لقاء محسن مخملباف وامير نادري بكيم دونغ المدير السابق لمهرجان بوسان في كوريا الجنوبية.

خصص عرض افتتاح تظاهرة الأفلام الكلاسيكية في الدورة 73 لمهرجان فينيسيا السينمائي لفيلم المخرج الايراني محسن مخملباف "ليالي شارع زايندة" المنتج عام 1990.

جاء ذلك بعد أن تمكن المخرج من استعادة وترميم نسخته التي ظلت مخزونة في أقبية الرقابة الإيرانية نحو أكثر من ربع قرن.

وبدت بادرة غير مسبوقة أن يختار مدير المهرجان الفني البرتو باربيرا فيلم المخرج الإيراني المعاصر والذي لم يصل بعد الستين من العمر لافتتاح تظاهرة تضم أفلاما مستعادة ومرممة لعدد من رموز السينما وبناتها، من أمثال أندريه تاركوفسكي وأكيرا كيراساوا ولوي مال وديفيد لينش وودي الن وغيرهم ممن ستعرض أفلامهم في هذه الدورة.

وشكل هذا الفيلم بدايات الخلاف بين مخملباف ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران الذي كان هو من أشد المدافعين عنه، وبداية مخاض طويل من التحول انتهى بترك مخملباف لبلادة والانتقال للعيش في المنفى الاختياري بعد وصول الرئيس الايراني السابق أحمدي نجاد إلى السلطة.

وبات مخملباف يوصف اليوم بالمخرج المتمرد على النظام الحاكم في طهران وأحد اعدائه بعد أن كان يوما ما جزءا من بنيته.

فمخملباف المولود في مايو/أيار عام 1957 في إحدى ضواحي جنوب طهران الفقيرة، انتمى في سن المراهقة إلى جماعات المعارضة السرية ضد حكم الشاه، وحكم عليه بالسجن وهو في الـ 17 من العمر بعد طعنه شرطي، حيث قضى في السجن نحو خمس سنوات قبل أن يطلق سراحه بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران.

هذه التجربة العنيفة من الجانبين -فعل العنف الذي قام به والعنف الذي مورس ضده وهو صبي في أقبية التعذيب- كان لها بالغ الأثر في خيارات مخملباف اللاحقة وتحولاته الفكرية ورفضه وادانته المتكررة للعنف وجذورة في ثقافة المجتمعات الشرقية.

كما كان لتجربة السجن أيضا أثر كبير في تطوره الفكري، ولعل من ثمارها تعرفه على السينما التي كان يدرسها نظريا ويثقف نفسه بها أثناء سجنه الى جانب النضج السياسي الذي وفرته معايشة السجناء السياسيين المعارضين الآخرين لحكم الشاه حينها.

وقد انضم مخملباف بعد عام 1979 إلى "منظمة مجاهدي الثورة الاسلامية" التي مثلت التيار الاسلامي المتشدد في مواجهة الاتجاهات الليبرالية واليسارية في إيران وجناح أول رئيس إيراني بعد الثورة، أبو الحسن بني صدر.

وهكذا بدأ مخملباف حياته في ماكنة الاعلام الدعائية للنظام في ايران بعد الثورة الإسلامية، وقدمت أفلامه الأولى رسائل دعائية مباشرة، كما هي الحال مع فيلمه "توبة نصوح" عام 1983.

وراح مخملباف يظهر نضجا تدريجيا في الوعي أو في دربته واتقان أدواته الفنية في النصف الثاني من الثمانينيات، ولفت الانتباه إليه بعدد من الأفلام من أبرزها :سائق الدراجة" 1989.

وتمكن في العقدين اللاحقين من أن يثبت قدميه بوصفه أحد المخرجين البارزين في السينما الايرانية الجديدة، إلى جانب كيارستمي ونادري وبناهي الذين تحظى أفلامهم باحتفاء عالمي كبير.

وفي رصيد مخملباف اليوم أكثر من 20 فيلما روائيا وعدد من الأفلام الوثائقية والعديد من الجوائز والمشاركات في المهرجانات العالمية الكبرى ولجان تحكيمها.

لحظة فاصلة

وتتحدر أهمية فيلم "ليالي شارع زاينده" من أنه يمثل لحظة فاصلة قادت إلى خلاف مخملباف مع النظام الذي خدم اهدافه، وإلى اكتشافه أنه لم يعد يختلف بشيء عن النظام الذي أطاح به وأعاد استنساخ آلة قمعه وإن لم يكن بصورة أشرس وأوسع.

ويخلص مخملباف بدءا من هذا الفيلم إلى فكرة تنطلق من منظور انثروبولوجي مازال يكررها كثيرا في أحاديثة وأفلامه في التركيز على أن ظاهرة العنف لا تتعلق فقط بالنظام السياسي وأجهزة قمعه بل تمتد جذورها عميقا في ثقافة مجتمعاتنا الشرقية.

ولعل هذا الفهم ليس بعيدا عن تأثيرات تحليل مظاهر القوة او السلطة وعلاقاتها في عموم البنية الاجتماعية، كما طورته الدراسات الثقافية التي لمح إليها مخملباف في الفيلم بجعل بطله أستاذا مختصا بتدريسها، أو بشكل أساسي مع جهود الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل فوكو في تحليل الخطاب المهيمن وشبكات القوة وعلاقاتها وآلياتها في العزل العقاب في مجتمعاتنا.

وقد أعاد مخملباف تكرار هذه الفكرة عن ثقافة العنف والاستبداد في فيلمه الاخير "الديكتاتور" الذي عرض في مهرجان فينيسيا عام 2014 حيث يرى في الثورة امتدادا لعنف النظام القديم عندما يمارسه ضحاياه ويعيدون انتاجه.

فالديكتاتورية لديه تفسد حتى الضحايا وتدفعهم لتلبس صورتها بنزعة انتقامية تحرق الأخضر واليابس، كما تعيد بنية النظام القديم انتاج نفسها في سياق الظروف الجديدة، فنرى المتمردين يمارسون قمع النظام السابق نفسه وعنفا ربما كان أقسى مصحوبا بنزعة انتقامية جارفة.

صدام مع الرقابة

يقدم مخملباف في الفيلم حكاية أستاذ في الدراسات الثقافية يشرح لطلبته جذور العنف والاستبداد الكامنة في المجتمع الايراني، فيتهمه جهاز الأمن السري بالإساءة إلى الشاه ونظام الحكم الملكي في إيران، و لايشفع له تبريره أنه أراد أن يلقي باللوم على نزعة العنف في المجتمع لا نظام الشاه.

ويتعرض الأستاذ الجامعي بعد التحقيق معه إلى حادث دهس (يبدو متعمدا من قبل الاجهزة الامنية) ينتهي بوفاة زوجته وتحولة إلى شخص مقعد، وننتقل هنا إلى حكاية ابنته التي ترعاه والتي تعمل في ردهة الطوارئ في وحدة لغسيل معدة الاشخاص الذين يحاولون الانتحار ومعالجتهم.

وتصبح الابنة الشابة هي محور السرد في ما يتبقى من الفيلم والذي يتوزع في جانبين: رعايتها لوالدها وعملها وقصة حبها الجديدة لاحقا بعد أن يهجرها حبيبها السابق، وتحاول هي الانتحار بعد محاولة والدها المقعد الذي يحاصره اليأس الانتحار ايضا، في مشهد بدا على درجة عالية من الميلودرامية، والمبالغة في الاداء وبدا تنفيذه غير مقنع.

ولا نعرف هل أن القطع الذي قامت به الرقابة جعل هذا المشهد مبتورا، إذ نراهما فجأة قد عادا الى حياتهما الطبيعية، اي أن محاولة انتحارهما كانت فاشلة.

ويستثمر مخملباف عمل الفتاة في وحدة الطوارئ وغسيل معدة من يحاولون الانتحار ليقدم لنا سلسلة من الحكايات عن أثار بنية القمع على نفسيات البشر وما تشكله عليهم من ضغوطات تدفعهم إلى محاولات الانتحار.

ونلاحظ أن تلك القصص تتوزع على ثلاثة مراحل في عهد الشاه واثناء قيام الثورة والمواجهات مع القوات الأمنية واخيرا بعد هزيمة النظام واستتباب الامر للنظام الاسلامي الجديد.

ولكل مرحلة من هذه المراحل محاولات الانتحار الخاصة بها، ففي فترة الشاه نرى أولئك المحطمين جراء قبضة النظام الأمني الصارمة، كالشخصية الرئيسية في الفيلم الاستاذ الجامعي نفسه، وفي فترة المواجهات اثناء الثورة نرى أم تحاول الانتحار بعد أن قتل ابنها على ايدي جهاز امن الشاه وقتلت ابنتها أنها معادية للثورة.

وبعد استتباب الأمر للنظام الجديد في طهران يتواصل عمل الفتاة مع من يحاولون الانتحار، ولكن هذه المرة بدوافع مختلفة عن زمن الشاه، وهي عوامل نلاحظ أنها في معظمها ناجمة عن الحرب، فهناك الزوجة التي فقدت زوجها في الحرب ولديها طفل منه، ثم زوجتها عائلتها من أخيه وبات لديها طفل اخر منه، فتحاول الانتحار عندما يعود الزوج الاول المفقود بعد نهاية الحرب، أو الجندي المقعد بسبب الحرب والذي حاول الانتحار فتقنعه الفتاة بالتخلي عن ذلك لتقع في قصة حب معه، بعد أن هجرها حبيبها السابق، ويقف الاب المقعد ضد هذه العلاقة لاحقا.

ويقول مخملباف إنه اصطدم مع الرقابة بعد عرض الفيلم في مهرجان فجر بإيران، إذ طلبت الرقابة منه حذف 37 دقيقة من الفلم الذي وجدت انه يتعارض مع تسميه "روح الثورة الايرانية وقيمها" وحتى النسخة المقطعة تم منعها من العرض.

ويضيف أنه تمكن من استعادة بعض اجزاء النسخة السالبة للفيلم بعد اكتشافها في مخازن الرقابة عام 2016 بعد سرقتها وتهريبها من داخل ايران إلى الخارج حيث أسهم بنفسه في ترميم الفيلم الذي عرض في 63 دقيقة بدلا من النسخة الاصلية وكانت في 100 دقيقة.

مشاهدة الفيلم في صيغته الأخيرة تكشف عن أنه ظل يحمل بين طياته الكثير من سمات أفلام تلك المرحلة التعبوية والنزعة الدعائية للثورة الايرانية التي هيمنت على الكثير من الافلام الايرانية لاسيما تلك المنتجة خلال فترة الحرب العراقية الايرانية وفي اعقابها.

بيد أن الفيلم حمل حمل مسحة نقد خفيفة وقدم تلك النظرة التي تدين العنف وتلمح الى جذوره الكامنة في طبيعة ثقافة المجتمع نفسه وهي مالم تحتمله الرقابة الايرانية الصارمة.

لكن مخملباف،عندما تحدثنا معه بعد عرض الفيلم ، ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير بالقول إن الدقائق الـ 37 المحذوفة احتوت نقدا أعنف من ذلك بكثير وكان ثمة مشهد واضح جدا فيه استعارة واضحة عن استعادة بنية القمع ذاتها من جديد في ظل النظام الاسلامي الجديد، وهو مشهد استبدال صور الشاه في مركز القمع الذي تعرض له بطله بصور الخميني ورموز العهد الجديد الذي حذفته الرقابة.

لم يكن مخملباف في هذا الفيلم بمستوى نضجه، تقنيا على الأقل، الذي بدا فيه في أفلامه اللاحقة، فبدا بدائيا في تنفيذ بعض مشاهدة وثمة مبالغة واضحة في الاداء، ومشكلات في مزج الصوت، على سبيل المثال نرى أن الفتاة تعزف لنسمع مباشرة تسجيلا لمقطوعة على البيانو بطريقة احترافية تاتي من خارج المشهد وليس بالتوازي مع اداء الممثل للعزف على البيانو.

وحرص مخملباف على ان يترك بعض المشاهد التي قامت الرقابة بقطع الصوت فيها بدون صوت يظهر حوار الشخصيات مع شرح على الشاشة يشير الى انها الرقابة حذفت هذا الحوار.

وصف مخملباف فيلمه في الرسالة التي ارسلها الى المهرجان قائلا "يبدو الفيلم مثل كائن حي بدون أطراف ولكنه مازال يتنفس، ولم يفقد قصته أو معناه. وقد قررت العمل على ما استعدته من النسخة السلبية (النجاتيف) للفيلم وشريط الصوت في لندن".

ويضيف مخملباف في سياق ما يصفه برد على تهديد تلقاه حينها من السلطات الإيرانية إنه "من السهل اسكات مخرج سينمائي، ولكن من المستحيل قمع السينما".