في كلمات مختصرة يمكن تعريف العلمانية بأنها تعني فصل الدين عن الدولة بمعنى أن لا تطبق الدولة أي دين وأن يكون سكان البلاد أحرارا في معتقداتهم وأن يمارسوها في حياتهم الشخصية، إلا أن مثل هذا النوع من العلمانية لم توجد خارج الكتب في أي مكان، إذ إن الأنظمة التي سمت نفسها علمانية، أخذت على عاتقها مسؤولية إقصاء الشعب عن الدين ومعاقبته على ممارساته لمعتقداته.


لم يكن النظام العلماني التركي الذي حل بالبلاد بعد إلغاء الخلافة أو الدولة العثمانية استثناء من ذلك، حيث ألغت الدولة كل ما كان له صلة بالدين الإسلامي حتى منعت قراءة القرآن الكريم والآذان باللغة العربية وأجبرت الشعب على ارتداء القبعة والملابس الغربية. وأطاح الكثير من العمائم برؤوس أصحابها بسبب معارضتها الإجراءات الجديدة. وبالتالي فقد المجتمع التركي تراثه الحضاري المتمثل في ملابسه وطربوشه. وحلت مكانها الملابس الغربية بجميع أنواعها وفق الخطة الرسمية.

وحمى دستور البلاد الإجراءات الجديدة وبالتالي أصبح الماء والخمر سواء. كما لم يعد أي فارق بين الحجاب والتنورة قانونيا؛ لكن النظام واصل محاربته الحجاب. والآن يمكن أن ترى في إسطنبول امرأة محجبة إلى جانب أخرى تلبس تنورة أو ترتدي ملابس يصعب إطلاق كلمة الملبس عليها. كما أن شواطئ مرمرة والبوسفور في آن واحد تستضيف الأسر المحافظة إلى جانب quot;ثنائياتquot; لا تنفك عن البوس والتقبيل وحركات تعتبر مخلة بالحياء في المجتمعات الإسلامية.

وهذا الوضع لا يزال مستمرا رغم حكم الإسلاميين للبلاد لأكثر من عقد واحد. وبالتالي لا تزال الحكومة تفرض حظرا على ارتداء الطالبات - اعتبارا من الصف التاسع- والمدرسات من لبس الحجاب في محيط المؤسسات التعليمية. وهذا القانون مطبق على جميع المؤسسات التعليمية حتى المؤسسات التي تديرها quot; حركة الخدمة quot; ndash; يمكن أن نتطرق إلى التفاصيل عنها في مقال مستقل- رغم أنها حركة إسلامية.
أما التغير الذي طرأ على المجتمع التركي بعد وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، هو أن المواطنين أصبحوا أحرارا في ممارساتهم الدينية، بمعنى أن الدولة لا ترغم أحدا على أداء الصلاة؛ لكنها في الوقت نفسه لا تمانع من أراد أن يصلي. كما أن الحكومة الحالية ترغب في ربط تركيا بماضيها بأساليب تدريجية مختلفة؛ لأن مشوار التغيير صعب جدا. كما أن سرّ نجاحها يكمن في التدرج، إذ إنها لا تتسرع في الأمور مخافة أن تقلب الطاولة عليها. وهذا ما جعل العلمانيين يتمرغون على الجمر ولا يجدون حيلة لإثارة الشعب ضدها لسحب البساط من تحت قدميها.

ولا تفوت الإشارة إلى أن تركيا ولاسيما مدينة إسطنبول دائما أكدت حرية الممارسات الدينية. ولا تزال كنيسة بجوار مسجد في منطقة إسكودار في إسطنبول ndash; لا يفصل بينهما إلا شارع ضيق- شاهدة على سعة صدر الدولة العثمانية التي قبلت ذلك الوضع من دون أي جدال، وإن كان بوسعها إزالة الكنيسة بأمر واحد. وهي أوت يهود أندلس كما احتضنت المسلمين المطرودين من ذلك الفردوس المفقود. وهؤلاء اليهود تقووا مع مرور الوقت وكانوا رأس حربة المجموعة التي أطاحت بالدولة العثمانية وعملت جاهدة لـ تغريب تركيا وإبعادها عن العالم الإسلامي. ولا يزالون يسيطرون على وسائل الإعلام العلمانية.

ومن الغريب في هذه الخريطة أن العثمانيين هم quot;الحاضر الغائبquot; في إسطنبول، بقصورهم ومساجدهم وأسواقهم وأبنيتهم الرسمية. ولا يزال معظم تلك المباني تحت الاستخدام، في حين تم تحويل بعضها إلى متاحف. مثلا إن المقر العام للبريد لا يزال في مبنى أنشأها العثمانيون للغرض نفسه، في حين أقيم في جزء منه متحف لتاريخ البريد في تركيا. كما أن الشعار الرسمي للعثمانيين الذي يسميه الأتراك quot; عثمانلي آرماسيquot; يباع في الأسواق كهدية خاصة لإسطنبول. ويتم تعليقه في الكثير من الأماكن والبيوت كلوحة فنية للتزيين... والسؤال المطروح الآن هو: هل سيتمكن النظام التركي الجديد من إنشاء جسر بين أتراك اليوم وبين تاريخهم قبل عام 1924؟

الحلقة الأولى:
http://www.elaph.com/Web/LifeStyle/2013/7/823856.html?entry=travel

الحلقة الثانية:

http://www.elaph.com/Web/LifeStyle/2013/7/824242.html?entry=travel