حوار مع الباحث الاكاديمي المغربي محمد الولي:
الفلسفة تعلم أن الناس كلهم إخوة بغض النظر عن الدين والاعتقاد والعرق والثقافة


حاوره حسن الاشرف: الدكتور محمد الولي من مواليد سنة1949.أستاذ جامعي في جامعة فاس. من أبحاثه المنشورة:. "الاستعارة عند السكاكي"، مجلة كلية الآداب، فاس، العدد 6. 1982ـ1983. "تقديم" (ملف الندوة الدولية: البلاغة العربية والبلاغة الغربية)، مجلة كلية الآداب، فاس، العدد 6، 1982ـ1983. بالاشتراك مع مجموعة من الباحثين، "اللسانيات والنقد الأدبي"، ندوة نظمتها مجلة دراسات أدبية ولسانية، الأعداد: 1 و2 و3. فاس 1985- 1986 / "الموضوع والتصنيف في البلاغة العربية"، بصمات، العدد 3، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب 2، الدار البيضاء، 1990/ دكتوراه الدولة، 6 أكتوبر 2000. موضوعها، "البلاغة والاستعارة في آثار أرسطو وعبد القاهر وشايم بيرلمان". شعبة اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط. في هذا الحوار لايمضغ الدكتور الباحث الاكاديمي محمد الولي كلماته، بل يقذفها قذفا خاصة عند حديثه عن المسلمين وواقعهم الحالي، وهو لايخفي أبدا اهتماماته بالسيميولوجيا والفلسفة والعلوم الانسانية الاخرى:

* مصطلح السيميولوجيا غريب بعض الشيء.هل يمكن توضيحه للقراء.
- السيميولوجيا أو السيميوطيقا هي كلمات يمكن أن تبعث الفزع عند غير المهتم. إلا أن هذا المصطلح يمكن أن يصبح كائنا وديعا عند ما نعلم أن سيميولوجيا مؤلفة من سيميون أي الدليل أو العلامة أي كل علامة لغوية أو غير لغوية ناقلة لمعنى مرسلة من باث إلى متلق، ولوجيا أي علم. السيميولوجيا هي بهذا المعنى علم الأدلة. إذن السيميولوجيا يمكن أن تشمل باهتمامها اللغة البشرية المعتمدة على الألفاظ أو الكلمات. ولكنها يمكن أن تشمل بالاهتمام العلامات غير اللغوية من قبيل علامات المرور والعلامات الحربية، بل وكل ما يمكن أن يحمل دلالة ما. بهذا المعنى السيميولجيا علم عريق عند الإنسانية. إن الإنسان يستعمل اللغة بشكل عفوي دون أن يتأمل نظامها الداخلي ولا كيفية اشتغالها. إلا أنه حينما يتأمل اللغة ويتخذ منها موضوع تفكيره يصبح سيميولوجياً بدون أن يحس بذلك وبدون أن يكون على علم بوجود هذا المصطلح. تماماً كما سائق السيارة يمكن أن يكتفي بالسياقة دون التفات إلى كيفية اشتغال المحرك إلا أنه إذا تحول إلى المحرك وعمل على ضيط كيفية اشتغاله يصبح هنا ممارساً لعلم المكانيكا. كذلك السيميولوجيا. التأمل في كيفية نقل عبارة أو إشارة أو شيء ما لمعنى أو معاني نصبح ملمين بعلم السيميولوجيا.

* ماهو واقع الانتشار الحالي لهذا العلم
- ازدهرت السيميولوجية في العصور الحديثة مع ثورات وسائل الاتصال: الصحافة والتلفزيون والقنوات والأنترنيت ومع انتشار قيم التعددية الفكرية والإيديولوجية. هذا الازدهار في الغرب لم يصحبه نفس الازدهار في العالم العربي. ومع هذا لا ينبغي أن نبخس أعمال مفكرين في العالم العربي أمثال عادل فاخوري وسيزا قاسم الذين كانا سباقين إلى التعريف بهذا العلم الوليد. ولا ينغي أن نتجاهل مترجمات لنصوص هامة في الميدان نصوص فردينان دو سوسور وشارل سانديرس بورس وقبلهما نصوص السميائي المجهول إرنست كاسيرر. وإذا كانت هناك ثغرات فهي ثغرات وعثرات كل ما ينتج في هذا العالم العربي .

* ماهي موضوعات اشتغال السيميولوجيا
- كل علم يتخذ له كموضوع اللغة الانسانية بوصفها نسقا حاملا لمعنى فهو سيميولوجيا بغض النظر عن التسمية التي نخصه بها. إن كثيرا من العلوم يمكن أن تندرج تحت هذه المظلة الكبيرة السيميولوجيا علم الدلالة، علم التفسير أو التأويل، علم الأحلام. إلا أن هذا المعنى لا ينقل باللغة فقط. اللغة هي النسق المتسم بقدر عال من الكفاءة في نقل المعاني وتوصيلها. وبقدر عال من المرونة الخارقة وقابلية النمو والتطور. اللغة هي حاضنة كل العلوم التي تسخر لغزو العالم ومعرفته وفهمه وتغييره ورسم مسار تطوره أو تعطيله. إلا أن الإنسان خالق لأنساق سيميولوجية غير لغوية. لاحظ لغة الإشارات. وعلامات المرور ولغة الطقوس ولغة الأحلام والرقص والأساطير. بل هناك لغة ملامح الوجه كالعينين والشفتين وتجاعيد الجبهة وحركات الوجه في كل الاتجاهات ولون البشرة وإشراقها أو امتقاعها ويبسها والصوت جهارة وخفوتا وتقطعا، والروائح الصادرة عن الإنسان و، و.... بل إن الحيز المكاني الذي يتم فيه التواصل يوصل معنى. إن القرب والبعد والاعتلاء والتسفل والموقع : الوسيطة أو الجانبية... أو... أو. حاملة لمعاني مدهشة. قد لا تحملها اللغة العادية. كل هذه العناصر تهتم بها لسيميولوجيا.

* كيف تقرأون الواقع الراهن لكثير من المسلمين
- أكثر ما يحيرني كمسلم أن يتحول أغلب المسلمين وقادتهم ورجال دينهم إلى كائنات غريبة تدافع عن الصهيونية تارة وتبررها طوراً آخر وتعبد أمريكا، لا الله، وتخاف من أمريكا لا من الله. وتنهب أملاك الشعب ويهدر بعضها ثروات خيالية على طاولات القمار أو استجابة لنداء، بل لصراخ الشهوة. أثرياء المسلمين هم أناس متعطشون إلى الدماء، دماء الشعب والأبرياء. أناس لا عقل لهم، عقولهم في فروجهم. وأجسادهم كتلة من الشهوات الحيوانية. المسلمون حولوا الإسلام إلى جسد أجوف لا نبض للحياة فيه. حولوه إلى طقوس مبتذلة يومية. حولوه أداة للاستعراض الديني الاستهلاكي. لقد جردوا الإسلام من قلبه الخفاق والدفاق من أجل غوث الناس وإسعادهم. لقد اغتصب هؤلاء الإسلام من أيدي الشعب ومن أيدي كل العقلاء على وجه الأرض. لقد أخذوه رهينة وفعلوا به ما هم فاعلوه في كل لحظة وآن. هل يعقل أن يخزن المسلمون كل ثرواتهم البلايينية في أبناك بني صهيون في أمريكا وغير أمريكا. لكي تستعمل هذه الأموال لتسليح الطغيان الأمريكي والصهيوني. ولكي تغدو بدورها أداة إبادة الشعوب المتطلعة إلى الحرية وأداة ضغط على القيادات الديكتاتورية لإرخاء تكة منابع الثروة لصبها كاملة في خزائن بني صهيون وأمريكا. هل يعقل أن تتحول هذه الدول الإسلامية الأغنى في العالم إلى دول تحوز عصا السبق في الأمية وسوء التغذية والتعصب العنصري والبطالة وتدمير البيئة واضطهاد النساء اللائي حرم عليهن في السعودية حيازة رخصة السياقة. وأعمق وأمَرّ ما يحيرني أن يقف العالم الإسلامي كله شعوبا وحكومات متفرجين مشدوهين بلهاء أمام ملحمة إبادة شعب بأكمله هو الشعب الفلسطيني على يد الصهيونية وأذنابها من المسلمين. بل، وإسرائيل فخورة بأن أغلب الدول العربية متلهفة إلى إقامة علاقات سياسية معها.

*لديكم ارتباط بالفلسفة.ماالذي جذبكم اليها
- نعم عندي تعلق خاص بالفلسفة. إنها تعلمني السمو الفكري والأخلاقي والسياسي. هي التي تزودني بعناصر التفكير وتوصيله إلى الآخرين. هي التي تعلمني أن الإنسانية واحدة. وهي التي تعلمني أن الإنسانية إما أن تكون فاضلة أو لا تكون، هي التي تعلمني أن الإنسانية برمتها، الإنسانية الفاضلة، ينبغي أن تفكر بنفس الطريقة، ينبغي أن تحتكم إلى نفس القيم الفكرية والأخلاقية والسياسية. هي التي تعلم أن التفاهم بين كل الناس ممكن. هي التي تعلم أن حياة كل الناس عل هذه الأرض بسلام ووئام وأمن وإشباع الحاجات الضرورية لدى كل الناس أمر ممكن بالحوار والتفاهم والاحتكام إلى العقل الإنساني المشترك بين كل الناس.
الفلسفة إذن تعلم أن الناس كلهم إخوة بغض النظر عن الدين والاعتقاد والعرق والثقافة الخ... الفلسفة تعلمني أن العنف ليس هو ما يميز الإنسانية. العنف عمل مذموم ينبغي تعويضه بكفاءة الحوار المستند عل قيم العدل والفضيلة الإنسانية ومحبة الناس وهذا الكوكب الذي نسكنه عابرين. الفلسفة تضع حدا للعنصرية والكراهية والغطرسة والانغلاق القومي واغتصاب الحقوق. الفلسفة باختصار تمجد العقل وترفعه إلى المراقي المقدسة التي أرادها له الله. الفلسفة انعتاق من الاستعباد و... فلا حياة للفلسفة مع الطغيان في أمريكا أو إسرائيل أو العالم العربي. الفلسفة مصباح الفضيلة الإنسانية التي يهتدي بها من اصطفاهم الله لهداية الإنسانية بأنوارها في عالم تكاد الظلمة تسدل أستارها على كل بقاع العالم.

*هناك من يتهم الفلسفة بأنها تفضي الى الالحاد.هل من رد..
- الفلسفة لا توقع في الإلحاد. الإلحاد مجرد اختيار شأنه شأن الإيمان. كما العقل يوصل إلى الإيمان يمكن أن يوصل إلى الإلحاد. ولكن الأمور كلها اختيارات وقناعات باطنية لا يمكن إثباتها تجريبياً أو منطقياً. الفلسفة ليست مؤمنة كما أنها ليست ملحدة. الفلسفة تناضل من أجل الفكر السديد العقلي ولا تخوض في الغيب. إنها حيادية إلا أنها تحاول، أن تبين أن الدين ينبغي تسييجه ضد مستخدميه من رجال الدين لأغراض سياسية منافية للإيمان الطاهر. أنظر اليوم كيف أن طنطاوي يساند مبارك في انتخابات الرئاسة. فهل من الإيمان التطبيل لمبارك أو لغير مبارك. إلا أن من أفتى بتحريم العمليات الاستشهادية المقدسة لا ينبغي أن يحاسب على الإفتاء لمن لا بركة فيهم! أليس من قبيل الإذلال للدين أن يسخر بوق دعاية لحماة الرجعية ودهاقنة المطبعين مع بني صهيون. إن دينا لا يستطيع أن يعيش إلا تحت سقف الدولة لا يستحق اسم دين، تماماً كما أن الدولة التي تحتمي بالدين لا تستحق إسم دولة. الفلسفة ليست فقط ملكة رفع العقل إلى المراقي السامية، بل هي أيضا ملكة المجاهرة بالحق في وجه الطغيان. ولهذا يمكن،حينما يناضل الدين ضد الطغيان والاستبداد، أن يجد لا محالة إلى جنبه، الفلسفة الحقة التي تعانق مبدأ النضال لأجل تحرير كل الإنسانية وإسعادها هنا والآن.
أليست الفلسفة بهذا المعنى الخطر الذي يهدد رجال الدين الذين يسخرون الدين لأغراض دنيوية غير شريفة وغير فاضلة، أليست الفلسفة بهذا المعنى أكبر نصير للدين الصافي الذي يغمر الإنسانية بالسعادة وسيادة العدل على الأرض.

* هناك عقد كثيرة في المجتمع العربي.هل لكم أن تحددوا أهمها..
- عقدة العالم العربي هي الأمية المتفشية . ومع ارتفاعها تغدو الثقافة والمعرفة والفكر ديكوراً خارجياً. وحينما يكون الشعب أميا، أو شبه أمي، يكون الفكر النقدي للسياسة والمؤسسات والخرافات والأوهام ضيفاً ثقيلا في المجتمع. وهذا يعني أن الوضع القائم يصبح متمتعاً بوجود شبه أزلي ثابت ثبات الزمن الأسطوري. لا تطلع إلى التغيير في مثل هذا الوضع.
إلا أن العقدة الثانية الخطيرة هي وضع حفنة من الحكام أيديهم على ثروات كل الشعب وحيازتها حيازة شخصية. وهذا يعني أن الثروة الوطنية لا تسخر لخدمة الشعب وتنمية قدراته العقلية والعلمية والفنية والصحية. في مثل هذا الوضع الذي تنتقل فيه ملكية المال العام والثروات الوطنية إلى أيدي الخاصة انتقالاً اختلاسياً تضيع فرص تنمية الثروة وقيام الحضارة والازدهار، ويصبح الحرمان سيد الوضع والتخلف واقعاً ثابتاً غير زائل. في مثل هذا الوضع لا تتمتع الثقافة والمعرفة بأي تشجيع ناهيك عن الدعم. بل تنصب في مسالك المعرفة والعلم كل أجناس المثبطات. هناك في العالم العربي عداء مستحكم بين الحكم أو السلطة والمعرفة. ويصبح العلم باعتباره سيادة نقد المعرفة الرائجة والإيديولوجية المهيمنة مطارداً ومحارباً.
أعتقد أن ازدهار المعرفة والتوزيع العادل والمتوازن للثروات هما البوابتان الحقيقيتان نحو التقدم. إن العالم العربي لا يشكو فقط من الأمية بل يشكو أيضاً عند القراء من قلة القراءة وضعفها وإسفافها واستهلاكها العشوائي بل الفرجوي, تماما كما يصبح التلفزيون أداة لتزجية الفراغ عبر استهلاك البرامج الرخيصة لا البرامج التثقيفية وكما تصبح الأنترنيت، في هذا المناخ، أداة لنشر الوضاعة لا الكسب العلمي والمعرفي. تماماُ كما يتهافت جمهور القراء قي المغرب على الصحافة لأجل اختبار قدرات ملء خانات جداول الكلمات المسهمة أو المتقاطعة. وكما يصبح الحاسوب في الجامعة أداة للعب أوراق السوليتير لا أداة لتحرير المقالات العلمية والمنتوجات التربوية التثقيفية. تلك هي مأساتنا الثقافية في العالم العربي الذي لا يسير بل يخبط خبط عشواء في مناخ يعادي البرمجة والتخطيط والتطلع إلى التقدم.