"إيلاف" من القاهرة: لمناسبة ذكرى وفاته، تلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان الراحل عماد حمدي الذي لُقِّبَ بـ"فتى الشاشة الأول" لأكثر من 20 سنة، من خلال عرض مذكراته التي صدرت بتوقيع الناقدة إيريس نظمي قبل أكثر من 3 عقود، علماً أن الراحل سجلها قبل وفاته.
في الحلقة قبل الاخيرة يتحدث عماد عن طلاقه من الفنانة نادية الجندي ولماذا لم يندم على وقوع الطلاق بالإضافة إلي اخر أدواره الفنية.

بداية جديدة
ويكمل "حمدي" سرده لمذكراته، فيقول: هذه الحياة لم تكن غربية عني ولست غريباً عنها. بقيت خمسة أعوام وحيداً بعد انفصالي عن شادية قضيت منها عاماُ كاملاً في فندق وحياة الفنادق لفترات طويلة تصيب المرء بحالة اكتئاب. الفنادق للزيارات السريعة والاقامة القصيرة نوع من التغير يحتاجه البعض أحياناً، يعودون بعده الي حياتهم العادية داخل بيوتهم ووسط أولادهم، ومهما كانت الفنادق فخمة وأنيقة وحديثة فإننا لا نجد فيها أبداً دفء العواطف الأسرية. فمهما كان البيت متواضعاً فإنه يظل دائما نبع الدفء الذي لا يجف أبداً. لكني خسرت بيتي الذي أنفقت على تأثيثه وتجهيزة بكل ما أملك من مال، لكنني كسبت ما هو أهم وأبقى كسبت راحتي وحريتي.
لكنني هذه المرة، وبعد انفصالي عن نادية الجندي لم أكن بحاجة للهروب والانزواء بعيداً عن عيون الآخرين. فالعادة حينما يمر الانسان بمحنة قاسية يحاول أن يبتعد وينعزل لكي ينفرد بنفسه ولكي يتحاشي نظرات الفضوليين والشامتين. لكني هذه المرة لم أكن بحاجة لذلك كله لسببٍ بسيط، وهو أنني لم اخرج من تلك التجربة الزوجية الثالثة منهاراُ ولا نادماُ ولا حزيناُ. لقد علمتني الحياة أن من يخسر المال أسعد من الذي يفقد نفسه وحريته. وعلمتني تجارب الدنيا العجيبة أن الانسان من المهم أن يعرف كيف يتخذ ذلك القرار في التوقيت المناسب وأعتقد أنني اتخذت قراري في التوقيت الصحيح والملائم. فلماذا أتوارى عن العيون، ولماذا اهرب من الناس؟ وكنت أقول لنفسي: أستطيع تعويض المال. وما يجري يمكن نسيانه. واندمجت بسرعة في العمل وواصلت رفض الأدوار التي لم تعد تناسب عمري فقدمت أدوار مرحلة النضج.


أدوار الشيخوخة
هذه المرحلة – مرحلة الشيخوخة هي أيضاً بالنسبة لي أهم وأخصب سنوات عمري. إنها سنوات النضج والإكتمال. ولقد قدمت فيها أنجح وأهم أدواري. وقد كانت بداية هذه المرحلة بالنسبة لي بفيلم "المرأة المجهوله" الذي أديت خلاله مرحلتين مختلفتين من العمر الزوج الذي كان شاباً، ثم نفس الزوج بعد أن أصبح عجوزاً. ومن المهم أن نهتم بكتابة الأدوار التي تناسب الممثلين المتقدمين في العمر، كما يحدث في الخارج. فحتى ذلك الممثل الذي أصيب بالشلل أعدوا له حلقات خاصة ولم يتركوه بلا عمل. بل أشعروه بحاجتهم إليه وافتقارهم لأدواره، فعوضوه نفسياً عما حدث له. وبالطبع لو كان ذلك الممثل المشلول مصرياً لالقوا به في أحد المستشفيات ولا اعتقد أن واحداً من كتاب القصة السينمائية كان سيفكر في كتابة دوراً خاصاً له يراعي ظروفه الصحية، ويستفيد من طاقاته الفنية، بل كان سيعيش بقية أيام حياته وحيداً دون كلمة مواساة أو باقة ورد وستصبح نهايته المحتومة مجرد خبر صغير في صحيفة تُعلِن رحيله، وتُعلِن أيضا أن أحد الذين زاملوه وعملوا معه لم يظهر في جنازته ليودعه الوداع الأخير.

ثرثرة فوق النيل
ومن أدوار مرحلة النضج التي أعتز بها دوري في فيلم "ثرثرة فوق النيل" الذي كان يتطلب مني أن أكون مدخناً للحشيش وأن أظهر في أكثر المشاهد غائباً عن الوعي. وكان معروفاً عني أني لا أعرف أي نوع من المخدرات، لم استعملها ولم أفكر في استعمالها، لكنني قبلت التحدي. أردت أن أتحدى نفسي وأؤدي دوري بإتقان. وهو دور الشخص الذي يتعاطى المخدرات وأنا الذي لم أعرفها في يوم من الأيام. وقال لي البعض يجب أن تجرب بنفسك حتي تستطيع أن تؤدي الدور بالصورة السليمة، وعرضوا علي أن أذهب معهم إلى إحدى الغرز لكي أشارك الجالسين في القعدة، ورفضت، لكن كان هدفي أن أعرف تصرفات الحشاش طريقة كلامه وحركته وتعبيراته وما هو الفرق بين الحشاش وبين السكران، وعرفت ان الذي يتعاطي الحشيش يتكلم بهدوء ولكن ليس بطريقة السكران الذي الذي لا يستطيع ان يتكلم، وعرفت أيضا أن الذي يتعاطي المخدرات تبدو عيناه تائهتين لا تنظران إلى شيءٍ محدد.
واذكر أن بعض الزملاء المشاركين في تمثيل أدوار الفيلم قد أدوا كما يؤدي السكران وليس كما يؤدي من يتعاطي المخدرات بينما أديت أنا كما يؤدي الحشاش رغم أني لا أعرف المخدرات ولم أذقها أبداً في يوم من الأيام، وأعتقد أن أفضل مرة أديت فيها دور السكير كانت في فيلم "سونيا والمجنون" وبالتحديد في مشهد السلم بعد انتهائي من أداء ذلك المشهد لاحظ المخرج حسام الدين مصطفى أن شاربي المستعار لم يكن مثبتا بطريقة طبيعية وكان لابد أن نعيد تصوير المشهد مجدداً بسبب الشارب. وكان صبعاً أن أندمج مجدداً بنفس إحساس المشهد الذي صورناه ورغم ذلك قلت لهم. لا يهم سأودي المشهد مجدداً سأعود سكيراً كما كنت.
وفي فيلم "أسياد وعبيد" الذي أخرجه علي رضا أديت دور موسيقي أصيب بالشلل وهو دور يحتم علي من يؤديه أن يظل جالسا فوق مقعد متحرك وهكذا ظهرت في كل المشاهد صامتاً جالسا فوق المقعد المتحرك لم أقل غير ثلاث كلمات ورغم ذلك كنت سعيداً بذلك الدور. فقد اتاح لي فرصة التعبير بوجهي وبعيني أنه أفضل في رأيي من أدوار البطولة المطلقه كثيرة الكلام وقليلة التعبير.

أنا وأخي مجدداً
التشابه بيننا يصل إلى حد التطابق. فالملامح الخارجية متطابقة وطريقة التفكير أيضا متطابقة. أنا جزء منه وهو جزء مني، ونحن الاثنان نكمل بعضنا البعض. وجهان بملامح واحدة وعقلان بتفكيرٍ واحد. تلك كانت علاقتي القوية جداً بأخي عبد الرحمن الذي عاش حياته في مجال السلك الدبلوماسي وزيراً مفوضا وتنقل في بلاد كثيرة وعاد أكثر من مرة إلى الهند والإتحاد السوفياتي، وتشيكوسلوفاكيا. كنا متشابهين في كل شئ حتى في عدم استقرارنا في حياتنا الزوجية، وعندما أحيل للمعاش كان يحلو له أن يقضي أغلب الأيام عندي نجلس لنتكلم ونتساير ونلعب الكوتشينة. فاذا غلبني يشعر أنه فاز علي نفسه وإذا غلبته أشعر أني فزت على نفسي. ثم يعود إلى بيته في المساء، وعندما داهمتني متاعب القلب ونصحني الأطباء بضرورة البقاء في معهد القلب لأكون تحت رعاية وإشراف الأطباء المتخصصين كان أخي عبد الرحمن معي دائماً يسال عني ويتابع حالتي ويرفع من معنوياتي.
وذات يوم وبينما كنا نلعب كالعادة الكوتشينة في شقتنا توقف فجأة عن اللعب قائلاً: حاسس إني متضايق التنفس مضايقني، وأخذته فورا الي معهد القلب مجدداً. وفي الطريق إلى إمبابة كنت أدعو الله هامساً أن يبعد عن قلبه متاعب قلبي، أن يحميه من كل مكروه، ذلك القلب الطيب الذي تحمل آلامي. كان يوم شم النسيم ولم يكن الدكتور عوض موجود بالمستشفي ولأني زبون قديم في معهد القلب فقد اهتم الطبيب النوبتجي وبدأ فحص أخي لكنه كان فحصاً ظاهرياً وبعد انتهاء الفحص قال : مفيش حاجة قلبه طبيعي.
وأثناء عودتنا إلى بيته، قلت لأخي عبد الرحمن، إطمئن سأخذك للدكتور عوض بعد الظهر حتن تطمئن أكثر وخلع أخي عبد الرحمن ملابسه وقال سأستريح قليلاً، وفضلت أن اتركه يستريح علي أن أعود له بعد ساعتين لاصطحبه معي للدكتور محمد عوض وما أن وصلت لمسكني وقبل أن أفتح الباب سمعت رنين التليفون ودق قلبي المتعب دقات خائفة مذعورة وأسرعت رافعاً السماعة وسمعت من يقول لي : أحضر معك أنبوبة أكسجين أخوك تعبان.

رحيل توأم الروح
وبسرعة عدت إلى هناك من جديد إلى بيت أخي الذي تركته منذ قليل ووجدت حوله بعض الأطباء من جيرانه وأصابني الوجوم عندما رأيتهم يدلكون قلبه وقال لي أحد الأطباء أنفخ في فمه واندفعت نحو أخي ووضعت فمي علي فمه، شفتاي علي شفيته، وبكل ما تبقي في من قوة نفخت، لكنها كانت قبلة الموت القبلة الأخيرة قبلة الوداع...يا لسخرية القدر، هو صاحب القلب السليم يموت قبلي، أنا صاحب القلب العليل، فلتبك يا قلبي، فلتنزف دموعاً ودماً وحسرة، لقد رحل أعز الأعزاء، وأحب المحبين، كيف تستمر حياتي بدونه، بدون نصف عقلي ونصف روحي ونصف قلبي.

إكتئاب
بعد رحيل أخي التوأم عبد الرحمن لم اعد متمسكاً بالحياة ولا راغباً فيها. فالسهر خارج البيت، لم يعد يستهويني. وحتى حياة الاستديوهات لم تعد تسعدني وتشجيني، أصبحت أميل للوحدة والإنطواء، أفضل الإنفراد بنفسي لأكون المتفرج الوحيد علي شريط الذكريات الذي لا يتوقف، شريط يحوي كل المفارقات وكل الغرائب والأعاجيب لو شاهدناها في الأفلام لما صدقناها ولقلنا أن كاتب القصة يميل إلى المبالغة.
إن الواقع يكون أحيانا أغرب من الخيال، أحداث أطول فيلم تمر أمامي، أحداث حياتي، لحظات القوة ولحظات الضعف، أيام الثراء، وأيام البؤس، ليالي السهر والصحبة، وليالي الإكتئاب والوحدة، ذهبت إلى أكثر من طبيب، لم أعد اشكو فقط من قلبي العليل، فقد أصبح جسمي الهزيل هدفاً لكل الأمراض أصبحت أعاني من حالة اكتئاب نفسي لا أعرف متي سينتهي. 
كان أخي الاكبر عبد الرحمن يمرض إذا مرضت، ويشفى إذا شفيت. يفرح عندما أفرح، ويحزن عندما أحزن، كان يشعر بالآمي حتى لو باعدت بيننا آلاف الاميال. توأمان متشابهان في كل شئ حتي في عدم الإستقرار العائلي. فهو لم يعرف الإستقرار في حياته الأسرية. وأنا ايضاً لم أنعم أبداً بذلك الإستقرار العائلي، ولم يخالفني إلا مرةً واحدة عندما ترك الدنيا قبلي وتركني وحدي اللهم لا اعتراض، هذه حكمتك وهذه إرادتك وماذا يملك المخلوق الضعيف أمام مشيئتك.
آخر أدواري الفنية 

سواق الأوتوبيس
إتصل بي المخرج السينمائي الجديد عاطف الطيب الذي رشحني للمشاركة في تمثيل فيلم "سواق الأتوبيس". أعجبتني قصة الفيلم ودور الأب الذي سأوديه والمعنى الهام الذي يؤكده الفيلم الوفاء الذي أصبح نادراً في هذا الزمان. العلاقات الأسرية التي فقدت حرارتها وأصالتها. العلاقات الإنسانية التي تضيع وتختفي وسط عالمٍ مشغول فقط بالماديات، كل إنسان أصبح جزيرة منفصلة عالماً مغلقا كل إنسان يرى فقط مصالحه الخاصة. ومن أجل تحقيق المصالح الشخصية يهون كل شيء. ووسط ذلك العالم المادي المشغول بجمع المال ضاع احترام الأبناء لآبائهم وضاع حب الأخ لأخيه، الجشع والطمع كادا يقتلان كل العواطف الأسرية والعلاقات الإنسانية.
في ذلك الفيلم، يحاول الإبن أن ينقذ والده من الإفلاس. لقد عاش الوالد العجوز شبابه وكهولته داخل مستودع الأخشاب الذي يعرضونه للبيع في المزاد. لقد ترك فيه كل ذكريات الماضي وكل آمال المستقبل، ويحاول الإبن الوفي سواق الأتوبيس أن ينقذ أباه فيسرع إلى بقية الأهل والأقارب مستنجداً بهم طالباً معونتهم لكن أحداً لم يهتم. لم تهتز ضمائرهم، لمأساة الأب المسكين، وانشغلوا بالصفقات. في النهاية ينجح الأبن في إحضار المبلغ المطلوب لأن في اللحظة التي ينقذ فيها مستودع الأخشاب من البيع في المزاد وفي اللحظة التي يدخل فيها غرفة الأب لكي يسلمه دليل الوفاء يفاجئ بأن الاب قد مات، فارق الحياة وهو يشعر بجحود أهلها وقلة وفائهم وإنعدام إنسانيتهم، قتلته الصدمة. ولقد أعجبني المغزى الإنساني الذي يقدّمه الفيلم، الوفاء المفقود في عالم مادي جداً ماتت منه القيم الإنسانية. ورغم شعوري بالإجهاد والإرهاق أثناء فترات التصوير، إلا أني كنت أحاول أن أتماسك حتى ينتهي التصوير على خير، ضغطت على نفسي حتى صوروا المشهد الأخير الذي أظهر فيه ميتاً.

صورة نادرة لـ"عماد حمدي" مع نجله الأول نادر وشقيقه التوأم عبد الرحمن

 


المشهد الأخير
العجيب أنه كان يلازمني شعور غامض بأن هذا المشهد سيكون آخر مشهد به وآخر مشهد أظهر فيه علي شاشة السينما، مشهد رجل يموت ويودع أسفاً على ضياع الوفاء وتحسراً على إنهيار العلاقات الإنسانية دوماً من انشغال الناس بجمع المال لدرجة الجنون. كان يلازمني شعور بأنني أؤدي آخر أدواري وبأن فيلم سواق الأتوبيس سيكون آخر الأفلام التي سأقوم بتمثيلها .لكن حدث بعد ذلك أن رشحني المخرج علي عبد الخالق للمشاركة في تمثيل فيلم "العار" الذي أعجبتني فكرته وقصته وتحاملت علي نفسي وذهبت إلى الاستديو. لكن شعوري بالإرهاق كان يزداد. ورغم ذلك تماسكت بقدر الإمكان فالحقيقة أنهم أخجلوني برقة مشاعرهم لدرجة أن كاتب القصة والسيناريو محمود أبو زيد كان من شدة تهذيبه يوصلني إلى بيتي ويعاملني بأدبٍ زائد. وقلت لنفسي أنهم يعرفون حالتي الصحية المتدهورة، هذا سر عنايتهم الفائقة بي. وبصراحة بدأت أشعر بالخجل من كثرة عنايتهم بي وحرصهم الزائد على راحتي أثناء إحضاري إلى الاستديو أوعند إعادتي الى البيت. ومر أول يوم تصوير بسلام ورغم حالتي الصحية المتدهورة فقد أديت المطلوب مني لكن كانت المفاجأة في اليوم التالي أن الجزء الذي تم تصويره قد احترق في المعمل وكان لابد من إعادة تصويره مجدداً. لكني قلت لهم، أنا آسف يا جماعة مش حاقدر أكمل، قالوا وما الحل، قلت شوفوا ممثل تاني مش قادر أكمل. وبالفعل، لقد اختاروا ممثلاً آخر غيري وكانت تلك آخر مرة أدخل فيها استديو وبلاتوهات السينما. لقد صدق إحساسي وكان المشهد الذي أموت فيه أثناء تصوير فيلم "سواق الأتوبيس"، آخر أدواري رجل عجوز يودع الدينا أسفاً على اختفاء الوفاء وآخر مشهد أؤديه في فيلم "العار". لقد احترق قبل أن يراه الناس، وكأنني أنا الذي أحترق وأختفي مودعاً عالم السينما مودعاً الأضواء التي تحرق كل الفراشات التي تحوم حولها.



ملاحظة: تتابع إيلاف نشر سلسلة المذكرات الشخصية للفنان الراحل "عماد حمدي" تباعاً ويومياً حتى الحلقة الحادية عشر. علماً أنها عملت جاهدة على الإختصار لمدوناته الطويلة. 
(يمكنكم قراءة الحلقات السابقة عبر النقر على عناوينها إلى الشمال أعلاه تحت عنوان "مواضيع ذات صلة")