حوار مع نقاد عراقيين حول الإعلام العراقي: حقيقة أم وهم؟

صفاء ذياب من بغداد: في العام 2004 هاجمت القوات الأميركية مقر جريدة (الحوزة) التابعة لمقتدى الصدر، ودمرته وأغلقت الجريدة حتى إشعار آخر، على إثرها بدأ أنصار جيش المهدي بقتال القوات الأميركية وصولاً إلى أحداث النجف الأشرف التي لم تنته إلا بتدخل كل الأطراف العراقية، السياسية والدينية. هذه الحادثة وضعت حرية الإعلام العراقي على المحك! خصوصاً بعد ظهور أكثر من 250 جريدة في تلك المدة لعدم وجود أية رقابة على إصدار المطبوعات، فكل من المال استطاع ان يصدر جريدة على حسابه الخاص، فضلا عن الأحزاب التي زادت على المائة حزب، إذ اصدر كل واحد منها جريدة باسمه...
وقبل مدة حاول البرلمان إقامة دعوى جزائية على الشاعر والكاتب العراقي احمد عبد الحسين الذي كتب عموداً في جريدة الصباح انتقد فيه عمل البرلمان والحكومة العراقية المنبثقة عنه... عندها انبرى أكثر من كاتب للدفاع عن هذا الصحفي الذي لم يفعل شيئاً سوى انه قال رأيه بكل صراحة ووضوح، وهو المعروف عنه جرأة الرأي وعدم تخوفه من أي شخص...

إذن، أين هي حرية الإعلام العراقي؟
خلال الأشهر الماضية تصاعدت لغة التهديدات من قبل المجموعات المسلحة والأحزاب الدينية على كل الصحفيين، فما ان يقول صحفي ما رأيه حتى يقتل أو يهجر عن طريق التهديد، وهذا نابع من تخوف هذه الأحزاب من قول أية كلمة ضدها، وهي التي لا تترك يوماً إلا بخنق صوت من الأصوات الصحفية والإعلامية... والأسوأ من ذلك أننا نعيش في حالة فوضى تثبت كل يوم اننا بلد يعيش بالقدرة الإلهية، فعلى الواقع لا نرى أي ملمح من ملامح الحكومة، العبث الذي تتصرف به قوات الشرطة والحرس الوطني يشعرنك بأنها لا تتبع لأية جهة أبداً، أو ان كل أفرادها تابعين لأحزاب ما وتأتمر بأمرهم، كل هذا والإعلامي العراقي يعيش على هامش فتوى جاهلة، إما ان تتركه حيا، أو ترميه وراء الشمس!
في خضم هذه الأوضاع حاولنا استنطاق بعض الإعلاميين عن قضية حرية الإعلام، وما يعانون منه جراء ما نراه كل يوم:

هل لدينا حرية إعلام؟
* الكاتب والإعلامي سعد محمد رحيم الذي يعمل مراسلاً لجريدة المدى في بعقوبة، وهي من اخطر مناطق النزاع الطائفي والحرب المستمرة، يرى ان حرية الإعلام غير ممكنة في ظل تدهور الأوضاع الأمنية، فكيف يستطيع أي صحفي الكتابة وهو مهدد في أية لحظة بتصفيته على يد أي من الجماعات المسلحة أو الميليشيات، فيقول:
عراقياً، في الظاهر، هناك فوضى وانفلات في قطاع الإعلام... وهذا يمنح انطباعاً بتوفر حرية واسعة إن لم نقل مطلقة يستطيع الإعلامي استثمارها في نقل الخبر والتعليق عليه أو في التعبير عن رأيه حول القضايا الراهنة، والكتابة عمّا يشاء وكيفما يشاء من غير حسيب أو رقيب. لكني أجد الأمر مختلفاً تماماً فالإعلامي العراقي، اليوم، وقبل أن يمارس وظيفته يمارس على نفسه رقابة صارمة ويحسب بدقة وحذر حساب أكثر من جهة وأكثر من سلطة، سلطات اجتماعية وسياسية ودينية منبثة في كل جزء من نسيج المجتمع مقابل ضعف قدرة الدولة في كبح جماحها... في الحقيقة يتعامل الإعلاميون العراقيون اليوم مع فرشة واسعة أو سلسلة معقدة من المحرمات، ولا أقول أن الإعلامي العراقي قد خضع أو استسلم تماماً، بل هناك الكثير ممن يؤدون مهمتهم بشجاعة في حقول ألغام، وقد دفع بعضهم حياته ثمناً لذلك، ناهيك عمن هُدد أو اعتقل أو اختطف أو أجبر على السكوت.
لدينا دستور دائم يكفل حرية الصحافة والإعلام، لكن السلطة التنفيذية في الوقت الحاضر بسبب الظروف المعروفة ليس بمستطاعها حماية الصحافيين والإعلاميين إذ تسعى جهات، لا يعلم إلا الله عددها، في الحكومة أو خارجها لتكون دولاً داخل الدولة القائمة.
هناك مشكلة حرية إعلام في العراق، نعم، وهي جزء من المشكلة العراقية الكبيرة، جزء من حالة المخاض العسير والمؤلم لتأسيس الدولة العراقية الجديدة. وأعتقد أن هذه المشكلة لا يمكن حلها إلا في إطار حل بقية المشاكل والمعضلات السياسية والاقتصادية والأمنية. وإلى ذلك الحين ستكافح الصحافة والإعلام لإثبات وجودها وأداء دورها.
أجد أن جزءاً من الفوضى الحالية سببها فوضى الإعلام، إذ يستطيع أي شخص أن يدلي بدلوه ويتكلم ويكتب حول القضايا الخطيرة والحساسة بغض النظر عن إمكاناته ونواياه، وللأسف أتاح توسع تقنيات الإعلام والاتصال المتطورة وسهولة استخدامها الفرص للجميع- من يسعى إلى الحقيقة ومن يلفقها لأسباب شتى- وفي خضم هذه الفوضى يجري الترويج للطائفية والشوفينية وممارسة العنف وترسيخ قيم الكراهية والأحقاد، ومن ثم تتم تغذية كل ما يفضي بالأمور إلى تمزيق البلد وقتل نخبه وإضاعة موارده المادية والبشرية وتبديد فرصه في التحرر والاستقلال والتنمية.
لا معنى لمقولة quot;حرية التعبير والنشر والإعلامquot; في ظل انعدام الأمن وإذ يسرح ويمرح القتلة والخارجون على القانون ودعاة الفوضى والخراب بحرية... لست مع الرقابة والحجر على الآراء والأفكار والمعلومات من الناحية المبدئية. لكن في الوقت نفسه لا بد من وضع حد لأولئك الذين ينهشون في جسم البلاد ويدفعون بحياتنا إلى العدم، وبمستقبلنا إلى الظلام.

حكومة عاجزة... وإعلام صامت
* عبد الستار جبر، محرر صفحة الرأي في جريدة المؤتمر، يرى في ان سبب تقيد الإعلامي العراقي هو عجز الحكومة تجاه استفحال الحركة الطائفية في العراق، التي تتحكم في الشاعر العراقي، ومن ضمنه الحرية الإعلامية:
أكثر من مائة صحيفة بين يومية وأسبوعية، فضلا عن المجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية، ناهيك عن انتشار القنوات الأرضية والفضائية (إذاعيا وتلفزيونيا)... انه مشهد إعلامي عراقي ثر يعج بتنوع وسائله المسموعة والمقروءة والمرئية، إذا ما قورن بما كان عليه حاله تحت سقف الدكتاتورية السابق.
لكن، على الرغم من هذا الثراء الإعلامي الواضح، والتغير الذي طرأ على الواقع الإعلامي في العراق بعد 9/4 هل يمكننا الحديث عن وجود حرية تتمتع بها وسائله؟ والحرية هنا لا تعني انك تستطيع ان تقول ما تريد فقط، بل ان تكون بمأمن من النتائج المترتبة على ما قلته، بمعنى ان تكفل لك حرية القول وحماية حقك فيما تريد التعبير عنه...
الجواب عن هذا السؤال يضعنا أمام خارطة ملتبسة لحرية الإعلام في العراق.
فالعراق أصبح البلد الأول في العالم الذي يتعرض فيه الإعلاميون إلى القتل والاختطاف والابتزاز، حسب التقارير التي أصدرتها منظمات حقوق الصحافيين العالمية، انه مؤشر واضح على تدهور الحريات الإعلامية في هذا البلد، لكن في المقابل هنالك كما اشرنا ثمة تنوع وتكاثر في عدد الوسائل الإعلامية وهو مؤشر جيد وصحي لحرية الإعلام، وان كانت تمثل نصف الحرية، فما فائدة ان تكون لك حرية إصدار جريدة أو تأسيس إذاعة أو قناة تلفزيونية أو إصدار مطبوع ما وتجد نفسك مقيدا بأغلال الخوف من التعبير بحرية عما تريد قوله، دون ان تكفل لك حرية التعبير...
غير ان الواقع الإعلامي العراقي الراهن يعكس أيضاً صورة أخرى متناقضة، فبعض الصحف منذ ان أنشئت وهي تصدر خطابا يعكس هويتها الإعلامية، استطاعت من خلاله ان تقول ما تريد، من دون ان نسمع انها تعرضت للإغلاق من قبل الحكومة، على الرغم من انها تتبنى خطابا تحريضيا ضدها يسهم في تعبئة الشارع طائفيا ويدفع إلى مزيد من العنف، كذلك لم نسمع ان إعلامييها قد تعرضوا إلى القتل أو الاختطاف أو الابتزاز أو زجوا في السجون.. فمن يمنح حرية الإعلام في العراق ومن يصادرها؟
الصورة المتناقضة والمشهد الملتبس للإعلام العراقي، ومؤشر حريته الذي يتذبذب بين الإيجاب والسلب، يعكس صراع الإرادات والهويات التي تتحكم في خارطته السياسية والاجتماعية والثقافية، وتطرح أمامنا قضية اخطر هي اننا نعاني من أزمة في حرية التعبير قبل ان تكون أزمة في حرية إعلامنا الراهن، بل ان ما يعانيه الواقع الإعلامي يعكس هذه الأزمة في ابرز تجلياتها... فالدولة بدستورها الجديد أقرت حرية التعبير وحرية الإعلام لكن الحكومة عاجزة عن كفل وصيانة وحماية هذا الحق، بغياب الإرادة القانونية وعجز أجهزتها التنفيذية بإزاء استفحال إرادة الكيانات الطائفية التي تتحكم في حيثيات الوقائع اليومية للشارع العراقي.

أسئلة في صناعة الأزمة
* الناقد والإعلامي علي حسن الفواز الذي يعمل في قناة آشور الفضائية، يرى ان حديث الإعلام العراقي الآن هو حديث تصفية حسابات بين القوى المتنازعة، إذ يجد لدى كل قناة او صحيفة تابعة لجهة ما خطاباً اعلامياً من اجل طمس الخطاب الإعلامي للجهة الأخرى، أو الحزب الآخر:
لا يملك المشهد الإعلامي العراقي إلا ان يكون صورة فضائحية للمشهد السياسي المضطرب!! إذ يحمل كل تداعيات السياسة المصنوعة بامتياز محلي، والفاقدة لحيازة الشروط المهنية وحسن إدارة الأزمة... لذا يبدو (الإعلام العراقي) المتداول أشبه بصانع الاستعراضات من جانب، والمسوق الماهر للعبوات الكلامية فيها، مثلما يبدو من جانب آخر تأملياً لتمظهرات السياسي/ السلطوي، والميليشياوي/ العقائدي، كاشفاً عن نزعة اجتماعية وذرائعية، لكنها تخلو من (النقدية) الحية والمنهجية. إزاء هذا يكون الحديث عن حرية الإعلام العراقي حديثاً عن خطاب الأزمة ذاتها، أزمة الدولة الجديدة، أزمة المؤسسات، أزمة العلاقة المشوشة بين الهويات والمكونات والثقافات داخل المجتمع!
وان إسقاط مفهوم الحرية على حساب التداول الإعلامي، يعني إعادة تصنيع هذه الحرية لتكون جزءاً فاعلاً في صراع الإرادات وصراع السياسات والإيهام الغرائبي بأن المعادل الموضوعي لهذه الحرية هو محاولة في طرد ثقافة المقموعات، حتى تبدو هذه الثقافة وكأنها في نوبة عريٍّ دائم!
ان غياب البرنامج والمشروع الفاعلين بسياقاتهما العملية والتخطيطية، وكذلك غياب التخطيط الاستراتيجي للمادة الإعلامية أسهم في نشوء ظاهرة العشوائية في الصناعة الإعلامية، وربما النمو التراكمي غير واضح الملامح على مستوى الإعلام المكتوب والإعلام المرئي... إذ تبدو حرية الإنتاج وحرية التسويق وحرية صناعة الخبر والموقف والمعلومة، محمولة على جانب أيديولوجي أكثر مما هو مهني وإجرائي... فضلاً عن غياب التقاليد أو انحسارها تحت ضغط المهيمنات الاستثنائية. وتحول بعض الإدارات المدنية في الخطاب الإعلامي كنقابة الصحفيين وبعض الجمعيات والمنظمات، إلى واجهات لجهات معينة لها حساباتها في إنتاج الخطاب الإعلامي والتأثير على الرأي العام هنا وهناك.
ان حديث حرية الإعلام هو حديث تصفية حسابات بين بعض القوى أيضاً... لأنه يعود في أزمته إلى مرجعيات الصراع لهذه الأزمة بكل تفاصيلها وشجونها، فضلاً عن الغياب التام لأي تشريع وقانون لإصدار المطبوعات الذي يكفل المهنية في العمل ويحد من العشوائية والفوضى التي تبدو هي السمة الغالبة في المشهد الإعلامي اليومي.

خطاب الإعلام وصورة الوهم
* في حين يرى الصحفي خضير الزيدي، ان الخطاب الإعلامي العراقي ما زال مؤدلجاً كما كان في السابق، فبدل الحزب الواحد، والخطاب الشوفيني السابق، تحولت كل صحيفة وقناة إلى خطاب يعبر عن أيديولوجية هذا الحزب أو ذاك، لهذا فإننا لم ندخل في الخطاب الإعلامي الحر حتى هذه اللحظة:
توسعت رقعة الخطاب الإعلامي في جغرافيا الموت أكثر مما قدمت نموذجاً غربياً مبنياً على الاستقامة في أغلب المواضيع الحساسة، فكان خطاباً يحتمل الوجهين دون أن نجد البديل مع ان ارتكاسته لم تأت من عدم أو أن مصداقيته لم تحل لغزاً، بل فرضت نوعا من الحل قياسا إلى زمن مضى مخلفاً تداعيات مرحلة تاريخية. ليس في اليد ما يشير إلى (زهرة) الإعلام الحقيقي وان كنت لن أنفي وجود (عطرها) لكن الفرق بين الرؤية البصرية والحسية مسافة خط متعرج مع الاعتراف أن الشرارة التي تخلف ناراً حامية لا ينظر لها على أنها من رماد الأمس من دون التبرع بشيء من (دفء) يلمنا جميعا. اليوم لا تحجب (قوة ما) مخفية وسط ركام مشوش ضوء شمس أتت من بعيد. ليس الأمر بهذه البساطة في حقيقة الأمر لك أن تطرح أية رؤية معاكسة وان تجد البديل عنا في نفس الوقت أمام كم هائل من الصحف والمجلات وهناك حرية تعبير (لكنها مكبوتة نتيجة رصيد الماضي النفسي) وفي الدليل قوة من حضور هذا الشيء.
طالما الخوف والقلق يسيطران على هواجسنا لن نصنع قرارا يعترف بأن رؤية اليوم اختلفت عن رؤية الأمس في الخطاب الإعلامي من حيث التنوع في الرؤى أو نقل التوجهات المعرفية أو التوجسات، الصورة تبدلت، تغير إطارها علينا أن نبدل شخصيتها على أن يكون الجمال والمصداقية هما البديل (الصوري الحامل لوجهها الجمالي) وربما يكون الوهم (الإعلامي) من سمات التبدل، لكنه وهم جميل يخدعنا ونحن نلهث وراءه... أما حقيقته فهي إشراق لم يكن في الأمس القريب إلا قبة عالية في الروح، قبة لا تراها العين... وهنا نتساءل ما الذي تغير في الإعلام؟ تغيرت أشياء ميتة وبقت روحها ترفرف فوق رؤوسنا نحن الذين لم نفهم (مدلول) الحرية بعد لان الفوضى هي التي تدفع بنا وبأصابع من رماد إلى ما يسمى (دالها) لن نعي صورة الوهم والحقيقة وفي النفس شيء من (لكن) و(أين) و(ماذا بعد) أو كلمة واحدة (متى) لقد لعب الإعلام دورا بارزا وفعالا في اجتراح الحقيقة والوهم معا، وهذا بدوره عائد إلى الخطاب السياسي المؤدلج للوسيلة المعبرة سواء الصورة المرئية أو غيرها من صور الخطاب الإعلامي لكني لن أنكر تلك المقولة التي صرح بها منذ سنوات عديدة (رولان بارت) من اننا نعيش حياة الصورة وهذا ما ينطبق على ثنائية صورة الإعلام بين الحقيقة والوهم.

التسلط قبل كل شيء
* يرى الكاتب والإعلامي ساطع راجي، الذي رفض العمل في أية جريدة، وفضل الكتابة كما يحلو له في أية جريدة أو مجلة، ان السبب الرئيس في تقيد الإعلامي هو تسلط الإعلاميين الإداريين على زملائهم، واهم شرط في حرية الإعلام هو تحرر هؤلاء من رغبة التسلط هذه:
لا بد من تحوير أي سؤال عن حرية الأعلام في العراق إلى (مستوى الحرية) لأننا غير قادرين على التعامل مع مفهوم الحرية كمطلق.
وفي هذا السياق يكون الإعلام في العراق قد حقق طفرة، صحيح انها جاءت بما يشبه الصدفة إلا انها جاءت على أية حال، فمن الناحية القانونية أو الشكلية هناك حرية واسعة تفوق ما هو موجود في كثير من بلدان الشرق الأوسط، ومن المفارقة ان من بين الإعلاميين الحاليين من كان موجودا في مؤسسات الإعلام الرسمية في عهد النظام السابق ويشكو اليوم من المنغصات أو يشكك في حجم التغيير الذي شهده الإعلام، طبعا لأنه فقد امتيازه كجزء من مؤسسة السلطة، في حين ان هذا (الامتياز) في حد ذاته هو قتل لحرية الإعلام.
وفي مقابل الانفتاح القانوني هناك عدد من الضواغط على تزايد الحرية الإعلامية، في مقدمتها طبعا الوضع الأمني، وكذلك غلبة الإعلام الحزبي على الساحة العراقية، مما يجعل الإعلامي ملزما بسياسة الحزب... وهذا طبعا حق للحزب الذي يمول الوسيلة الإعلامية، ولن تحقق الإرادة الإعلامية المزيد من التحرر إلا مع ظهور وسائل الإعلام المستقلة والتي بدورها لن تشرع في الظهور إلا مع وجود سوق إعلانية قوية تمكنها من تمويل نفسها وتحقيق الأرباح، ما يدفع إلى حلقة الأمن من جديد لتحقيق التنمية واستقرار النشاط الاقتصادي في العراق، وحتى في تلك الظروف ستكون هناك دائما علاقات ومتطلبات عملية تضغط على المؤسسة الإعلامية.
يبقى دور الهاجس الاجتماعي وما يتبعه من تحوطات على مجموعة من المحرمات السلوكية والفكرية، وهذا الهاجس يحتاج إلى جهد نقدي كبير ووقت حتى يتفكك. إلا أن اهم شرط لنمو حرية الإعلام هو تحرر الإعلاميين من رغبة التسلط على زملائهم عبر آليات إدارية، حيث يجد الإعلامي- الإداري لذة في وضع الشروط والمحددات أمام زملائه.

التنظيم هو ما ينقصنا
* عمران العبيدي، مسؤول القسم السياسي في جريدة الاتحاد، يرى ان هناك حرية إعلام واقعية في العراق، ولكن ما ينقص هذه الحرية هو التنظيم فقط، بشرط ان لا يتحول هذا التنظيم إلى قيود جديدة على الإعلامي العراقي:
يختلف الأشخاص في قضية تحديد وتقييم حرية الصحافة بصورة خاصة والإعلام بصورة عامة في العراق بعد سقوط النظام السابق وسبب الاختلاف نابع من الاختلاف في الرؤية الحقيقية لمعنى الحرية الإعلامية ولكي لا نطيل في هذا الموضوع علينا الإقرار أولا ان ليس هناك حرية مطلقة، بل ان كل عملية لا بد ان تحكمها مجموعة محددات، وهذه المحددات تختلف من مكان لآخر ، وما يجري على الساحة الإعلامية العراقية يمكن ان ينظر له من أكثر من جانب وبالشكل التالي:
أولاً: النظرة الأولى يجب ان تنطلق من داخل المؤسسات الإعلامية التابعة لجهات حزبية وحركات ففي مثل هذه الوسائل لا بد من وجود ضوابط للعمل لأن هذه الجهات لها مجموعة متصلة من العلاقات مما يجعلها لا تستطيع التطرق لكثير من القضايا التي تخلق لها الحساسية مع تلك الجهات ومن ثم لا بد أن تراعي في عملها الإعلامي ذلك حفاظا على تلك العلاقات من دون تشويه وهي بذلك تمارس نوعا من القيود لان ليس كل ما هو صحيح يمكن قوله وفي أي موضع ويجب علينا ان لا ننكر لها ذلك الحق مطلقا حفاظا على مصالحها وهذا بالتأكيد ينسحب على وسائل الإعلام المملوكة لأشخاص لان هؤلاء لا بد ان يمتلكوا توجهات داخلية معينة تجعلهم يضعون قيودا على النشر في وسائلهم الإعلامية وان كانت بشكل اخف.
ثانياً: الساحة العراقية شهدت توسعا إعلاميا هائلا يفوق الكثير من دول المنطقة وهذا ما أطلقت عليه يوما بالانفجار الصحفي وهو يؤكد شغف العراقي بالتحرر من القيود وهو يعبّر عن حرية واسعة من خلال المنظور الخارجي لان الجهات التي تمتلك تلك الوسائل تنتمي إلى جهات مختلفة من ناحية التوجه وهو ما يسعدنا حقا لأنه يمثل حرية الإعلام الحقيقية والدليل على ذلك ان تلك الوسائل تتفنن في نقد الجهات الرسمية والحكومية من دون محاسبة وهذا هو منطق الحرية الإعلامية بأن تقول ما تراه صحيحا وان لم يعجب الآخرين.
ثالثاً: هذا لا يعني ان حرية الإعلام تتجه بالاتجاه الصحيح لها، لان هذه الحرية رافقها انفلات وحرية نشر غير منضبطة مما أتاح لبعض وسائل الإعلام والصحافة بالذات والتي يطلق عليها بالصحافة الصفراء والتي استغلت هامش الحرية ذلك بشكل غير صحيح بحيث أصبح التلفيق والشتيمة والتشهير و(فبركة) المواضيع ديدناً لها وهي بذلك تبتعد عن المهنية الإعلامية المطلوبة وأصبحت العملية الإعلامية وكأنها تنحدر نحو الفوضى أكثر من اقترابها من العملية الإعلامية الصحيحة وبطبيعة الحال هذه لا تشكل نسبة يعتد بها ولذلك فإن ما نحتاجه الآن هو قانون إعلام حقيقي ينظم العملية بإطارها الصحيح لتكون الوسائل الإعلامية مسؤولة عن كل شاردة وواردة تصدر منها.
رابعاً: هناك عامل يبدو له بعض التأثير وهو الإرهاب الذي يجعل من بعض الأقلام غير قادرة على نقد بعض الجهات وهو محدد لحرية الإعلام ولكنه زائل مع تحسن الوضع السياسي والأمني في البلد.
وأخيراً يمكن القول ان ما يحصل الآن في وسائل الإعلام العراقية هي حرية إعلام صحيحة ومفرحة وجل ما نحتاجه هو التنظيم على ان لا يتحول ذلك التنظيم إلى قيود وبذلك يكون قد امتلكنا إعلاماً حرا حقيقيا.