في أحد الفيديوهات التي انتشرت في اليوم العالمي للمرأة، تظهر مجموعة كبيرة من النساء الجزائريات، شابات ومتقدمات في السن، يمشين معا في شارع ديدوش مراد، باتجاه مبنى البريد المركزي في العاصمة الجزائر، وهن يرددن "يا للعار يا للعار.. النساء تحت الحصار"، وغيرها من شعارات الحراك الشهيرة الرافضة للوضع السياسي.
رغم خلوّ ساحات معظم الدول العربيّة من التجمعات في ذاك اليوم بسبب الوباء، أرادت جزائريات التمسّك بما أصبح تقليدا منذ عامين: الخروج إلى الشارع للتجمّع والسير معا والهتاف وترديد شعارات تذكر بمطالبهنّ.
ابنة مدينة قسنطينة، أمال الحجاج، كانت من بين النساء اللاتي خرجن في مظاهرة 8 مارس/آذار. هي في الرابعة والثلاثين من العمر، تعيش في العاصمة الجزائر، وكانت قد درست الطب لكنها قررت العمل في مجال المشاريع التوعويّة، وتعرف عن نفسها بأنّها: مناضلة نسوية.
تقول لبي بي سي عربي "اشتقنا للميدان؛ فنحن - كشابات - خرجنا (مؤخرا فقط) من مرحلة سكوت استمرت عشرين سنة، ومن مرحلة العمل بالخفاء".
فقبل عامين، شاركت أعداد كبيرة من الجزائريات في الحراك الذي انطلق يوم 22 شباط/فبراير 2019، وأطاح بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وكانت بعضهن غير معتادات في البداية على الوجود في الفضاء العام، فكن يغطين وجوههن بالأعلام ويبتعدن عن الكاميرات.
"قبل الحراك، كان العمل النسوي يتم بسريّة، أو كان هناك عدم ظهور إرادي بسبب التخوّف من استهداف النسويات. وكانت نسويات الجيل الجديد مستقلات عن النسويات الرائدات من الأجيال السابقة، لكننا اجتمعنا مع بداية الحراك وتعرفنا على بعض"، كما توضّح أمال.
ونتيجة لهذا اللقاء، تكوّن في ربيع عام 2019 ما بات يعرف بـ"المربع النسوي" في الجزائر.
ويشير هذا المصطلح المحليّ إلى الهيكل المؤلف من الجمعيات والذي يشغل مساحة مربّعة في الساحات المعروفة.
"اكتشفنا أشياء عظيمة غير معروفة عنهنّ"
عندما التقت الناشطات النسويات الشابات مع رائدات الحركة النسوية في الجزائر، تفاجأن بأنهن لم يكن على معرفة بمسيرتهنّ التي امتدت عقودا من الزمن، فكانت تلك اللقاءات الشخصية فرصة لم تتح للشابات من قبل للتعرف على تاريخ الحراك النسوي غير الموثّق.
وتصرّ أمال على كلمة "تعتيم" لوصف التعامل الرسمي مع الحراك النسوي.
وتوضّح وجهة نظرها قائلة إن "أغلب الجمعيات (النسوية) موجودة منذ التسعينيات، جربوا وابحثوا عن أي شيء يتعلق بمطالب النسويات، ولن تجدوا شيئا أبدا. كل ما سنجده هو أن نتائج نضالهنّ، كبعض القوانين التي تغيّرت، إما منسوبة لبوتفليقة، أو للمعارضة. علما أنهن كن يتحركن وحدهن وبإمكانياتهنّ".
وتضيف: "الجزائر، مثلها مثل بقية الدول العربية يختار النظام فيها أيقونة، ويقول إن المرأة الجزائرية عظيمة، في حين أنه يعتّم على آلاف النساء. ونشر مقال واحد أو اثنين عن هؤلاء النساء لا يلغي حالة التعتيم".
لذا كان موضوع "محاربة التعتيم والتهميش" واحدا من النقاشات الجارية منذ بداية الحراك، ورُفعت أثناء المظاهرات لافتات عليها أسماء وصور مناضلات جزائريات بهدف التعريف بهنّ، كما ظهرت عدة محاولات لتوثيق الحراك النسوي وإنجازاته.
كانت سارة رزيق، ذات الـ27 عاما والحاصلة على ماجستير في الأدب الإنجليزي، قد انخرطت منذ بدء الحراك بالنشاط النسوي وركزت جهدها على ترجمة مقالات للتعريف بالمرأة الجزائرية وبتأثيرها على مسار تاريخ الجزائر، بعيدا عن "الأدوار الأمومية" التي غالبا ما يركّز عليها عند الحديث عن المرأة الجزائرية.
تقول سارة، التي نشأت في عنّابة شرقي الجزائر: "اكتشفنا أشياء عظيمة غير معروفة عنهنّ ولا نزال نحاول البحث أكثر".
"أكثر ما فاجأني هو المحاولة المتواصلة أيام الثورة للتعريف بالمناضلات، مثل جميلة بوباشا وجميلة بوعزة وغيرهنّ. كثيرات هنّ غير معروفات محليا، في حين حظين بصدى عالميّ، مثل جميلة بوباشا. كانت الناس تتفاجأ وتقول 'هل فعلا هناك مصادر موثوقة تثبت ذلك؟ '".
تقارب بين أجيال النسويات بفضل الحراك
تتذكر أمال كيف بدأ التقارب واللقاء بين أجيال النسويات المختلفة في أول يوم عالمي للمرأة بعد أسابيع على بدء حراك 2019؛ إذ رفضت النسويات تحييد المطالبة بحقوق المرأة، ردا على دعوات للتركيز على المطالب السياسية فقط، وخرجت النساء معا في أول "مربع نسوي" - رغم أنه لم يكن قد أطلق عليه هذا الاسم بعد.
وبعد تلك المسيرة بأسبوع، وتحديدا يوم 16 مارس/آذار 2019، عُقد اجتماع تأسس خلاله "المربع النسوي" أي مجموعة تضم الجمعيات المعنية، قديمة كانت أم جديدة، بهدف تنظيم المطالب النسوية وسط الحراك الشعبي، لتفادي تكرار سيناريو "تهميش مطالب الجزائريات".
تقول أمال حجاج: "في كل النضالات منذ الاستقلال، كانت تُطمس مطالب النساء. يوم 8 مارس 2019، مشت مجموعة نسوية كبيرة وكان هناك تعتيم كبير من طرف الإعلام ومن طرف بقية المناضلين. لذلك، وفي اجتماع 16 مارس قررنا أن مطالبنا يجب أن تظهر، وقررنا أن نلتقي ونمشي معا كمجموعة نسوية مع بقية الشعب ليتعرفوا علينا. وهكذا تكوّن مربع نسوي في الجزائر العاصمة وفي وهران وتيزي وزو وبجاية؛ بعضها يخرج في كل أيام الجمعة وبعضها يخرج في مناسبات تخص المرأة".
وتقول المترجمة الجزائرية، سارة رزيق، إن "الكل أصبح يعرف المربع النسوي" وسمع بنشاطاته المختلفة، كما تصف هذا التجمّع بأنه "غير نخبويّ" فإلى جانب المحاضرات المتنوعة المتاحة للجميع، تصمم برامج الجمعيات لدعم النساء المتضررات بالدرجة الأولى.
تخبرني سارة عن الخدمات التي قدّمتها جمعيات "المربع النسوي" مثل إنشاء دور رعاية للمعنّفات، وبرامج مساعدة المطلقات والناجيات من العنف المنزلي ومن الاغتصاب، إلى جانب تقديم استشارات نفسيّة للناجيات.
وكما أصبح معروفا، تزايدت حالات العنف المنزلي ضد المرأة في كل أنحاء العالم خلال وباء كورونا، لذا ازداد أيضا عمل الجمعيات النسوية في الجزائر لمساعدة المعنّفات.
ووضع "المربع النسوي" ستة مقترحات لحماية المرأة، وتقدّم بها لهيئات المجتمع المدني وللحراك ولمؤسسة الدولة، وهذه المقترحات هي: آليات للتبليغ السريع عند التعرض للعنف؛ ضمان حماية النساء واستجواب ومراقبة المعتدي؛ مرافقة النساء للملاجئ؛ إلغاء قانون الأسرة ووضع إطار قانوني ضد العنف؛ محاربة أسباب العنف من أساسها؛ العمل على تدريب رجال الشرطة والقضاء والصحة على التعامل مع حالات العنف ضد المرأة، وفقا لأمال حجاج.
إلغاء قانون الأسرة لايزال "الأولوية"
أحد شعارات "المربع النسوي" التي رفعت يوم المرأة العالمي هذا العام كان إلغاء قانون الأسرة وجعله مدنيا، علما أن هذا القانون وضع عام 1984 وعدّل عدد من مواده أكثر من مرة.
وهذا المطلب ليس بالجديد، بل هو من أقدم مطالب الحراك النسوي في الجزائر.
تقول سارة "أولويتنا هي ضرورة إسقاط القانون بشكله الحالي"، وتذكر أمثلة على المواد الإشكالية مثل المادة (11) التي تنص على ضرورة وجود وليّ كي تتزوج المرأة؛ والمادة (7) التي تسمح للقاضي بتزويج الفتاة تحت عمر 19 "لمصلحة أو ضرورة" رغم أن القانون الجزائري يمنع تزويج القاصرات.
وعند سؤالها عن مدى واقعية تحقيق مطلب مثل تحويل قانون الأحوال الشخصية، المستند إلى الشريعة الإسلامية، إلى قانون مدني، أجابت: "دائما حاولوا إحباطنا وقالوا إن مطالبنا غير منطقية لأن المجتمع محافظ. لكن أكثر من قانون أُسقط تحت ضغط النسويات، كما أقرت قوانين مثل قانون حق المرأة الجزائرية في منح جنسيتها إلى أولادها (2005)، وقانون معاقبة التحرش (2015)".
أما أمال حجاج فتقول إنها تطالب بوضع قوانين مدنية مثلما كان الحال في الفترة التي تلت الاستقلال (1962-1984): "قانون الانتخاب يعترف بمواطنة المرأة التي يكفلها الدستور، والمرأة تدفع الضرائب وأجور النقل وإيجار البيوت مثلها مثل الرجل. وحده قانون الأسرة لا يعترف بالمرأة كمواطنة".
التعليقات