حوار مع الدكتور قيس مغشغش:
احياء اللغة المندائية.. احياء لرموز ثقافية جديدة


حاوره موسى الخميسي من روما: تعتبر الديانة المندائية من الديانات التوحيدية، وورد ذكرها في القرآن الكريم، وكثر الحديث عن اتباع هذه الطائفة في القرن الماضي فالفت فيهم الكتب ونشرت البحوث والدراسات الانثروبولوجية قام بها شرقيون وغربيون. وديانة هذه الطائفة الصغيرة( 70 الف) التي تنتشر في العراق وايران، غير تبشيرية. كتابهم المقدس يطلق عليه" الكنزاربا" اي الكنز العظيم مدون باللغة المندائية وهي احدى فروع اللغة الارامية ومترجم الى عدة لغات عالمية ومنها اللغة العربية.
الدكتور قيس مغشغش، احد مثقفي هذه الطائفة الدينية ، وهو واحد من القلائل من ابناء الطائفة الذين قاموا بتحقيقات ودراسات قيمة في ميدان الدراسات اللغوية السامية، وله معرفة واسعة بلغات حية كثيرة، وساهم بالعديد من الدراسات اللغوية، وهو من الداعين الى احياء اللغة المندائية، باعتبارها كائنا حيا تعرض للاستلاب، بعد ان حلت محلها لغة تنتمي الى ثقافة وحضارة اكثر تقدما وحداثة، وقد اصدر في الاونة الاخيرة كتابا تعليما مصورا للكبار والصغار ولمختلف الثقافات والانتماءات القومية والدينية لتعليم اللغة المندائية باعتبارها رمز ثقافي له مكانته الكبيرة في التكوين الثقافي لاي مجتمع من المجتمعات. التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار:

* يقال أن لا حياة لإمة بدون لغة، فهل ينطبق هذا على المندائيين؟
- هذا صحيح، فاللغة أحد المقومات الأساسية لأية أمة. والمندائيون أمة تميزت بإبتكار لغة خاصة بها وذلك دليل على عدة جوانب منها: كبر حجم أمتهم ما جعل لغة خاصة بهم حاجة تتطلب الإبتكار. غنى تراثهم وتنوعه بما لم تستوعبه لغة من اللغات السائدة في مناطق تواجدهم. القدرة الإبتكارية للمندائيين في وضع لغة خاصة بكل ما تتطلبه اللغة من أبجدية ومفردات وأصوات وقواعد. خصوصية المندائية والمندائيين في ديانتهم وأدبهم وتراثهم. التعايش المجمـّع والموحد للمندائيين بحياة تفصيلية ما تطلب التخاطب بلغة خاصة. وقد كانت المندائية حية وحيوية بلغتها، وبفقدها اليوم تفقد عنصرا مهما من عناصر الديمومة وشد اللحمة والإرتباط بالأصول قدر الإطلاع عليها بلغتها التي دونت فيها لتكون أكثر تأثيرا في الوجدان والعاطفة.

* يقول علماء اللغة بأن 3400 لغة في العالم ستختفي في جميع أنحاء العالم خلال فترة الخمسين سنة القادمة، هل تعتقد أن اللغة المندائية ستكون واحدة منها؟
- من بين أكثر من 6000 لغة في العالم فإن هنالك أعدادا كبيرة منها معرضة اليوم للإنقراض. وهذا راجع أما الى زوال وإنقراض صفة المجموعات والشعوب التي تتحدث هذه اللغات، أو إنسحاب بعض اللغات إزاء سيادة لغات أخرى. وهذا ما حصل ويحصل للغة المندائية التي إنسحبت من لغة سكـّت بها العمل النقدية في زمن أوجها الى لغة لا يتحدث بها اليوم أكثر من 100 فردا.

* ماذا يستوجب هذا الأمر؟
- إن هذا الأمر يستوجب العمل في مجالين أساسيين. الأول: مجال الأمة ذاتها، وتحديدا هنا المندائيون أنفسهم. فقد إنسحب المندائيون تدريجيا عن لغتهم بسبب سيادة اللغة العربية وبسبب عيش المندائيين غير المحدد ببيئة جغرافية معينة أوخاصة بهم مما يمكن أن يحافظ على لغتهم من خلال دوام التحدث بها. وكذلك من حرص المندائيين على المعايشة مع المجتمع الأكبر الذي أصبحوا يعيشون فيه ويتعاملون معه كاسبين وده لضمان البقاء. كل ذلك جعل المندائيين يتقنون سريعا اللغة العربية بلهجتها العراقية دون تميز أو لكنة. ثم جاء الإنتظام في التعليم الرسمي ولغته العربية، وقد تميز المندائيون في اللغة العربية شأن تميزهم وتفوقهم التعليمي مما شكل الضربة القوية للغة المندائية. فقد غدا المتعلمون في الأمة المندائية ومثقفوها، بنتيجة الإنشغال عن اللغة المندائية، أميون في لغتهم الأم. وهكذا خسر المندائيون أن يحفظ ويطور الجيل المتعلم هذه اللغة مثلما طور علوما ومهنا كثيرة وتميز بها. إذن، إن مجال إحياء اللغة يتعلق أولا بالأمة ذاتها وبخاصة المتعلمون والمثقفون والواعون . ومع أن سبل الإحياء اليوم صعبة وكثيرة ومتنوعة الا ّ إنها مازالت ممكنة.
أما المجال الثاني، فهو الإسناد الدولي المتخصص. فقد أدركت منظمات دولية وأكاديمية وإنسانية عديدة أهمية اللغات التي إبتكرتها أمم وشعوب العالم وإعتبرتها إرثا إنسانيا يستوجب المحافظة عليه. وقد سعت هذه الجهات الى تحديد اللغات المهددة والمعرضة لخطرالإنقراض وبدأت بمشاريع توثيقها بل والمساعدة على ديمومة التحدث بها. وقد سعيت شخصيا لهذا الأمر من خلال مخاطبة منظمة اليونسكو وكذلك جمعيات أكاديمية أخرى لتسجيل اللغة المندائية واحدة من اللغات المعرضة لخطرالإنقراض علما بأن الأمر يتطلب جهود ومتابعة من المعنيين المندائيين.

* إذن، هل من سبيل لإحياء اللغة المندائية؟ وما هي متطلبات ذلك؟
- نظريا ً نعم. أما الجانب العملي فهو يعتمد على المندائيين أنفسهم. فقد أحيت دولة إسرائيل اللغة العبرية رغم تعدد قوميات ولغات اليهود. أما أهم متطلبات عملية الإحياء فهي الرغبة والدافع لدى المندائيين لأن يتعلموا لغتهم وهذا واقع ويمكن إستثارته من خلال حاجة المندائيين لإثبات هويتهم الخاصة وأنهم سلالة أمة موجودة وكان لوجودها إعتبار وقيمة تحملت من أجله الكثير وظلت حتى اليوم تعيش التطور والتقدم دون أن تتقوقع أو تتخلف أو تزول. فهي حقا تستحق الإكبار والمكافأة. والمكافأة هي أن نكافئ نحن أنفسنا بإعتزازنا بهويتنا المندائية وأبرز سمات الهوية اللغة الخاصة وهي موجودة ولاتتطلب إبتكار.
ينبني على ما تقدم ضرورة توفير الدعم لوضع المناهج التعليمية وأدواتها ووسائلها من كتب وبرامجيات وتقنيات ثم إعداد بعض الكوادر التعليمية وهم- فرواه ماري- كثيرون ومشهود لهم في ميدان التعليم.
ومع أن توزع المندائيين اليوم في بلدان المهجر قد زاد من تعقيد هذا الأمر، الا ّ أن إستخدام تقنيات الإنترنيت وغرف المحادثة والبرامج الكومبيوترية يمكن أن يستغل بشكل فاعل. على أن هذا الأمر يتطلب جهة متخصصة تحرص على متابعته، وقد كانت لنا فكرة إعتماد رابطة تجمع المتخصصين والمعنيين باللغة المندائية بمن فيهم أكاديميون غير مندائيين. وبهذه المناسبة فإنا نطلق دعوتنا لتشكيل مثل هذه الرابطة لتكون جهودها متخصصة وتنفيذية ملموسة.

* هل تحتمل اللغة المندائية إستنباط كلمات ومفردات جديدة، وكيف لها مسايرة متطلبات المعاصرة في حياة تعصف بها رياح التقنيات الحديثة وإحادية اللغات العالمية؟
- أما عن الشق الأول، فالإجابة نعم، تحتمل اللغة المندائية إستنباط كلمات ومفردات جديدة بحكم أن اللغة المندائية تقوم في مفرداتها على الفعل أساسا لإشتقاق الكلمة. فليس التلفاز في اللغة الإنكليزية والألمانية أكثر من " المشاهدة عن بعد" . وبالمندائية يمكن إشتقاق كلمة له من الفعل" هزا" بمعنى شاهد ليكون" هزوانا" مثلا وبعد أن يوضع في الإستخدام يشيع فيعتمد وهكذا. علما بأن اللغة العربية، على غنى مفرداتها، قد عربت كلمة تلفزيون على تلفاز، وهذا مدخل آخر في الإستنباط.
أما مسايرة متطلبات المعاصرة، فإن العولمة التي يراد لها أن تدق وتطحن خصوصيات الشعوب والأمم لصالح قطب احادي، فإنها تسعى لتفوق لغة واحدة بما يجعل اللغات الأخرى خجلة أمامها من حيث مفرداتها أو تعزيز إنتشارها. ونحن اليوم نفكر فقط في كيفية المحافظة على اللغة المندائية إذ أن التحدث ، وهو من أهم مقومات حياة اللغة، لا يتم الا ّ من خلال التواجد المشترك والتفصيلي وهذا ما لا يعيشه المندائيون اليوم حتى في وطنهم الأم. علما بأن هنالك لغات عريقة وواسعة الإنتشار ولها مقومات الإسناد، ومع ذلك فهي تتهم اليوم بأنها ليست لغة علم أو تكنولوجيا، كما هي اللغة العربية ولغات البلدان الإسكندنافية.

* يقال بأن أحد رجال الدين المندائيين كان يتراسل مع المستشرقة الإنكليزية الليدي دراور باللغة المندائية، فهل تعتقد أن أبناءنا المندائيين يستطيعون مستقبلا كتابة رسائل فيما بينهم باللغة المندائية؟
- كِلا المرحومين الكنزابرا الشيخ دخيل الشيخ عيدان والكنزابرا الشيخ نجم الشيخ زهرون كانا يتخاطبان مع الليدي دراور باللغة المندائية. وقد إطلعت على إحدى هذه المخاطبات والتي أحتفظ فيها لنسخة بخط يد الليدي دراور باللغة المندائية. كما أن تذييلات الكتب الدينية والى عهد الكنزابرا المرحوم الشيخ عبد الله الشيخ سام تكتب باللغة المندائية، وفيها يتم تدوين الوقائع التأريخية والحياتية المهمة في عصر الناسخ. ولا شك بأن تحدث المندائيين في إيران وتخاطب البعض منهم باللغة المندائية على ما يداخلها من مفردات ولكنة فارسية هو مدخل هام وأساسي في عملية إحياء اللغة المندائية إن عزم المندائيون على ذلك. وعلى هذا فإني على يقين أن بإمكان أبناءنا وشبابنا- إن رغبوا- كتابة رسائل فيما بينهم بالمندائية وقد بدأ البعض منهم فعلا مخاطبتي بجمل مندائية. وليس هذا الأمر بكثير فقد تعلم حتى الكبار منا لغات بلدان المهجر التي أصبحنا نعيش فيها. علما بأن تعلم اللغة المندائية عملية سهلة فهي لا تختلف عن العربية التي نتقنها جميعا من حيث الأسس بل وحتى في الكثير من المفردات التي سيتفاجأ المندائي بدرجة تشارك اللغتين فيها، ذلك أن الأساس واحد وهو اللغة الأكدية أم اللغات السامية.

* لماذا يصر رجال الدين المندائي على إستخدام اللغة المندائية في ممارسة الطقوس الدينية ويهملون تداولها في الحياة اليومية؟
- أخي موسى، ما أبقى حياة ًفي اللغة المندائية لحد الآن هو إعتمادها لغة وحيدة في كتابة النصوص الدينية والأدب المندائي. والمندائيون رغم تخليهم عن درس فقه الدين المندائي بسبب ظروف الإضطهاد والمعاناة التي تعرضوا لها، فإنهم لم يتخلوا عن ممارسة طقوسهم الدينية. وبما أن جميع هذه الطقوس تقوم على القراءات الدينية المصاحبة للمراسيم الأخرى، فقد أوجب ذلك على رجال الدين ضرورة إعتماد اللغة المندائية التي بدونها لا يتم الطقس خاصة وأن من القراءات ما يجب أن يكون جهرا. ولقد ظل عدد من رجال الدين وبعض المتعلمين الى عهد قريب يتحدثون اللغة المندائية حتى طغت اللغة العربية على تخاطبهم أيضا بأسباب عدم تواجدهم متلاقين متخاطبين وإنشغالاتهم الحياتية التي أحدثت تركا للغة. ومعلوم أن ترك اللغة يؤثر في قدرة التخاطب بها ويضعفها وهو ما حصل لدى أغلب رجال ديننا. ونحن نتمنى عليهم تكثيف درس اللغة حتى يكونوا عامل جذب وتشجيع للآخرين بل وفي مقدمة المساهمين في إحيائها. وهنا يسرني أن أشيد بالجهود التي بذلت من قبل الترميذا الشيخ سلام غياض في ستوكولم/ السويد لإستحصال الموافقات لإعتماد اللغة المندائية لغة أم وتدريسها على وفق منهج معد لأبنائنا المندائيين في مدارسهم النظامية مع الأمل بالتعميم والدعوة للحذو في جميع بلدان تواجد المندائيين.

* ما قصة الحرف المندائي، وهل من سبيل لوضعه في الخدمة الكومبيوترية شأن حروف لغات العالم الأخرى؟
- الحرف المندائي حرف جميل رغم قدمه وعدم السعي لتطوير شكله بسبب نصوص تقديس المندائيين لحروف أبجديتهم حفاظا أن لا يمسها تغيير أو ترك وقد نجحوا بذلك. لقد زاد من جمالية الحرف إمكانية ربطه من اليمين واليسار مع وجود خمسة حروف لا تقبل الربط من اليسار. وبهذه الميزة يمكن إجراء تكوينات تشكيلية في الخط المندائي بما يشابه التشكيلات في لوحات الخط العربي التي أصبحت فنا بحد ذاتها. ويمكن بهذا الخصوص الإطلاع على نماذج قمنا بها ومماثلتها أو تطويرها من قبل الفنانين المندائيين كمدخل آخر للإعتزاز والإحياء. أما عن وضع الحرف المندائي في الكومبيوتر فقد تم القيام بذلك بشكل محدود جدا من قبل بعض المندائيين. ولأغراض طبع كتابي فقد قمت بتصميم ثلاثة أنواع للخط المندائي هي " زازي، شكندا، و هيونا" وهو تخليد لأقدم وأبرز ثلاثة ناسخين مندائيين. وهنالك اليوم مخاطبات مع بعض الجهات الأكاديمية لوضع ثلاثة خطوط مندائية أخرى بحسب نموذج الكتابة اليدوية لكل من " ليدبارسكي/ عالم الساميات الألماني الكبير ومترجم كتاب الكنزاربا الى الألمانية، والليدي دراور الغنية عن التعريف، و رودولف ماتسوخ باحث اللغات المشترك في وضع القاموس المندائي " تقديرا لجهودهم المتميزة في خدمة المندائية.
والعمل جار من قبلنا لتسجيل حقوق هذه الخطوط من أجل وضعها في خدمة المندائيين والخدمة الكومبيوترية عامة.

* وهل سيساعد ذلك في إمكانية إستخدام الكومبيوتر لتعليم اللغة المندائية؟
- لا شك أن ذلك سيعد أحد الإسهامات خاصة وأن البرامج الكومبيوترية أصبحت اليوم من أكثر البرامج التعليمية فعالية، فهي وسيلة فردية وجماعية ويمكن أن تعتمد الصوت والصورة والحركة. فإذا ما تم بناء برامج تعليمية على وفق مبادئ التعليم المبرمج فإن ذلك سيساعد أبناءنا في تعلم لغتهم. والحقيقة أني قد قطعت شوطا في بناء برنامج تعليمي من هذا النوع الا ّ أن هنالك مشكلة تقنية تتمثل في تحويل برنامج" البور بوينت" الذي إعتمدته الى إسلوب عرض إعتيادي يستقبله أي كومبيوتر. وأنا أطلب مساعدة شبابنا المتخصص لحل هذه المشكلة وتسهيل إنجاز هذا العمل الذي يمكن أن يكون بين أيدي عامة المندائيين قريبا ً.

* هل تعتقد أن كتابك القيم في تعليم المبادئ الأساسية للغة المنداية يصلح كمنهج تدريسي للصغار والكبار على السواء في داخل البيئة العراقية وخارجها؟
- إن كتاب : "أتعلم المندائية" الذي قمت بوضعه يصلح كأساس لتعلم اللغة المندائية قراءة وكتابة. لقد تم بناؤه على وفق أسس التعليم الصحيحة للمرحلة الأولى في إكتساب اللغة. وهو منهج موجه من حيث مستواه الأولي وصوره الى الأبناء الذين نسعى أن يقدموا على تعلم لغتهم الأم. كما أنه يصلح لكل من يسعى للبدء بتعلم هذه اللغة على إختلاف مراحلهم العمرية. ولذلك فقد أقرت جامعة برلين الحرة إعتماده لتعليم اللغة المندائية لطلاب قسم الدراسات السامية، كما طلبت نسخا منه جامعات عديدة لحد الآن مثل: جامعة هايدلبرغ و جامعة كوتنكن في ألمانيا ، جامعة لندن، جامعة لايدن في هولندا، جامعة هلسنكي في فنلدا.
وتأسيسا على هذا المستوى يمكن وضع المستويات الأخرى بما تتطلبه من نصوص وتمرينات وقواعد.. وهكذا. والأمل معقود على كل من له معرفة وقدرة للإشتراك في لجنة متخصصة لهذا العمل. ولنا شرف التعاون مع الجميع خدمة لهذا المجال الحيوي من مجالات المحافظة على المندائية وبقائها. وأشكركم.