ‬آلة النسخ،‮ ‬نضع ورقة واحدة فنفاجأ بأن الآلة تنسخ عشرات النسخ،‮ ‬ولا سبيل في‮ ‬هذه الحالة إلا إيقاف الآلة وإعادة نظام الاستنساخ إلى طبيعته‮. ‬قلت للأولاد ببساطة أن هذا بالضبط هو ما‮ ‬يحدث معي‮. ‬ثمة انتشار لخلايا خارجة على النظام في‮ ‬جسمي،‮ ‬ومثلما نفتح بطن الآلة الناسخة لنستخرج أوراق تتجعلك في‮ ‬الداخل لتربك نظام النسخ السليم فإنني‮ ‬احتاج إلى عملية صغيرة مشابهة لإعادة النظام إلى طبيعته أيضا‮.‬
حرصنا أن نرسخ لدى لطيفة وجاسم وفاطمة وروان أن هذا الظرف هو منحة وليس محنة،‮ ‬لأن الابتلاء رحمة من الله،‮ ‬وفي‮ ‬الابتلاء خير كثير‮. ‬وأعتقد إننا قد نجحنا في‮ ‬وضع استجاباتهم تجاه الأمور في‮ ‬الطريق الصحيح‮.‬
قضينا أيام ونحن في‮ ‬حالة صخب وطلعات مكثفة وأنشطة أسرية متعددة،‮ ‬كنا نحاول،‮ ‬بين السفرة والسفرة إلى مركز الملك فيصل التخصصي‮ ‬للأورام،‮ ‬أن نشبع أبناءنا عاطفيا ونهيئهم لغيابٍ‮ ‬في‮ ‬العلاج قد‮ ‬يطول‮. ‬وحين انهمكنا في‮ ‬تحضيرات السفر إلى ألمانيا كان علينا،‮ ‬أنا وزوجتي،‮ ‬أن نلتقط صوراً‮ ‬فوتوغرافية شخصية للحصول على فيزا‮ ''‬الشنجن‮''. ‬في‮ ‬الطريق إلى الأستوديو،‮ ‬وقبل أن نهم بالنزول،‮ ‬اقترحت كاميليا مقترحا وهي‮ ‬تصوب النظر نحوي‮: ‬لماذا لا نأخذ صورة أسرية جماعية؟‮ ‬تواطأت معها على تحقيق ذلك‮. ‬وانتظمنا في‮ ‬أوضاع مختلفة ما بين جلوس ووقوف أمام ومضات الفلاش والتعليقات والضحكات‮. ‬وعند لحظة مدببة من لحظات الزمن،‮ ‬بين التحضيرات،‮ ‬ملت برأسي‮ ‬إلى زوجتي‮ ‬هامسا‮: (‬ربما سيكون لهذه الصور دلالة‮ ‬غير قابلة للتكرار ذات‮ ‬يوم‮). ‬تصوبت عيني‮ ‬في‮ ‬عينها بعد هذه العبارة مباشرة‮. ‬اخترقت النظرات بعضها بعمق،‮ ‬أطبق صمت رهيب،‮ ‬والتمع وميض باهر،‮ ‬أقوى من وميض كل الفلاشات،‮ ‬ثم ارتد طرفه حسيراً‮ ‬على طوايا النفوس‮. ‬وعدنا إلى صخبنا الأسري‮ ‬البهيج‮. ‬كأن شيئا لم‮ ‬يكن‮.‬
؟؟؟
بعد أيام،‮ ‬وفي‮ ‬غمرة المراجعات بين مستشفى الحرس الوطني‮ ‬والمستشفى التخصصي‮ ‬للأورام،‮ ‬اكتشفت أنني‮ ‬مطلق السراح‮. ‬لا مواعيد ولا مراجعات طبية لمدة ثلاثة أيام‮. ‬عدت وزوجتي‮ ‬إلى الفندق بالرياض‮. ‬وبدرت فكرة قدح زنادها هاتف تلقيته‮: ‬لماذا لا تذهبون إلى العمرة؟‮! ‬هذا هو وقت التضرع إلى الله وشكره على البلاء إذن‮. ‬كنت أعرف مدى تشوق أم جاسم لتأدية العمرة منذ فترة،‮ ‬فقد مضت سنتان على آخر عمرة قضينا مناسكها،‮ ‬تهلل وجهها فرحاً‮ ‬حين طرحت الاقتراح‮. ‬وشعرت في‮ ‬داخلي‮ ‬بأنني‮ ‬احتاج إلى هذه الخطوة فعلاً،‮ ‬وهكذا شددنا الرحال في‮ ‬سيارة حين عزّ‮ ‬علينا العثور على رحلة طيران في‮ ‬الويك إند‮. ‬ارتديت الإحرام،‮ ‬ومرفوقا بدعوات المشايخ التي‮ ‬تتوالي‮ ‬مسجاتها على هاتفي‮ ‬يممنا وجهنا شطر المسجد الحرام‮. ‬كنت استعرض دعوات الشفاء التي‮ ‬تردني‮ ‬تباعا‮: ‬الشيخ المربي‮ ‬الفاضل عيسى بن محمد آل خليفة،‮ ‬أستاذي‮ ‬الشيخ عبداللطيف آل محمود،‮ ‬ءخي‮ ‬الحبيب الشيخ عادل المعاودة،‮ ‬الشيخ محمد خالد،‮ ‬سيد ضياء الموسوي،‮ ‬الشيخ إبراهيم بوصندل،‮ ‬الشيخ إبراهيم الحادي،‮ ‬الأخ عبدالرحمن فلاح،‮ ‬الشيخ محسن العصفور،‮ ‬الدكتور سمير فخرو،‮ ‬الدكتور صلاح علي،‮ ‬الدكتور خالد بوقحوص،‮ ‬الدكتور علي‮ ‬أحمد،‮ ‬الأخ إبراهيم بوجيري‮ ‬وغيرهم‮. ‬وما بين تلبية وتهليل وتكبير قطعت بنا السيارة الفيافي‮ ‬والقفار حتى اكتحلت الأعين بالكعبة المشرفة وتمتمت الشفاه‮: ''‬اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة،‮ ‬وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره،‮ ‬تشريفا وتكريما وبراً‮''. ‬كانت أسئلة الأقارب والأحباب الذين‮ ‬يهاتفوننا طوال الطريق تتساءل في‮ ‬اختلاج وخشية‮ ''‬هل سيقوى محمد على الطريق وأداء المناسك؟ هل ستكون حالته الصحية على ما‮ ‬يرام؟‮'' ‬لذلك حرصت على أخذ الأمر بالعزيمة والقوة،‮ ‬طفت وسعيت ولم أترك الهرولة،‮ ‬وشربت من زمزم حتى تضلعت‮. ‬وساورني‮ ‬يقين عميق بأن الله سيأخذ بيدي‮ ‬نحو الشفاء وأن دعواتي‮ ‬ودعوات الأهل والمحبين ذخيرة مستجابة إن شاء الله‮.‬

المحررون في الجريدة وصدمة المرض

كيف أخبر الزملاء والأصدقاء في‮ ‬الجريدة بأنني‮ ‬سأغيب عنهم ومبرري‮ ‬هو السرطان؟‮ ‬اعتقدت إن هذا السؤال شديد الترف حين قررت أن أحضر معهم اجتماع رؤساء الأقسام وأفاتحهم مباشرة كما جرت العادة بيننا في‮ ‬كل الأمور،‮ ‬حتى أصغر التفاصيل‮.‬
ما‮ ‬يحدث معي‮ ‬دائما في‮ ‬قاعة الاجتماعات هو نوع من فيضان الحب المتبادل‮. ‬فقد أسسنا مشروع‮ ''‬الوطن‮'' ‬معا،‮ ‬وكلما التقت شعرنا بأننا أصدقاء نهجس بالأجمل في‮ ‬مشوار العطاء ولم نتصرف معا كرئيس ومرؤوس قط‮! ‬لم أخطط لما سأقوله‮. ‬فقط التقيت عيني‮ ‬في‮ ‬عين كل واحد منهم ولم أبذل جهدا طويلا للوصول إلى المصارحة،‮ ‬رغم إنني‮ ‬حرصت أن تكون عابرة في‮ ‬غضون جدول أعمال الاجتماع‮: ''‬لقد كشفت التحاليل الطبية عن إصابتي‮ ‬بسرطان القولون،‮ ‬حالتي‮ ‬هي‮ ‬كذا وكذا،‮ ‬سأغيب عنكم لبعض الوقت وأنا واثق تماما بأنكم ستسيرون الجريدة بأفضل مما نفعل الآن لأن عطائكم سيكون مضاعفا لسد أي‮ ‬نقص‮.