دعوات ملحة لبدء تقييم شامل للاضرار
البيئة... ضحية لبنان في الحرب مع إسرائيل
بيروت*: في اطار النزاع المسلح الاخير الذي شهده لبنان، يبرز التسرب النفطي الذي نجم عن ضرب خزانات الوقود في مصنع الجية الحراري، جنوب بيروت، كأسوأ العواقب البيئية الظاهرة للعيان جراء القصف. ويهدد هذا التسرب على المدى القصير والبعيد البيئة البحرية والساحلية في لبنان وجنوب ساحل سوريا. ودعت منظمة غرينبيس في بيان تسلمت ايلاف نسخة عنه إلى ضرورة البدء فورا في وضع تقييم كامل لآثار الحرب على البيئة وتخصيص مواقع مناسبة للتخزين المؤقت السليم لنفايات خطرة أخرى ناجمة من النزاع المسلح. ولفتت المنظمة إلى مخاطر التسرب النفطي مشددة على الحاجة الملحة لسحب أكبر كمية ممكنة من مادة الفيول للحد من أضراره. كما شددت المنظمة على ضرورة وضع تقرير شامل لمدى فداحة اضرار التسرب النفطي.
غير ان الفيول ليس المادة الكيميائية الوحيدة التي انبعثت من المنشآت المتضررة ابان الحرب. بالتالي، يبدو تحديد طبيعة وانتشار كافة المواد الكيميائية الاخرى المنبعثة بكثرة وضمان سلامة اي مستودعات اصيبت بالاضرار، أولوية قصوى جوهرية في اطار تضافر جهود الجميع في سبيل وضع تقييم لاثار الحرب على البيئة، على غرار ما اجري في البلقان، وافغانستان، العراق، والاراضي الفلسطينية. اما عمليات الحد من الاضرار وسحب الفيول التي بدأت في الاسبوع الاول على سريان وقف اطلاق النار، فما زالت تنقصها المعدات والخبرات الملائمة ومنشآت التخزين السليم للفيول الذي تم ويتم جمعه.
ويلفت د. ديفيد سانتيو من مختبرات غرينبيس في جامعة أكستر في بريطانيا في تقرير مصغر وضعه في 15 آب (أغسطس) الجاري، إلى الحاجة إلى تقييم التلوث البيئي الناجم عن النزاع المسلح الذي نشب مؤخراً بين لبنان وإسرائيل.
تُعتبر البيئة ضحية حتمية في أي نزاع مسلح. فبعد مرور وقت طويل على وقف إطلاق النار والقصف، يظل البشر، ومثلهم الحيوانات، يعيشون انعكاسات الضرر الذي يلحق بالبيئة الطبيعية والمدينية، سيّما وأنه ضرر قد يستحيل في بعض الحالات إبطاله عملياً. الواقع أن المنشآت والمرافق الصناعية، كمحطات توليد الكهرباء ومخازن الوقود، ومعامل تكرير المياه ومنشآت تجميع النفايات أو إتلافها، قد تشكل تحديداً مصدراً بؤرياً فعلياً (وإن لم يكن الوحيد) للتلوث الكيميائي الخطير، سواء أتم استهداف هذه المنشآت والمرافق بالأسلحة عمداً أو تضررت عن غير قصد. فقد يتسرب النفط وغيره من المواد الكيميائية المحفوظة في صهاريج التخزين أو البراميل أو غيرها من المستوعبات، ما من شأنه أن يلوّث المياه والهواء والتراب ويؤدي بالتالي إلى تلوث البيئة والموارد الطبيعية الحيوية؛ بل إن هذا التلوث قد يستمر لأشهر أو حتى لسنوات عدة. وفي حال تسرّبت الملوّثات إلى المياه الجوفية، يمكن للتلوث أن يدوم عشرات السنين.
في ما يتعلق بالنزاع الأخير، يشكل تسرب النفط من المعمل الحراري للطاقة ومن خزانات الوقود في الجية ndash; جنوب لبنان ndash; واحداً من تداعيات هذا النزاع الأكثر تجلياً، كما أنه يشكل تهديداً للبيئة البحرية الساحلية في لبنان وجنوب ساحل سوريا على المدى الطويل والقصير أيضاً. أضف إلى ذلك أن تسرب النفط هذا قد شكل على نحو يمكن استيعابه محور الاهتمام الوطني والدولي الأعظم إلى يومنا هذا في ما يتعلق بالجهود الحثيثة التي تبذل من أجل تلطيف حدة التداعيات وإزالتها بشكل تام. إنما لا شك في أن زيت الوقود ليس العامل الكيميائي الوحيد الذي تسرب من المنشآت المتضررة بفعل النزاع. ومن الضروري بالتالي أن يلحظ التقييم المنسّق لمرحلة ما بعد النزاع في أولوياته تحديد طبيعة وحجم التسريبات الكيميائية الأخرى الملحوظة، والحفاظ على سلامة ما تبقى من مرافق التخزين المتضررة ما إن يصبح إجراء هذا التقييم ممكناً وآمناً، وذلك على غرار التقييمات التي أُجريت من قبل في البلقان وأفغانستان والأراضي الفلسطينية المحتلة.
أضف إلى ما تقدم أن الحرائق تشكل هي أيضاً نتيجة حتمية لاستخدام الأسلحة والذخائر الحربية في مناطق مدنية أو صناعية. والواقع أن الحرائق التي تشب في منشآت تخزين الوقود والمواد الكيميائية قد تكون خطيرة جداً بحيث تطال أخطارها فرق الإطفاء وأيضاً السكان في المناطق المجاورة المعرضين لدخان الحرائق والغازات المنبعثة. وبغض النظر عن التخزين أو الضبط الجيد لكميات كبيرة من المواد الكيميائية في ظل الظروف العادية، فإن هذه المواد قد تتسبب، جراء الانفجارات أو اندلاع الحرائق، بتفاعلات لا يمكن ضبطها، لا بل ويستحيل التنبؤ بها. فقد تنبعث مجموعة كبيرة ومتنوعة من الغازات والأبخرة السامة والأكالة تتفاوت بحسب مزيج المواد الكيميائية وغيرها من المواد، كما قد تتلبّد السماء بسحب كثيفة من الرماد والدخان المؤذي المحمّل بالجسيمات والدقائق.
هذا وقد يكون الخطر المباشر المتمثل بالغازات السامة التي تحملها الريح من حريق كيميائي، كأول أكسيد الكربون وسيانيد الهيدروجين وكلوريد الهيدروجين وأكسيد الكبريت والنتروجين والأبخرة المنبعثة من المنتجات الكيميائية غير المحترقة، حاداً إنما قصير الأمد نوعاً ما باعتبار أن الغازات تتبدد إلى مستويات تكثيف متدنية نسبياً مع مرور الوقت.
في المقابل، يمكن للملوّثات الأخرى، وعلى وجه الخصوص تلك المرتبطة بجزيئات السخام والرماد والمشتملة ربما على مواد كيميائية نشأت بفعل الاشتعال غير التام لمواد أخرى، أن تدوم لوقت أطول بكثير، الأمر الذي يؤدي إلى تلوث بيئي طويل الأمد ويترك حياة البشر والحيوانات البرية عرضة للأخطار حتى بعد مرور وقت طويل على إخماد الحريق. فعلى سبيل المثال، يشكل الاحتراق المفتوح وغير المضبوط للكيميائيات وغيرها من المواد، ولا سيّما في الحرائق التي تطال مواداً كيميائية معالجة بالكلور (كبعض المواد المذيبة والمبيدات وغيرها من المواد الكيميائية الصناعية) أو مواداً بلاستيكية (ككلوريد البوليفينيل) ظرفاً مثالياً لتكوّن مركبات الديوكسين والفيوران المكلورة. والواقع أن هذه المركبات الكيميائية السامة والمسرطنة لا تزول بسهولة، كما أنها قد تتراكم في أنسجة الجسم، لا بل وتنتقل من جيل إلى آخر. هذا وتشكل مجموعة متنوعة من الهيدروكربونيات العطرية المتعددة الحلقات والمسببة لأمراض السرطان ملوثات شائعة في السخام والرماد المنبعثين من مثل هذه الحرائق. كذلك تُعتبر الجسيمات في الدخان، ولا سيّما تلك الموجودة في أصغر الجزيئات الدقيقة (أقل من 10 آلاف جزء من الميليميتر) خطيرة بحد ذاتها في حال تم استنشاقها، ولا سيّما من قبل أفراد يعانون أصلاً مشاكل في التنفس.
وعلى الرغم من أن الاهتمام انصب تحديداً على الضرر الفعلي في معمل الجية الحراري، إلا أن معلومات غير مؤكدة من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (تحديث بيئي رقم 2، بتاريخ 4 آب/أغسطس 2006) تشير إلى أن ضرراً بالغاً قد لحق بالمعمل الحراري ومصفاة التكرير في الزهراني وبمخازن للوقود في مناطق أخرى، فضلاً عن الضرر الذي أصاب عدداً من المرافق والمنشآت الصناعية في أنحاء مختلفة من الأراضي اللبنانية. وتشمل المرافق المتضررة معملاً للمواد البلاستيكية في صور (يُستخدم فيه مركب كلوريد الفينيل المستقل الجزيئات المعالج بالكلور والمسبب لأمراض السرطان، بالإضافة إلى مواد كيميائية أخرى)، وأقسام من شبكة الإمداد بالطاقة قد لا تزال تحتوي على الملوثات العضوية الدائمة المعروفة بمركبات البيفينيل المتعددة التكلور والمستخدمة كموائع للمحوّلات، ومرافق معالجة مياه الشفة ومياه المجارير التي انبعث منها ربما غاز الكلور المفاعل والحات البالغ السمّية، بالإضافة إلى مصنع لمعالجة المواد الغذائية في بعلبك ربما أدى تضرره إلى تسرب غاز النشادر المسبب للاختناق وتلوث المجاري المائية المجاورة. ولم تتوافر حتى الآن معلومات عن الأضرار المحتملة التي لحقت ربما بمنشآت أخرى وبمواقع تلف وتخزين النفايات الخطيرة وما شابه ذلك، علماً بأنه لا ينبغي بنا أن ننسى أن التحديث الحالي لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية/برنامج الأمم المتحدة للبيئة لا يتجاوز التقييم الأولي الذي يرتكز بشكل رئيس إلى المعلومات الواردة في التقارير الصحفية والمصادر الإلكترونية على شبكة الإنترنت، والواجب تثبيتها بالحقائق الميدانية.
أضف إلى ما تقدم أنه حتى في ظل الغياب الظاهري لمخازن المواد الكيميائية الخطيرة، يمكن للحرائق التي تندلع في الأبنية والمناطق المدنية وتصعب السيطرة عليها أن تولّد وتطلق كميات كبيرة من الغازات والجسيمات السامة المنبعثة بفعل احتراق الأثاث ومواد البناء.
وكما ذكرنا آنفاً، يرتبط المزيج المحدد من المواد الكيميائية غير المشتعلة أو المشتعلة جزئياً، المنبعثة من منشأة صناعية أو مرفق أو بناء متضرر، ارتباطاً وثيقاً بطبيعة الكيميائيات أو المواد المتوافرة، وبظروف اندلاع الحريق ووجود أو غياب الإجراءات الملائمة لضبط التلوث في الموقع (كأنظمة تجميع التسريبات النفطية والسدود). وقد يكون من المستحيل تقريباً التنبؤ فور اندلاع الحريق بأنواع وكميات المواد الكيميائية الخطيرة المتسربة إلى الهواء والمياه والتراب، لا سيّما إن كانت قلة من المعلومات فقط متوافرة حول أنواع وكميات المواد التي استهدفها الحريق. وطالما أن هذا ما تكون عليه الحال عموماً، يرتبط بالتالي تحديد مستوى ونطاق التلوث الذي يلحق بالبيئة المجاورة على المدى الطويل بتحليل مفصّل لعينات من المياه والتراب والرماد وبقايا الغبار بعد إخماد الحريق. وباعتبار أن حرارة النار يمكن أن تحمل الجسيمات وغيرها من الملوثات إلى مستويات مرتفعة في الجو، قد تنتقل نسبة منها وتعود لتستقر على الأرض في مكان بعيد عن الحريق نفسه. وقد يحدث بعد ذلك أن تنتقل جزيئات الرماد والغبار الملوثة إلى مناطق أوسع نطاقاً بفعل الرياح والأمطار.
وفي ما يتعلق بمختلف التسريبات الكيميائية والحرائق الرئيسة الناجمة عن النزاع، وعلى وجه الخصوص تلك المرتبطة بمصانع أو مرافق أو منشآت تخزين كيميائية معروفة، تتجلى الحاجة الملحة إلى إجراء تقييم مستقل للتلوث الناجم واتخاذ تدابير فورية إذا أمكن ذلك بغية إزالة و/أو احتواء المواد الكيميائية الخطيرة والمواد الملوّثة التي يمكن أن يصبح الأفراد والحيوانات والموارد الطبيعية (ولا سيّما السطح والمياه الجوفية) عرضة لها. ولا بد أيضاً من أن تُعطي الأولوية لتوصيف واحتواء الرواسب الكيميائية على نحو ملائم، بما في ذلك تلك المتجمّعة في حاويات متضررة، وذلك بهدف الحؤول دون حدوث المزيد من التسريبات أو التفاعلات غير المضبوطة في البيئة. ومن الضروري في هذا الإطار إقفال المواقع الصناعية و/أو المدنية التي تعرضت لمستوى عال من التلوث بفعل التسريبات الكيميائية أو الحرائق، بغية الحؤول دون وصول الأطفال والحيوانات وغيرها إلى تلك المواقع، بالإضافة إلى بذل الجهود الحثيثة لتنظيف هذه المواقع وتصويب أوضاعها. هذا وينبغي اتخاذ التدابير اللازمة التي تحول دون اقتراب العامة من الحاويات الملوثة وغيرها من المواد كي لا يُعاد استخدامها على نحو يعرض البيئة لمزيد من المخاطر الكيميائية.
من الضروري في الواقع إجراء تقييم تفصيلي لمدى الضرر الذي لحق بالبيئة في المنطقة وما نجم عن ذلك من مخاطر تهدد سلامة الحيوانات البرية والبشر والموارد الطبيعية، على أن يشكل هذا التقييم أولوية ملحة بالنسبة إلى مساعي الإغاثة على المستوى الدولي، أقله لأن هذا الضرر قد يتفاقم مع مرور الوقت إن لم يتم التحقق منه. وفضلاً عن المفاعيل المباشرة للتسريبات الكيميائية والحرائق المشار إليها أعلاه، يُتوقع أن نشهد في خلال الأسابيع والأشهر المقبلة مزيداً من الأضرار البيئية بفعل النزوح الكثيف للسكان ونتيجة للضرر والدمار الذي لحق بالبنى التحتية الحيوية، ولاسيّما تلك المخصصة لتزويد العامة والشركات الصناعية بالوقود والمياه والنقل وأنظمة معاجلة النفايات ومياه المجارير. وبالتالي، فإن أهمية هذه التأثيرات، وأيضاً تلك التي يمكن أن تنجم عن المواد الخطيرة التي تشتمل عليها الأسلحة والذخائر الحربية نفسها، ستشكل بحكم الضرورة جزءاً من التقييم المنسّق لمرحلة ما بعد النزاع الذي يشكل حاجة ملحة.
*لمزيد من المعلومات، الصور او المقابلات:
عمر النعيم، المسؤول الاعلامي، غرينبيس المتوسط
مكتب: 665 755 1(0) 961+
خليوي: 100 755 3(0) 961+
[email protected]
التعليقات