على الرغم من أن عيني أغنس سليمتان، إلا إنها لا يمكنها أن ترى إلا عنصرًا واحدًا في كل مرة، وتعجز عن رؤية كل ما عداه من حولها. وتكشف حالة أغنس الفريدة النقاب عن حقائق مذهلة حول الطرق التي ندرك بها العالم من حولنا. انظر حولك، ماذا ترى؟ أطفال تلعب بالخارج أو مكتبك أو قطارًا مكتظ بالناس. فلكي تدرك هذه المشاهد البصرية المعقدة، يجب أن يعالج الدماغ كل عنصر على حدة، مثل أنف صديقك أو أذن زميلك أو الباب أو مقعد أو حذاء، ثم يربط كل هذه الأشياء ببعضها ليصبح العالم من حولك ذا معنى. ولكن بعض الناس لا تستطيع أدمغتهم أن تركب أجزاء المشهد معًا للحصول على صورة واضحة متكاملة، وفي المقابل، تعالج عنصرًا واحدًا فقط، أو جزءا منه، في كل مرة. ويطلق على هذه الحالة العجز عن إدراك أكثر من عنصر في آن واحد أو "العمه الترابطي". وقد وفرت لنا حديثًا حالة غير معتادة من العمه الترابطي فرصة فريدة للكشف عن خفايا هذا الاضطراب، وفهم كيف يعمل العقل الواعي والعقل الباطن (اللاوعي) في تناسق وانسجام لكي نرى في النهاية الواقع من حولنا. بدأت القصة حين أصيبت أغنس (ليس اسمها الحقيقي) بمرض قصير استدعى إجراء اختبار عصبي. وكانت نتائج الاختبار معتادة، فيما عدا أنها كانت تجد صعوبة في وصف ما يحدث في مجموعة من الصور التي عرضها عليها طبيبها المعالج، جويل شينكر، بجامعة ميسوري بولاية كولومبيا. على سبيل المثال، كانت إحدى الصور تظهر صبيًا يسرق كعكًا من المطبخ في أثناء انشغال أمه بغسل الأطباق. ولكن أغنس لم تصف إلا الستائر والنافذة، ولم تذكر أي شيء آخر في الصورة. وبعد فترة من الوقت، نظرت مرة أخرى إلى الصورة، ووصفت هذه المرة الطفل الذي يسرق الكعك، ولكنها لم تستطع أن تصف أي جزء آخر من المشهد، لا الستائر ولا النافذة ولا أمه. هذه الحالة هي نوع من أنواع العجز عن إدراك أكثر من عنصر في آن واحد، فهي تدرك كل عنصر على حدة، ولا تستطيع أن تجمع العناصر ككل في مشهد أكبر. ولكن على عكس أغلب المصابين بهذه الحالة، التي تصاحب عادةً مرض الزهايمر أو أنواع أخرى من الخرف، كانت هناك مشكلة أخرى في الدماغ. وهذا يعني أن الباحثين يمكنهم الكشف للمرة الأولى عن موطن الخلل. لفتت حالة أغنس انتباه شينكر، الذي قال: "عندما عرضنا عليها صورة الولد الذي يسرق الكعك، كانت تقول إنها تستطيع أن ترى خطوطًا كثيرة، ولكن لم تميز منها سوى طبق. ونظريًا، إذا عرضنا عليها الصورة نفسها عدة مرات، ربما تتمكن من وصف المشهد بأكمله، ولكن كل عنصر على حدة، ولن تستطيع أن تجمع العناصر كلها قط. لأنها لم تر المشهد ككل". العجيب في حالة أغنس، أنها كانت تعيش بمفردها، وتؤدي أعمالها في المنزل بلا مشاكل. ويقول شاكنر: "في الواقع كانت تتساءل لمَ تحتاج أن تراني من الأصل؟ فهي لم تصطدم بالجدران ويمكنها أن تجد البازلاء والجزر والدجاج، وتعد وجبات كاملة بنفسها. ولا نعرف كيف كانت تفعل هذا كله؟" ويقول شاكنر إن الاستنتاج المنطقي الوحيد أن دماغ أغنس يعالج المعلومات القادمة من العالم المحيط بها لا شعوريًا، ولا يستطيع عقلها الواعي أن يصل إلى المعلومات. وقرر شينكر أن يضع نظريته موضع اختبار باستخدام اختبار ستروب، حيث يُعرض على المشاركين أسماء الألوان مكتوبة بالألوان نفسها، فكلمة أحمر على سبيل المثال، كُتبت بالحبر الأحمر، وهكذا كلمة أزرق وأخضر، ويتمكن المشاركون من ذكر لون الحبر الذي يطابق اسم اللون أسرع من الحبر الذي لا يطابق اسم اللون. ولكن أدخل شينكر تغييرًا على الاختبار، إذ استخدم الحرف الأول فقط ليرمز إلى اللون. ثم جمع مجموعة من الحروف الصغيرة في شكل حرف واحد كبير. على سبيل المثال، جمع مجموعة من حروف R الصغيرة، (الذي ترمز إلى اللون الأحمر باللغة الإنجليزية)، لتشكل حرف G (الذي يرمز إلى اللون الأخضر). وكان الغرض من هذا الاختبار معرفة الوقت الذي سيتغرقه المشارك لتمييز لون الحبر. وحين عرض شينكر وزميله ماثيو روبرتس، بولاية ميسوري أيضًا، على أغنس هذه الحروف، قالت إنها لا ترى إلا الحروف الصغيرة. وقال شينكر: "عرضنا عليها مجموعة من حروف b الصغيرة (يرمز للون الأزرق) التي تشكل حرف G (يرمز إلى اللون الأخضر)، ولم تر إلا الحروف الصغيرة. وحتى عندما طلبنا منها تتّبع الحرف الكبير بإصبعها، لم تتمكن من إدراكه." وعند هذه النقطة، أصبح الأمر أكثر غرابة، إذ لم تختلف إجابات أغنس عن الكثير من المشاركين في هذا الاختبار، فقد تأثرت سرعتها بوجود الحرف الكبير. إذ استغرقت أغنس وقتًا أقل لتمييز لون الحبر الذي يطابق الحرف الكبير، من الوقت الذي استغرقته في تمييز لون الحبر الذي لا يطابق الحرف الكبير. وهذا يبين أن ثمة جزءًا من الدماغ يعالج الحرف الكبير، على الرغم من أنها لا تستطيع أن تصل إلى هذه المعلومات إن أرادت ذلك عن قصد. بسبب قدرتنا على معالجة كل ما يدور من حولنا لا شعوريًا أفسحنا المجال للعقل الواعي ليؤدي المهام الأكثر أهمية. ونحن نعتمد على هذه الهبة الفطرية، على الرغم من أننا لم نتردد لحظة في استخدامها . وضرب شينكر مثلًا ب"أثر حفل الكوكتيل"، ويقول شينكر: "لنفترض أنك تتحدث إلى شخص ما في إحدى الحفلات، وكنت محاطًا بالكثير من الناس وأصوات قرع الكؤوس، فإذا طلبت منك أن تذكر لي ما يقوله اثنان يتحدثان في أحد أركان الغرفة، فإنك في الغالب لن تميز كلمة واحدة من حديثهما. ولكن إذا ذكر أحدهما اسمك، ستصغي فجأة إلى حديثهما". وتابع شينكر: "إذا سألتك فيما بعد، مَن ذكر اسمك؟ من المرجح أنك ستستطيع أن تعرف ما إن كان المتحدث رجلًا أم إمرأة، وربما ستعرف من هو، بل وحتى بعض الكلمات التي قيلت قبل ذكر اسمك". ولن تتمكن من معرفة هذه المعلومات ما لم تكن دماغك تعالج كل ما يدور من حولك في هذه الغرفة. ولكن لن تتدفق المعلومات إلى منطقة الوعي إلا إذا استدعت الضرورة أن تعيرها انتباهك، كما حدث عند ذكر اسمك على سبيل المثال. وقال شينكر: "إن الدماغ تعتني بالكثير من الأمور التي ربما ترغب في معرفتها فيما بعد." وأوضحت تجارب شينكر أن دماغ أغنس تجمع العناصر معًا ويمكنها استخدام هذه المعلومات، ولكنها لا تُرسل إلى منطقة الوعي. ويقول شينكر: "وبما أن أغنس لا تواجه مشاكل في حياتها اليومية، فهذا يدل على مدى قدرة الدماغ على معالجة الأشياء لاشعوريًا، من دون أن تحتاج أن تعي هذه الأمور". وتابع شينكر: "هذه الحالة هي أفضل تجسيد صادفته في حياتي لهذا المفهوم". تقول كيرستن دالريمبل، التي تدرس الإدراك بجامعة مينسوتا، بمدينة مينيابوليس، إن هناك الكثير من الأمثلة المحيرة التي تبين لنا كيف تعالج أدمغتنا المعلومات من دون أن نعي ذلك. ومن هذه الأمثلة، قدرة المصاب بالعمى القشري على الاستجابة للمنبه البصري من دون أن يدرك أنه يراه. فعلى الرغم من أن المصابين بهذه الحالة عُميان، إلا أنهم يمكنهم تفادي العوائق أثناء السير، وتخمين العنصر الذي تقدمه لهم بدقة، وليس من قبيل المصادفة فحسب. ويعزى ذلك إلى أن انعدام الرؤية في هذه الحالة ليس ناتجًا عن خلل في العينين، بل بسبب مشكلة في معالجة الرؤية في المخ. فبينما لا يدرك المصاب بهذه الحالة أي شيء أمامه، إلا أن عينيه السليمتين تمرران المعلومات إلى العقل الباطن (اللاوعي)، الذي يعالجها بدوره ويستعين بها في توجيه سلوكه. كما يضرب لنا الأشخاص المصابون بمتلازمة الإهمال النصفي، مثالًا مهمًا آخر في هذا الصدد. إذ لا يدرك هؤلاء الأشخاص إلا جانبًا واحدًا من العالم، بسبب تلف خلايا أدمغتهم. فإذا عرضت على أحد المصابين بمتلازمة إهمال الشق الأيسر صورة منزل وقد نشب حريق في النصف الأيسر منه، سيقول: "أرى منزلًا". ولو عرضت نفس الصورة ولكن في هذه المرة كان الحريق في النصف الأيمن من المنزل، سيقول: "أرى منزلًا يحترق". في حين أنك لو عرضت عليه صورتين لمنزلين متطابقين، أحدهما لا يحترق والآخر نشب الحريق في الجزء الأيسر منه، وسألته في أي المنزلين يود أن يسكن، فسيختار المنزل السليم، وهذا يعني أن الدماغ عالج الحريق على مستوى اللاوعي، على الرغم من أنه لا يمكنه استحضار هذه المعلومات عن قصد. وعلى عكس المصابين بمتلازمة الإهمال النصفي، يستطيع المصابون باضطراب "العمه الترابطي" أن يروا جانبي العالم، ولكن لا ينتبهون إلا لجزء صغير منه. وتسمى دالريمبل ذلك "نافذة الانتباه"، ولكل منا نافذة انتباه خاصة به. فإذا كنت تسير في شارع مزدحم، مثلًا، ستتسع نافذة انتباهك لتدرك الكثير من الأشياء التي تدور من حولك، ولكن إذا لاحظت فجأة وجود سنجاب بين قدميك، ستضيق نافذة انتباهك لتركز على الحيوان، وهنا ستتلاشى كل جوانب الشارع الأخرى في الخلفية. وهذه الحيلة يستعين بها السحرة لإخفاء الأشياء، فهم يحولون انتباهك من المشهد بأكمله إلى جزء صغير بطقطقة أصابعم أو بالتلويح بالعصا السحرية، في حين يزيلون الشيء المراد إخفاءه إلى خارج دائرة انتباهك. ومع أنه ليس من الواضح أي جزء تحديدًا من المخ يتحكم في نافذة الانتباه، إلا أنه يبدو أن الأمر يتطلب تواصلًا جيدًا بين الفص الجداري والفص القذالي (القفوي) في الدماغ. فهذه المناطق هي المسؤولة عن معالجة العناصر والحركات وفهم العلاقات المكانية. وقد أصيبت مريضة من بين المرضى الذين كانت تعالجهم دالريمبل باضطراب العمه الترابطي بسبب إصابة بليغة في هذه المناطق من الدماغ، ومع تعافيها من هذه الإصابات، اتسعت نافذة انتباهها وتحسنت حالتها. من الصعب معرفة ما إن كانت أغنس كانت تعاني من هذه الحالة منذ الصغر أم أن هذه الحالة طرأت في مراحل متقدمة من العمر. يقول شينكر إن نتائج مسح الدماغ تبين أن أغنس لا تعاني من مشاكل ذات بال في الدماغ، فيما عدا بعض الضمور في الفصوص القذالية، التي ربما تشير إلى بداية مرض ألزهايمر وقد تكون أسهمت في إصابتها بهذه الحالة من العمه. ولا أحد يعرف كيف انتهت قصة أغنس، إذ بعد بضع جلسات، توقفت عن حضور اختبارات المتابعة، وقالت أغنس: " أعتقد أنني لا أعاني من أي شيء، ولا أعلم لماذا تثيرون كل هذه الجلبة!". يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع .BBC Capitalعالم غير مرئي
شعوريًا أم لا شعوريًا
انتبه! حريق!
- آخر تحديث :
التعليقات